في الآونة الأخيرة، تم تسييس المناقشات حول سمات الشخصية الروسية والأوروبية، وخاصة الاختلاف بين العقليتين. لذلك، يصعب على مواطني روسيا مثلاً الذين يسافرون إلى أوروبا تكوين رأي موضوعي حول مدى اختلاف عقلية الشخص الروسي فعليًا عن العقلية الأوروبية، وفي أي البلدان يكون من الأسهل التعود على الحياة المحلية.
يعتقد الروس والأوكرانيون أنهم على يقين من أنهم يعرفون كل شيء عن العقلية الغربية، ومع ذلك، فمن الناحية العملية، غالبًا ما يتبين أن هذا ليس هو الحال، وأن ثقة الروس والأوكران بأنفسهم حول هذا الصدد هي محض مزحة قاسية.
وهُنا يجب أولا تركيز الضوء عما يراه المواطن الروسيّ عن نفسه.
يعتبر الروس أنفسهم أمة متعلمة جيدًا، لقد قرؤوا كثيرًا، وسوف يندهشون جدًا إذا أخبرتهم في يوم أنك لم تقرأ بوشكين أو تولستوي! ومن المتعارف عليه أن الكتب في روسيا رخيصة، ويمكن لمعظم الناس شراء من 5 إلى 10 كتب شهريًا دون إلحاق أضرار جسيمة بميزانية الأسرة، والروس مغرمون جدًا أيضًا بالعروض الحية في المسرح، وبما أن التذاكر ميسورة التكلفة (الأسعار في دور السينما والمسارح قابلة للمقارنة)، فنجد توافر كثير من الخيارات للجميع، بما في ذلك الأوبرا والحفلات الموسيقية السيمفونية والمسرحيات الموسيقية والباليه والدراما.
وحسب ما تؤصله الأكاديميات الروسية عن الدول ذاتها، فإن الثقافة الروسية غير فردية، وقوة الفرد في روسيا أقل بكثير مما هي عليه في الغرب، ومعظم العلاقات والتعاملات تنصبّ حول العائلة والأصدقاء والمعارف، وهناك مقولة روسية شهيرة تقول: “ليس المرء وحده جنديًا في ساحة المعركة”، وهنا يرى الروسيّ أنه من الضروري معرفة الأشخاص في السلطة لإنجاح الأمور، وهذا هو السبب في أن الروس يحافظون على صداقات أكثر من الغرب العادي، إذا كنت تعرف الأشخاص المناسبين في روسيا ، فيمكنك تنفيذ المهام الأكثر صعوبة بقليل من الجهد.
ويعتبر غالبية الروس أنفسهم مسيحيين ينتمون إلى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، ويرى العديد من الروس أن هذا إنجاز عظيم لبلد كان الإلحاد فيه الدين الرسمي للدولة لأكثر من 70 عامًا. ومع ذلك، فإن الدين ليس جزءً حقيقيًا من حياتهم، يهتم الروس بالفلك والأبراج أكثر من اهتمامهم بالكتاب المقدس، وعادة ما يذهب الناس إلى الكنيسة لمجرد “إضاءة شمعة” والصلاة بسرعة حينما يطلبون الأشياء؛ كالنجاح في الاختبارات بالنسبة إلى الشباب، أو نجاح الصفقات التجارية بالنسبة للكهول، أو لتذكر شخص مقرب مات. فلا يتعين على الناس أن يكونوا أعضاء في الكنيسة للقيام بذلك ولا يقدمون مساهمات شهرية للكنيسة، ومن المعروف أن مصادر دخل الكنائس الروسية تأتي عن طريق بيع الشموع وملفات التذكير وفرض رسوم على الخدمات مثل المعمودية وحفلات الزفاف والجنازات، إلا أنه في نفس الوقت زواج الكنيسة ليس رسميًا في روسيا، فيتعين على الزوجين تسجيل زواجهما لدى السلطات الحكومية قبل السماح لهما بإجراء مراسم الكنيسة.
الرعاية الصحية والتعليم مجانيان في روسيا، على الرغم من أن الروس يمزحون أحيانًا في كون التعليم يصبح أقل وأكثر مجانية كل عام، إلا أنه لا يزال من الممكن الحصول على تعليم جامعي مجانًا من خلال اجتياز امتحانات القبول، لكن الجامعات تقلل عدد الطلاب الذين يدرسون مجانًا بسبب ضعف تمويل الدولة.
ونظرًا لأن كلاً من المرافق التعليمية والثقافية كانت متاحة على نطاق واسع، فيعتبر الروس أنهم أمة عالية الثقافة، معرفتهم العامة جيدة جدًا؛ فهم يعرفون القليل عن كل شيء تقريبًا. المدرسة الابتدائية والثانوية إلزامية لمدة 11 عامًا، وتشمل برنامجًا للتاريخ والأدب والموسيقى والجغرافيا، وكذلك دراسة لغة أجنبية، عادة الإنجليزية، تُدرس لمدة 6 سنوات، على الرغم من توافر الفرنسية والألمانية والإسبانية. تشمل دورات التاريخ التي يتم تدريسها التاريخ الروسي والأوروبي والأمريكي، ويتضمن كذلك الأدب المقروء مجموعة متنوعة من الآداب الأجنبية، بما في ذلك العديد من الكلاسيكيات الأوروبية التي تشهد حضورًا تاريخيًا وأدبيًا قويًا على غِرار تولستوي وبوشكين ودوستويفسكي، المنهج الروسي الرئيسي هو نفسه في جميع أنحاء روسيا، ولم يُسمح إلا مؤخرًا ببعض الدورات الاختيارية.
في امتحانات القبول في الجامعات والكليات، يمكن طرح أسئلة فقط من منهج المدرسة الثانوية العامة، تقبل الجامعات والكليات الطلاب وفقًا لنتائج اختبارات القبول هذه، وليس وفقًا لعلاماتهم في المدرسة، على الرغم من أن الحصول على درجات ممتازة يمكن أن يساعد على سبيل المثال، قد تضطر فقط إلى اجتياز امتحان واحد أو امتحانين بدلاً من الاختبار العادي.
يعد الحصول على شهادة جامعية أو التخرُج من الكُلية أمرًا شائعًا، وتتمتع روسيا بأعلى مستوى تعليمي في العالم (أكثر من 40٪ من إجمالي السكان حاصلون على شهادة جامعية أو جامعية) ، إلا أنه منذ البيريسترويكا وسياسات إعادة البناء بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، أصبحت منظومة التعليم الحالية (التعليم الجامعي) تتدهور ببطء إلى جانب نظام الرعاية الصحية، الذي كان ضمن أفضل الأنظمة الصحية العالمية. وتكمن مشكلة نظام التعليم الروسي في أنه كان دائمًا نظريًا وليس له علاقة بالممارسة. لذلك، من الشائع أن يعمل شخص حاصل على شهادة في الهندسة في المبيعات، أو شخص لديه خلفية كيميائية ليجد نفسه في مجال التسويق، كما أنه ليس من المفاجئ أن تعمل امرأة حاصلة على شهادة جامعية كسكرتيرة. كما أن الحصول على شهادة الدكتوراه في روسيا الآن لا يشكل صعوبة، وبالتالي فهي لا تمنح مزيات كبيرة لحامليها، في حين ستوفر لك المعرفة الجيدة باللغة الإنجليزية ميزة تنافسية أفضل. والمنصب الذي يشغله المرء في الشركات الروسية لا يُستمَد من قيمة الشركة نفسها، بل تُعتبر الشركات الأجنبية وحتى المنظمات العامة/ الخيرية الأجنبية الوظيفة المثالية والأفضل لكثير من الروس.
الثقافة الروسية غير فردية، وقوة الفرد في روسيا أقل بكثير مما هي عليه في الغرب، ومعظم العلاقات والتعاملات تنصبّ حول العائلة والأصدقاء والمعارف
من الناحية الفكرية، يعتبر الروس أشخاصًا مثيرين للاهتمام للتحدث معهم والاستمتاع بالمواضيع العميقة، ويرجع كثيرون هذه الميزة إلى اهتمام التعليم الروسي بمواد الفلسفة؛ إذ تُعَد مادة إلزامية في الجامعة وواحدة من المواد الثلاثة الإجبارية لامتحان الدكتوراه المؤهل (المواد الأخرى هي اللغة الأجنبية ومادة التخصص). الروس أيضا يرون أنفسهم مختلفين عن الآخر الأوروبي، ويتسمون بالذكاء والتعامل مع كافة المواقف بكافة درجاتها، فالصعوبات والمشاكل في الحياة أجبرتهم على أن يجدوا طريقًا ملتويًا لأي شيء، إلا أنه أفرز عدم احترام عميق للقانون من جانب كثير من المواطنين، وخاصة قواعد المرور، فيعتبر الروس من أكثر السائقين تهورًا، ولكنهم في نفس الوقت ماهرون في القيادة، وأكثر المشاة إهمالًا في العالم.
غالبية الروس -حسبما يعبرون عن اقتناعاتهم- ليس لديهم ما يُسمى بـ “الأخلاق الحميدة”، فروسيا بلد صعب وغير هين في مجال التعاملات، والروس عادة لا يترددون في قول ما يفكرون به بطريقة لا تترك مجالاً لأي سوء تفاهم، إلا أن الأخلاق الحميدة كما يُسميها الغرب كانت تُعَد سمتًا برجوازيًا تُميز المنتمين لهذه الطبقة، والروس واضحون جدًا ومباشرون في تعاملاتهم، عندما يجتمعون أو يتصلون ببعضهم البعض، ونادرًا ما يقضون الوقت في الإجابة على أسئلة مثل “كيف حالك؟” لكن لتذهب مباشرة إلى النقطة موضوع الحديث، وبالطبع يرفضون من يعتبر تلك الأمور وقاحة أو غيره، بل طريقتهم في التعاطي مع الأشياء والتي يجب أن تحظى باحترامٍ كبير.
الروس معتادون على المواقف التي يكون فيها كل شيء غير متوقع وغير مستقر، وعليهم التكيف مع القواعد والقوانين الجديدة بسرعة، وكان على الروس أن يقطعوا الرحلة الطويلة من السيطرة الكاملة للعهد السوفياتي إلى حالة عدم اليقين الكاملة للوضع الحالي. لقد تغيرت حياتهم بشكل كبير، وإذا كانت السعادة هي المعيار، فقد تغيرت الحياة بالتأكيد للأسوأ بالنسبة لكثيرين، فمثلا يشعر كبار السن بالحنين الشديد إلى الحقبة السوفيتية، عندما كان كل شيء مفهومًا ويمكن التنبؤ به ومستقرًا، فبغض النظر عن مواهبك أو مدى صعوبة عملك، لا يمكنك التفوق على الآخرين، وكان الجميع مطمئنًا إلى جميع ضروريات الحياة الأساسية: المنزل، والعمل، والرعاية الصحية المجانية، والسلع كانت بأسعار معقولة، بالإضافة إلى التعليم المجاني للأطفال، وكذلك الانضمام إلى المرافق الرياضية والثقافية.
أما في الوقت الحاضر، فقد الناس مزايا الدولة الاشتراكية، ولم يحصلوا بعد على مزايا الرأسمالية الغربية؛ فغالبية الشعب الروسي لا يفهم حقًا الاختلاف الكبير بين الحياة في روسيا والغرب، ولا يعتبر الروس حياتهم بائسة، إنهم يشعرون دائمًا أن الأمور تتغير نحو الأفضل وأن كل شيء سيسير على ما يرام لبلدهم.
ومن أهم المفاتيح التي تساعد على فهم العقلية الروسية، هو موقفهم تجاه القيم المادية؛ فيعتبرون أنفسهم مخلصين ووديين ومتفهمين وغير أنانيين، إنهم يحبون التحدث عن “تفاصيل الروح الروسية” أو “الروح الروسية الغامضة”، ويكررون العبارة المعروفة للشاعر الروسي الذي عاش في القرن التاسع عشر فيودور تيوتشيف، صاحب المقولة الشهيرة: “لا يمكن فهم روسيا بالعقل وحده، أو قياسها بالمقاييس، بروسيا ينبغي الإيمان فقط!
ويمكن إجمال صفات العقلية الروسية وفق مرآة الروس في الآتي:
- غالبًا ما يعتمدون على العاطفة بشكل أكبر من النهج العقلاني.
- الكثير من الروس يرون أن أسلوب الحياة الذي يتم قياسه وحِسابه غريب بالنسبة لهم، وبالتالي يتحدثون دومًا أن العطلة العفوية من أهم السمات التي تُميز الموظف الروسي.
- ندرة التخطيط للنفقات ولمعدلات الإنفاق خصوصًا أثناء الأزمات الاقتصادية.
- تتميز العقلية الروسية بالعاطفة، والروسي يشبع بسهولة بمشاعر الآخرين، ويعرف كيفية التعاطف.
- الروسي يمكنه مشاركة مشكلاته الشخصية مع الآخرين بسهولة.
- يمتاز الروس بالمرونة الكبيرة، ويمكنهم نسيان الشجار الكبير بعد المصالحة السريعة.
- غالبًا ما يُطلق على مواطني روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا في أوروبا اسم المحافظين، أي الذين يجدون صعوبة في إتقان التقنيات الجديدة، وبشكل عام، يعد التغيير في نمط الحياة أمرًا غريبًا بالنسبة للروس.
- يتميز الروس بما يُسمى بالامتثال الاجتماعي؛ أي لا يمكن لأحد أن يفكر فيهم بشكل سيئ، وإن انتقد أحدٌ روسيا فيكون الروسيّ نفسه لا غيره، أما خلاف ذلك فلا يسمحون لأحد بانتقاد أمتهم.
ومن هذا المنطلق، يمكن أن نستخلص ما يظنه المواطن الروسيّ كذلك عن العقلية الأوروبية:
- يرى الروسي، أن شعوب أوروبا تُفرِط في ثقتها وإيمانها بالمنطق والعقل.
- كذلك يرى الروس أن الغرب الأوروبي مُفرِط في تعامله مع الوقت/الجدول الزمني/المواعيد، وأنهم متحذلقون إلى الدرجة التي تجعلهم لإعداد الخطط لأشهر مقدمًا.
- يرون أن بعض شعب أوروبا في إيطاليا وفرنسا مثلا، لا يستطيعون حكي مشكلاتهم الخاصة والأسرية إلى الغُرباء على العكس من الروس.
- في أوروبا، يعرفون كيف يبقون على مسافة حتى مع الأصدقاء المقربين ولا يتحدثون عن مواضيع شخصية أمامهم أحيانًا.
- لا ينتقم الأوروبيون، ولكن بعد مشاجرة مع شخص ما، يمكنهم قطع العلاقات تمامًا دون إمكانية استعادتها.
- اعتاد الأوروبيون على استخدام نظام متطور للخدمات؛ فيضع الفرد بكل احتياجاته في قلب الحياة الاجتماعية.
- في أوروبا، الحداثة والتقنيات ذات أهمية كبيرة حتى لكبار السن، لأنهم ينظرون إليها كخطوة نحو تحسين نوعية حياتهم.
ومن المتعارف عليه أن السياسة قد أفسدت الكثير فيما يخص العلاقات الروسية مع الشعوب الأوروبية. كما أن ذكرى أنشطة الحكومة السوفيتية، الحرب العالمية الثانية، لا تزال حيّة في الأذهان.
فقد الروس مزايا الدولة الاشتراكية، ولم يحصلوا بعد على مزايا الرأسمالية الغربية
فنرى شعوبًا مثل اليونان، وإسبانيا، والبرتغال، وصربيا، وسلوفينيا، تتعاطى بشيء إيجابي، وترى الروسي مواطنًا جيدًا وقريبة من عقلياتهم غير المُنظمة في بعض الأحيان، وبالطبع جزء من ذلك يتعلق بحقيقة أنه لم تكن لدينا عمليًا أي نزاعات تاريخية روسية مع شعوب هذه البلدان، لذلك يُستقبَل دومًا الروسيّ في هذه الدول بترحاب كبير، كما أن العديد من الروس في العديد من التقارير الخاصة بالهجرة السكانية (تقارير immigrantinvest على سبيل المثال) يعبرون عن ارتياحهم ورضاهم بالمعيشة وسط مواطني هذه الدول الذي يشعرون تجاههم بتشابهات كبيرة.
وكذلك يشيع عن المواطن الروسي وسط مواطني دول المجر وبريطانيا والنمسا وهولندا وفرنسا أنه مواطن متسامح للغاية، ولا عجب أنه في هذه البلدان يعيش أكبر عدد من المهاجرين الروس.
وترى العديد من الأوساط الأوروبية -خصوصًا على المستوى البحثي والأكاديمي- أنه نادرًا ما تواجه روسيا فكرة أن المواطنين يجب أن يفعلوا شيئًا ما للمجتمع وأنهم سيحصلون على شيء ما، فقد يُكرِم الروس ممثليهم وشعراءهم أكثر بكثير مما يفعله الألمان، لكنهم يتبنون وجهة نظر متشككة تجاه الأشخاص المبدعين حقًا، الذين يحاولون، بطريقتهم الخاصة، دفع النقاش حول الاتجاه المستقبلي للبلاد، وبالطبع فالوجهة هذه والتناقض حول التعامل مع ملفات الإبداع يمثل مأخذًا على العقلية الروسية الحديثة، حسبما سنتحدث عن هذه النقطة فيما بعد.
وأكثر ما يحضر عن الشخصية الروسية في الأوساط الغربية هو حالة السلبية واللامبالاة بشكل غير سار مع الجبرية والخوف من المسؤولية، وتجعل من المستحيل بالنسبة لمعظمهم الوصول إلى جوهر الحقائق التاريخية، أي أن كثيرين غير مبالين بحقيقة أنه يتم بناء نصب تذكارية جديدة لستالين، ووصف أحد الصحفيين في موسكو الأمر بأنه يعادل قيام اليهود بإنشاء نصب تذكارية لهتلر، ويُلخِص حالة السلبية الروسية أحد مؤلفي الكُتُب عن العقلية الروسية والذي قال إنه يمكنك أن تسأل الروسي عن أحواله، فيقولك لك: الحياة صعبة، ولكنها محتملة.
كذلك يرى المواطن الغربي -في الأوساط الأكاديمية والاجتماعية على حد سواء- أن الديماجوجية والقبول بنصف الحقائق والأكاذيب من سمات العقلية الروسية والمواطن الروسي، ويرى الاجتماعيون والأنثربولوجيون الغربيون أنه نتاج للخوف من المسؤولية الشخصية، وتهميش الأشخاص الذين يفكرون بشكل مختلف، أو كذلك إفراط النظام في نشر المشاعر الدونية تجاه بقية العالم. ويرى الأوروبيون والأمريكيون أن الروس يجب أن يرفضوا مثلا التصورات والقيم، إلا أنهم في نفس الوقت لا يشعرون بارتياح حول إمكانية أن يتبنى الروسيّ تصورًا مخالفًا لهذه الوجهات، فقد استسلم الكثير منهم لديماغوجيا رئيسهم.
وفي دراسة مهمة جدًا أعدها جيرمان ديليجنسكي عالم السياسة الروسي الألماني بعنوان “الفرد في مجتمع ما بعد الاتحاد السوفيتي”، ذكر المؤلف ما يتصوره الأوروبيون عن الروس، حيث يرون أن الحقبة الروسية الحديثة -بعد سقوط الاتحاد السوفيتي 1990- وسياسات التصنيع الجديدة، والتحضر، والحراك الاجتماعي المتزايد، وإضفاء الطابع الفردي على الاستهلاك، ورفع المستوى التعليمي للسكان قد أدى إلى تدمير الروابط المستقرة بين الأفراد داخل المجموعات والبيئات الاجتماعية التقليدية (المحلية أو المهنية) في روسيا (كما هو الحال في أي مكان آخر في العالم)، والتي شكلت الأساس الاجتماعي والنفسي للثقافة والسلوك الجماعي الفاجع -حسب تعبير الكاتب- للاشتراكية الحقيقية، والتي تحولت إلى مرحلة الركود، خصوصًا بعد زيادة تشويه سمعة اليوتوبيا الشيوعية، ومن هُنا فقدت الأيديولوجية الجماعية جذورها بين الجماهير.
من الناحية الرسمية، ظلت الجماعية الاشتراكية هي الأيديولوجية الرسمية التي كان يُعرف بها الروسي في أوروبا، وهي القاعدة المؤسسية للعلاقات بين الناس، التي تفرضها السلطة التي لا تزال تتشبث بمطالبها، لكنها مثل القيم الرسمية الأخرى، استمرت في الوجود أكثر للعرض، فقد أظهر الإنسان السوفيتي توجهه الجماعي (إلى حد كبير في المواقف التي كان فيها تحت السيطرة المؤسسية)، بدلاً من قبولها كقيمة شخصية. وهنا فقدت الجماعية قوة التعبئة والتحفيز التي كانت تمتلكها في “العصر البطولي” للبناء الاشتراكي. لكن هذا لا يعني أنه لم يعد يلعب دورًا ذا أهمية ما في علم النفس الجماعي والفرد حاليًا، وليس من فراغ أن ينظر الكثير من الأوروبيين إلى المواطن الروسي المعتنق التوجه البوتيني المستمد من قيم الجمعانية السوفيتية.
إلا أن الكثير من الأوروبيين يظهرون بعضًا من الإعجاب نحو الشباب الروسي الذي يتميز بمستوى عالٍ من الاستقلالية فيما يتعلق بالمؤسسات الاجتماعية والاجتماعية، بخلاف الفرد السوفييتي، فكثير من الشباب الروسي حاليًا لا يلجأ إلى المجتمع وأعرافه، أو يلتزم بأصولياتهم، بل يعارض قواعدهم الخاصة والروح السوفيتية المنفتحة على “الغريب” -بالطبع الروسيّ الغريب فقط- بل أصبح لديه روابط اجتماعية وعاطفية ضعيفة خارج عائلته ودائرة أصدقائه، وأصبح كل ما هو اجتماعي ومؤسسي، كذلك كافة المُعممات بالنسبة له أجزاء من البيئة الخارجية، غير مبالٍ به أو معادٍ له أحيانًا.
ويُلاحظ الحديث بشكل كبير عن تناقض الرجل الروسي، والضعف الاجتماعي لرجل ما بعد الاتحاد السوفيتي المتعلق بالفردانية غير المجتمعية، ففي نظرهم أن الروسي أصبح قادرًا على حشد طاقاته الفردية والاعتزاز بحريته، إلا أنه يظل عاجزًا في مواجهة السلطة ورأس المال الكبير والجماعات الإجرامية؛ فهو منعزل وغير قادر على العثور على دعم من أمثاله، وغالبًا ما يخضع من خلال حالة الجمود المجتمعي لإغراء طلب هذه المساعدة من الدولة الراعية، حتى لو كان يعلم أن هذه الحالة لم تعد موجودة. وبالطبع يرون أن الكثير كذلك من الشباب الروسي لديهم قناعاتهم بأولوية الحرية الفردية، إلا أنها قناعة تثير الإعجاب شكليًا وظاهريًا، فهم في الوقت ذاته، يؤيدون عمليًا في نفس الوقت استبدال “الفوضى الديمقراطية” بالنظام الاستبدادي.
ما نجده هنا هو حديث غربيّ وأوروبيّ شائع عن التناقض، وهو سمة من سمات عقلية ما بعد الاتحاد السوفيتي، وكمفتاح لفهم عقلية الروسي بالنسبة لهم، والتي تسعى إلى الحفاظ على كل من الحرية وأشكال الأمان والحماية الاجتماعية التي لا تتوافق مع المعايير الواقعية، بتعبير آخر يعبر عن نفس التناقض، والذي تم الكشف عنه في الدراسة التجريبية التي أجراها “ف. لابكين“، حيث يتم تحفيز تسمية دور الدولة من خلال عدم قدرة الناس على الاتحاد للدفاع عن النفس كفاعلين اجتماعيين. وبهذه الطريقة، فإن التفكك الاجتماعي والنفسي للمجتمع يهيئ التربة للحكم الاستبدادي، دون انتباه الروسي المعاصر للعلاقة بين هذه الأنساق.
إلا أنه ثمة شكل آخر من أشكال الفردية التي لوحظت في الشباب الروسي -تحت سِن الثلاثين- والتي تثير إعجاب بعض الأوروبيين، وخاصة بين المديرين والموظفين في مؤسسات القطاع الخاص، حيث يتقاضى الشباب الروسي في الدول الأوربية رواتب عالية إلى حد ما، ويظهرون دافعًا واضحًا للإنجاز، أي أنهم يريدون كسب المزيد وتحقيق مستقبل مهني ناجح، ونظام قيمهم هو فرداني بشكل نموذجي، فهم يعتقدون أن الدولة يجب أن تترك مواطنيها وشأنهم، وأن تسمح لهم بفعل كل شيء ضمن حدود القانون، ولا ينبغي أن تمنعهم أو تأمرهم.
من الناحية الرسمية، ظلت الجماعية الاشتراكية هي الأيديولوجية الرسمية التي كان يُعرف بها الروسي في أوروبا، وهي القاعدة المؤسسية للعلاقات بين الناس
وكذلك هذا الشباب لديهم موقف إيجابي موقفهم تجاه “الشخص الآخر” فهم رغم انطباعهم بالطابع الليبرالي الأوروبيّ في الالتزام بمنع التداخل مع الآخرين الغُرباء، على عكس الروح السوفيتية والثقافة الروسية التاريخية، إلا أنهم لا يعتبرون غير مبالين بمشاكل الآخرين، على العكس من ذلك، فإن هؤلاء الشباب الميسورين لديهم قناعات قوية حول مشاكل العدالة الاجتماعية والتضامن، ويعتقدون أن الدولة يجب أن تساعد كبار السن والضعفاء، وأن المواطنين الميسورين أمثالهم يجب أن يدفعوا مقابل الخدمة الطبية وتعليم أبنائهم؛ بينما بالنسبة للفقراء يجب أن تكون هذه الخدمات مجانية ومضمونة من قبل المجتمع؛ متبنين مبدأ “تكافؤ الفرص”، ويستحسن الكثير من الأوروبيين مرونتهم في استعدادهم للتخلي عن نصيبهم من أرباحهم لدعم مواطنيهم الأقل حظًا.
ووفق لدراسة أجراها جاكوب بوشر ضمن إحصاءات ودراسات مركز Pew Research بواشنطن لعام 2016 فإن فقط 24 – 25% من الروس يرون الاقتصاد الروسي يقوم بالأداء بشكل جيد، ورغم التردي الاقتصادي وقلة المتعاطفين مع الإجراءات الاقتصادية، إلا أن نسبة المؤيدين للسياسة الخارجية الروسية والدبلوماسية الروسية وأداء بوتين بالنسبة للعلاقات الخارجية تصل إلى 70-80%، الذي بالطبع يفسر سبب كراهية غالبية الروس للولايات المتحدة الأمريكية، حيث أفرد المركز ذاته أن فقط 15% من الروس هم من يشعرون بانطباعات إيجابية تجاه الولايات المتحدة، و 12% لديهم إيجابية تجاه الناتو والاتحاد الأوروبي
والروس يحبون بلادهم، قد ينتقدونه بشدة، لكن إذا حاولت أن تفعل الشيء نفسه فسوف يدافعون عنه بشدة؛ إنهم مواطنون في أكبر بلد في العالم، والتي لها تاريخ غني وجذور ثقافية عميقة، وهم بالطبع فخورون بها.
وهنا عندما يتعلق الأمر بالنزاع الدائر بين روسيا وأوكرانيا وحرب العقوبات والغاز وحالة الشد والجذب بين المعسكر الأوروأمريكي من جهة، وروسيا وحلفائها من جهة أخرى، فنرى رغم الاختلافات الثقافية التي كانت تحظى بقبول من الطرفين؛ خصوصًا في أوساط الشباب الأوروبي والروسي، إلا أن التعامل مع مواطني روسيا داخل أوروبا والعكس قد احتدم واحتد بشكل كبير جراء العقوبات الشديدة ومحاولة عزل روسيا عن العالم، فيما انتهجته الولايات المتحدة ودول الناتو حاليًا. وهنا نرى تأثرًا كبيرا لموقع المواطن الروسي والأوكراني داخل الولايات المتحدة وأوروبا.
فنرى العالم قد تعاطف بشدة مع بطولة وبسالة الجيش والشعب الأوكراني في الدفاع عن أرضه تجاه العدوان الروسي، وكذلك قد فتحت أوروبا أذرعها بحفاوة للاجئي أوكرانيا الذين عدوا بالملايين، وأصبح لهم وضع خاص وتم التركيز على تأهيلهم نفسيًا ومعنويًا واقتصاديًا؛ سواء كانوا لاجئين أوكران أو موظفين مقيمين بأوروبا قبل إشعال فتيل الحرب، في حين شهد الروس موجة من الكراهية والنبذ والاضطهاد والعزل كنتاج للصراع الدائر وكامتداد للعقوبات التي تستهدف الاقتصاد الروسي والشخصية الروسية.
على سبيل المثال، ذكرت دوتش فيلله في أحد تقاريرها المصورة أن أحد المعلمين في إحدى المدارس الألمانية طلب من طفل روسي أن يتبرأ بنفسه عن بوتين وسياسته أمام الجميع، وأن الطلاب والمواطنين الروس في المدارس وصالات الألعاب الرياضية وفي الأسواق والمحال التجارية يتعرضون للضرب من قبل زملائهم لكون الفرد منهم روسيًا. وتحدثوا أنه في إحدى المدارس يريدون حذف اللغة الروسية من المنهج واستبدالها باللغة الأوكرانية، وكذلك العديد من المتاجر الأوروبية أصبحت تتردد في بيع المنتجات الروسية، وبالطبع إن كل هذا يمثل أرضًا خصبة للدعاية الروسية التي تستخدم مثل هذه الحوادث لأغراضها الخاصة.
ومنذ أيام صرّح السفير الروسي في هولندا، ألكسندر شولجين، أن الروس مضطهدون على مستوى الأسرة؛ فأصبحت الأُسّر الهولندية الآن ترفض مصففي الشعر الروس، وكذلك الكثير من مواطني روسيا تم طردهم من الشُقق المُستأجرة، ونشرت وزارة الخارجية الروسية، نقلاً عن رسائل على شبكات التواصل الاجتماعي معلومات تفيد بأن المتاجر الروسية في أوروبا تتعرض للتحطيم وأن السائقين من روسيا وبيلاروسيا يتعرضون للهجوم.
وفي اليوم الأول من بدء الحرب الروسية الأوكرانية، أوقفت السلطات التشيكية إصدار التأشيرات للروس باستثناء الحالات التي يهاجر فيها شخص لأسباب إنسانية أو يفر من الاضطهاد السياسي، وذكرت عدة صحف روسية من خوف المواطنين الروس في التشيك بسبب ما يكتبه العديد من المواطنين التشيكيين عنهم عبر منصات التواصل من حيث التعامل معهم بكراهية شديدة كشُركاء بوتين في قرار الحرب. ونقلت الصحف عن عدة مؤسسات في الجمهوريات السوفيتية السابقة والتي أصبحت أوروبية فيما بعد عن انتشار ملصقات بمؤسساتها تعلن أنه لا يُسمح للروس بالدخول.
إلا أن بعض المؤسسات الأوروبية تعمل بشكل صريح وفاعل من أجل منع سياسات التمييز والاضطهاد بناء على الجنسية والعرقية، فمثلا نقلت الصحيفة الروسية “سيبير ريالي” في آحدى تغطياتها، أن أحد المواطنين يُدعى دميتري مشاروف من أباكان، ويعيش مع عائلته في مدينة برنو التشيكية للعام السابع، ويعمل في شركة أمريكية لتكنولوجيا المعلومات، وأورد ديمتري: “في الشركة التي أعمل فيها، عادة ما يقولون الآن: لدينا زملاء أوكرانيون، ولدينا زملاء روس، فلنتعاون معًا في هذا الوقت الصعب، سيتلقى المحتاجون مساعدة نفسية. وهذا يعني أن كل شيء يتم القيام به هنا لتجنب التمييز. على الرغم من أنني لا أعتقد أن الروس هم من يحتاجون إلى دعم خاص في الوقت الحالي، فنحن في وضع خاطئ، ولم نتعرض للهجوم بعد كل شيء”.
ويُردِف مشاروف -وهو يعبر عن حال الكثير من الروس المتعاطفين مع الأوكرانيين- اعتدنا أن يكون لدينا العديد من الزملاء الأوكرانيين، وقد استقال أحدهم منذ أيام، وانتقل إلى وظيفة أخرى، لكننا ما زلنا نتواصل بشكل جيد، وعلى سبيل المثال أيضًا، لدينا صديق للعائلة من أوكرانيا، ونتواصل أيضًا بشكل جيد جدًا. كل من يعيش هنا يدين الحرب، لا أحد من الذين أعرفهم يعترف بأن بوتين يفعل شيئًا صحيحًا، فأهم قناعاتي هي الصداقة والسلام، بغض النظر عن الجنسية.
وفي إحدى تقارير صحيفة “ازفستيا” الروسية تحدث المواطن الروسي المقيم في فنلندا ديمتري لوجاتشيف، وينحدر أصله من جنوب إقليم كراسنويارسك في مقاطعة إرماكوفسكي، وقال: يوجد الآن بالفعل عدة آلاف من اللاجئين في فنلندا، ونحن نعمل مع الأوكرانيين، وبشكل عام لا توجد أي حالات تمييز في شركتنا، وعندما بدأت العملية العسكرية الروسية، قامت الإدارة في العمل بتعليق منشور على الحائط قالوا فيه إنه لا ينبغي بأي حال من الأحوال السماح بالتمييز أو المضايقة على أساس الجنسية، وأن من يثبُت قيامه بذلك ستقوم الشركة بإيقافه، أستطيع أن أقول إن ما يحدث خطيئة بالنسبة إلى الروس، وربما الآخرين أيضًا. في فنلندا يمكنك أن تبعث بشكوى عن أي شيء يتسبب في مضايقتك، فلدينا هنا رياض أطفال للروس، وهناك مدرسة كبيرة للغة الروسية في هلسنكي، كذلك إذا كنت بحاجة إلى طبيب، ولكنك لا تتحدث الفنلندية، فسوف يجدون طبيبًا ناطقًا باللغة الروسية أو يوفرون لك مترجمًا فوريًا مجانًا.
وبالطبع عندما نتحدث عن باب المواطنة وفصل التعايش؛ فالقرارات السياسية والعسكرية معروف أنها مسؤولية الأنظمة، خصوصًا إن كانت الأنظمة شمولية وشيفونية؛ فيكون إسهام المواطن برأيه وبوجهته فيما يخص قرارات الدولة تكاد تكون منعدمة، وبالتالي لا يجب أن يُلام المواطن ويتحمل مسؤولية قرارات نظامه السياسي الذي يحكمه ويحتل أرضه؛ فمثلا لا يجب أن يُلام الألمان على جرائم النازية ومذبحة الهولوكست، إلا أنه من الممكن لوم الكثير منهم على وصول هتلر إلى الحُكم، أما سياساته وجرائمه والتي تأذى بسببها الألمان بعد ذلك، ودفع الكثير منهم أثمانًا من النبذ والكراهية.
وتأسيسًا على ذلك، فلا يجب أن يَضطهد المواطن الروسي والبيلاروسي والشيشاني فقط من أجل جنسيته التي تورطت في إذكاء الحرب على أوكرانيا والقيام بأعمال القتل والدمار؛ فالحكومات والأنظمة هي التي يجب أن تُعاقَب وتتحمل هي مسؤولية قراراتها، لا مواطنيها ولا شعوبها، خاصة وأننا تحدثنا في بداية استعراضات المقالة عن أن العولمة والحداثة يمكن أن تعزز من التعايش بين الأوروبيين والروس خصوصًا مع تقبل الرجل الروسي الجديد لقيم الحرية والفردانية وإن كانت تُعاني انفصالها عن الواقع وجمعنتها تحت ستار مؤسسي وقانوني على غرار ما حدث في أوروبا بعد الثورة الصناعية والثورة الفرنسية، إلا أنها تكفي للتأسيس عليها من حقبة زمنية جديدة تجمع أواصر مواطني روسيا وأوروبا بعيدًا عن الاختلافات الحكوماتية والصراعات العسكرية، خصوصًا وأن الكثير منهم رغم دعمه للسياسيات الخارجية البوتينية، إلا أنه لدى الكثير منهم موقف رافض للحرب وللخسائر البشرية والدمار والتدهور الاقتصادي والأزمات التي لن تدفع ثمنها إلا الشعوب.