يتلهف الجمهور التونسي هذه السنة لمشاهدة مسلسل “حرقة” في جزئه الثاني خلال شهر رمضان، الجزء الأول من العمل كان قد تحصل على الجائزة الأولى في المسابقة المخصصة للمسلسلات الاجتماعية في الدورة 21 للمهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون، هذا المسلسل يتناول ظاهرة “حرق” قوانين التنقل “الشرعي” بين بلدان إفريقيا نحو أوروبا، ومع ضحالة إنتاجات تلفزية أخرى من ناحية المحتوى، تأمل النخبة؛ بل تثق في قدرة طاقم العمل على نقل وافٍ لواقع بلدهم الذي ساهم في تفاقم هذه الظاهرة خلال العشرية السوداء الأخيرة؛ فتونس التي من المفترض أن تكون شرطي حدود لأوروبا لم تعد قادرة على لعب هذا الدور، لكن حرفية وجدية المخرج لسعد الوسلاتي وفريقه كان قادرًا على وضعنا إزاء نوع جديد في إنتاجات الشاشة الصغيرة؛ المسلسل التوثيقي، متجاوزًا قدرة المسلسلات التقليدية على مدنا ببعض المعلومات العامة على ظواهر اجتماعية أو أحداث تاريخية.
فأي عمل فني اجتماعي هو أولا وثيقة إنسانية حضارية تعطي صورة عامة على وضعية تتشابك فيها القضايا، لكن بعض الظواهر تأبى أن تتأثر بذاتية الفنان أو برأيه الخاص، منها ظاهرة سوء معاملة اللاجئين غير الشرعيين المقيمين مؤقتا في مراكز الإيواء، أو ظاهرة الهجرة غير الشرعية عموما. هذه الظاهرة طرحها مسلسل الحرقة بشكل واقعي وموضوعي ينقل أحداثًا مأساوية حقيقية احتضنتها مراكز إيواء، هي الأكبر في أوروبا.
في ظل عجز دول الجنوب عن الدفاع عن مصالحها يتنامى توحش النظام وتحكم دول الشمال سيطرتها على اقتصاد وثروات بقية الدول (اتفاقيات تعاون غير متوازنة، رخص تنقيب، قروض مشروطة وبفوائد…). تضاف إلى ذلك الصراعات المحلية فتسوء ظروف العيش وتتفاقم ظاهرة الهجرة. هذه الظاهرة المتنامية هي عبارة عن مسيرة عذاب خوف، وأحيانًا تشرد يعيشها المهاجرون /ات. هذه الرحلة قادرة على أن تكون المادة الأولية في أعمال إبداعية.
هنا محاولة لتبين ظروف رحلة السعي إلى حياة جديدة ولإماطة اللثام عن ظلم النظام الاستغلالي لمفقري البلدان المهمشة.
أسباب ومظاهر انفجار الظاهرة
ترتقي الهجرة غير الشرعية إلى ظاهرة عالمية، كانت ولازالت محل جدال على جميع المستويات، تعاني الكثير بل أغلب بلدان القارة الإفريقية العجز الاقتصادي الذي يحقن الوضع الاجتماعي؛ فيجبر الكثيرون على الرحيل نحو الشمال؛ الجنة الأرضية المشتهاة. أما استطلاع حال البلدان العربية بعد العشرية الأخيرة فلا يتطلب الكثير من الجهد ولا من الوقت للإحاطة به باستفاضة وبدقة، هي أسباب الموت والفقر والجوع واستحالة الهجرة الشرعية التي تدفع هؤلاء البشر من الدرجة الثانية دفعًا نحو مصير مجهول، هذا المصير تتساوى فيه فرص النجاة والموت، لكن تجبر عليه غريزة البقاء التي تتساوى تحتها الهويات والأجناس والأعمار والمستويات الثقافية، يغذيها إغواء الحياة الكريمة والمترفة.
وإن لم تكن تونس حديثة العهد بظاهرة الهجرة؛ فإن وتيرة هذه الظاهرة ارتفعت بشكل رهيب حتى أصبحت أخبار انتشال جثث ” الحراقة ” من الأحداث اليومية. المعطى الجغرافي الخاص بالمسافة القريبة الفاصلة بين نقطتي تونس وإيطاليا لا يمكن إلا أن ينمي هذه الظاهرة، ويقطع المهاجرون غير الشرعيين آلاف الكيلومترات ليعبروا أخيرًا المجال الليبي ومن ثم التونسي ويتسللون عبر الحدود البحرية خلسة. وما يلفت الانتباه هو أنه في السنوات الأخيرة خسر التونسيون احتكار تنظيم هذه السفرات عبر البحر وأصبحنا نتحدث عن أفارقة. لكن توجد عامة في أربع نقاط للولوج إلى أوروبا، وهي إيطاليا اليونان مالطا وقبرص.. حتى إن السلطات التركية، حين تريد الضغط على الاتحاد الأوروبي لتفتح حدودها للاجئين. فتستقبل اليونان أيضا قوارب مطاطية وخشبية ناقلة أعدادًا قياسية من المهاجرين، يصل نصفهم تحديدًا إلى مركز موريا في جزيرة لسبوس، ويطلق عليه اسم النقطة الساخنة؛ حيث إن المنظمات الحقوقية تكافح من أجل الحد من معاناة اللاجئين. كما توجد في مالطا عدة مراكز إيواء منها مركزا هال فار والمرسى؛ تشكو جميعها من الضغط والاكتظاظ الشديدين، بسبب عجزها على استقبال المزيد من اللاجئين، يضطر هؤلاء إلى العيش في الشارع دون مأوى، أما نقطة قبرص فقد أقبلت في السنوات الأخيرة على مرحلة جديدة بعد وصول مئات اللاجئين على شواطئها؛ فتنطلق الزوارق من تركيا وترسو على شواطئ قبرص، ويوجد مركز الاستقبال الذي يعاني نفس ظروف الاكتظاظ غرب العاصمة.
هذه الأعداد المهولة من المهاجرين من مختلف البلدان لا يمكن أن تتورط في رحلة إعادة البعث هذه، المحفوفة بالمخاطر إذا استشعرت ولو بصيص أمل خافت في بلدانها الأصلية. ما يقومون به يتطلب نفس شجاعة / يأس المقبلين على الانتحار. ومهما حاولت الجهات الرسمية ادانتهم أو مهما حاول البعض اتهامهم بالتسرع فإن قضيتهم العادلة يجب أن تؤرق كل البشرية!
حوادث متشابهة في أزمنة وأمكنة متباعدة تحاكي أحداث المسلسل
كثيرة هي حوادث غرق المراكب الناقلة للاجئين القادمين من بلدان الجنوب إلى الشمال، تتلاطم على إثرها الأمواج جثث الغارقين الذين تستقر أحلامهم البسيطة في عمق البحار. تنظم هذه الرحلات عشوائيًا في مراكب صغيرة تفتقد لأبسط قواعد السفر الآمن ولاحتياطات السلامة؛ فبمجرد إحصاء عدد الجثث التي يلفظها البحر تعتقد السلطات الإيطالية في قدرتها على تقييم حجم الكارثة، وما ذلك سوى تقييم تقريبي لأن الأسماك يمكن أن تتسبب في اختفاء الجثث، ولأن الأمواج قد تتلاعب عشوائيًا ببعضها حسب نزوات الرياح. أما الرحلات المنطلقة من تونس؛ فإن القارب إذا نجح في تجاوز السلطات التونسية والخروج من المجال البحري التونسي، وعبور المياه الإقليمية ومن ثم الدخول إلى المياه الإيطالية؛ فإن جزيرة لمبدوزا هي التي تستقبل المغاربة والأفارقة بغير أيد مفتوحة ولا ترحاب حار، تحتوي هذه الجزيرة على مركز استقبال وإيواء. وتستقبل أسبوعيًا عشرات المراكب المحملة بمئات المهاجرين.
يعاني مركز لمبدوزا دائما من الضغط بسبب استقباله لعدد من المهاجرين يفوق بكثير طاقة استيعابه. في هذا الإطار يؤكد الناطق الرسمي للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين أن عدد المهاجرين مرتفع جدًا، وهذا الوضع المزرى يحول دون حسن التكفل بهؤلاء وتقديم العناية والإحاطة اللازمتين لهم؛ بل ولا حتى توفير الحاجيات المعيشية الأساسية، هو وضع أشبه ما يكون بمعسكرات الاعتقال في الأنظمة الشمولية حسب قول رئيس بلدية الجزيرة نفسه.
لكن رغم ذلك لم تتخذ في هذا الشأن الإجراءات اللازمة؛ مع استمرار هذه الظروف أدى إلى حدث ارتقى إلى مستوى الفضيحة؛ ففي 2013 نقلت التلفزة الوطنية الإيطالية الثانية حادثة مشينة ومخزية للنظام الإيطالي؛ إذ سرب أحد اللاجئين السوريين (كان يقيم حينها بالمركز منذ 65 يومًا) صورًا تبين مجموعة من الرجال والنساء العراة تمامًا، تتم معالجتهم برش مادة معقمة عليهم بشكل جماعي في فضاء مفتوح وأمام أنظار الحرس والعاملين بالمركز، سبب حملة التعقيم هي اصابة جماعية بمرض معد (جراء إقامتهم بالمركز). وشكلت الصور صدمة هزت الرأي العام الإيطالي الذي اعتبر الحادثة مساسًا بحقوق الإنسان. أما مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فقط طالبت بتفعيل إجراءات طارئة لتحسين شروط الاستقبال.
أما موقف مدير التعاونية القائمة على إدارة هذا المركز فقد كان الموقف الأضعف والدليل الأقوى على تردي وضعية المهاجرين؛ إذ حسب شهادته استقبل المركز 3 مراكب نقلت 104 أشخاص، وقد تعلقت بهم شبهة الإصابة بداء ما، وباعتبار حجم العدد فإنه لم يكن من الممكن معالجة الجميع حالة بحالة، كما يدعي أن اللاجئين هم من قرروا نظرا لنفاد صبرهم التعري.
شهد مركز جزيرة لسبوس في اليونان حادثة مثلت هي الأخرى إحدى أكبر عناوين الصحف؛ فيشتكي هذا المركز من نفس المصاعب التي يواجهها مركز لمبدوزا؛ ففي سبتمبر 2020 التهم حريق ضخم المركز الذي يعد أكبر مركز في أوروبا، وأصبح أكثر من 12 ألف لاجئ بدون مأوى، فاضطر هؤلاء وأغلبهم من إفريقيا وأفغانستان إلى العيش في العراء ومكابدة ظروف قاسية، وبعد أن أنهكهم الجوع تظاهروا مطالبين بالسماح لهم بمغادرة الجزيرة، فحاول بعضهم السير على الطريق الذي يؤدي إلى ميناء متريني بالجزيرة. هذه الطريق كانت الشرطة قد اغلقتها عند استئناف السلطات أشغال بناء مخيم جديد واقع على مسافة قريبة من المركز القديم، وأدى ذلك إلى اشتباكات بين قوات الشرطة والمهاجرين تسببت في حالة احتقان كبيرة.
إن مختلف المؤسسات النظامية كالاتحاد الأوروبي منظمات وهيئات الأمم المتحدة على علم بظروف الإقامة في مراكز الاستقبال، الحوادث الفاضحة فقط هي التي تجعل بلدان الاتحاد تبحث عن حل، لكن هذا الحل لا يعد أن يكون أكثر من بعض الإجراءات الإصلاحية الوقتية والجزئية.
الرد الأوروبي
إن التعامل مع ظاهرة الهجرة غير الشرعية يجب أن يدرس مرحلة بمرحلة:
- مرحلة أولى تخص الاستقبال وظروف التكفل بأشخاص كتبت لهم ولادة ثانية.
- مرحلة ثانية ألا وهي سياسة البلاد تجاه الظاهرة؛ ففي مرحلة الاستقبال تعتبر المنظمات غير الحكومية الأجدر بالثناء على المجهود الذي تبذله طواعية والذي يصل بها إلى حد التوغل في البحر في مسعى لإنقاذ تائهين. كما آن جهود المفوضية السامية لحقوق الإنسان جديرة بالشكر إلى حد ما، باعتبار أن المفوضية كانت تستغل كل فرصة لإدانة ظروف الإقامة وللمطالبة بتدعيم الموارد لضمان خدمات أوفر وأنجع، أما السلطات الرسمية فإن بيروقراطيتها المتقاعسة في دراسة ملفات الهجرة لا تدل إلا على احتقار ونية رفض لهؤلاء القادمين من وراء البحار لإزعاج رفاهية الرجل الأبيض.
أما المرحلة الثالثة فتخص سياسة الحكومات، بشكل يسمح بالتحدث على وجود انقسام بين الشرق والغرب في التعامل مع ملف الهجرة. لكن تشترك أغلب السياسات في خطاب تحذير من تبعات أمنية محتملة بل مرجحة جراء استقبال المهاجرين. أعلنت مؤخرًا المفوضية الأوروبية عن ولادة ميثاق جديد حول الهجرة واللجوء والذي سيستبدل ميثاق دبلن المتعامل به حاليًا؛ فبعد مرور 5 سنوات على أزمة اللاجئين عام 2015 يعرض الاتحاد من عاصمته بروكسل مشروع إصلاح سياسة الهجرة. وحسب المفوضية الأوروبية، يهدف الميثاق الجديد إلى تخفيف الضغط عن دول الدخول إلى الاتحاد الأوروبي، أي نقاط الوصول الأربع الأولى إيطاليا اليونان مالطة وقبرص. ويتضمن دعوة إلى تضامن إنساني لمواجهة هذه الظاهرة. وتقوم الخطة على مزيد تفعيل آلية رفض اللجوء وترحيل اللاجئين إلى مواطنهم.
فالحل الوحيد هو إعادات سريعة ومكثفة، ويفترض هذا الإجراء تسريع البت في طلبات اللجوء لتجنب المخيمات المكتظة تحت” ذريعة تفادي تكديسهم في المخيمات وتعرضهم إلى ظروف مسيئة لكرامة الإنسان وحتى خطيرة على حياتهم وأمنهم.
إن إجراءات مثل هذه قد تكون مريحة للطرف الأوروبي وتجنبه عناء التكفل بالمهاجرين وإدماجهم في المجتمعات الأوروبية، لكنها بعيدة عن إمكانية حلحلة الوضعية بشكل جذري. إذ أن محاولات الهجرة لن تتوقف مالم تنته دوافعها الأصلية والظروف المادية والموضوعية التي أوجدتها.