على مدار التاريخ، عرف عن التنظيمات الجهادية تطويعها الدين لخدمة أغراضها الخاصة، والعمل على تحقيق المصالح من وراء ذلك، خاصة في مواسم الطاعات، التي يأتي على رأسها شهر رمضان، الذي يعتبرونه “شهر الفتوحات” وفرصة لتزايد الهجمات الإرهابية؛ نظرًا لاعتقادهم الفاسد بأن فيه بركات إضافية تمنح لعناصرهم في أثناء القتال أو عند الموت خلال الشهر المبارك.
تصدر الجماعات الإرهابية، وعلى رأسها داعش، مسألة الجمع بين ثواب الصيام والجهاد، لإلهاب حماس أتباعها لتنفيذ عمليات إجرامية، باعتبارها أكثر وأعظم أجرًا في شهر رمضان، بالإضافة إلى البركات التي تحل على “المجاهد” أثناء القتال أو الموت، وفقًا لعقيدتهم الفاسدة.
رمضان وذكريات لا تنسى للتنظيم
وبعيدًا عن كون رمضان شهر بركات وكرامات، فإنه من ناحية أخرى يمثل أهمية لتنظيم داعش؛ خاصة أن إعلان الخلافة على يد الزعيم الأسبق، أبو بكر البغدادي، كان في 29 حزيران/يونيو عام 2014، الموافق 1 من الشهر الكريم عام 1435 بالتاريخ الهجري.
وفي رمضان ذاته، أصدر “البغدادي” أول رسالتين صوتيتين، وبعد أيام قليلة وتحديدًا في 4 تموز/يوليو عام 2014، ظهر للمرة الأولى صوتًا وصورة، معتليًا منبر الجمعة في المسجد الكبير بمدينة الموصل العراقية.
ومن هنا جاءت الأهمية القصوى لرمضان، بالنسبة لداعش الإرهابي، ولن نبتعد قليلا في رحلة الشهر، وإنما نتطرق إلى الأعوام القليلة الماضية، لنرى كيف استغلها التنظيم لصالحه ولخدمة أغراضه.
داعش يستغل "البغدادي" لإلهاب حماس أتباعه في رمضان
في عام 1441 من الهجرة، أي قبل عامين، وبينما كان العالم يعاني من انتشار فيروس كورونا، استغل داعش الأزمة وانشغال الأجهزة الأمنية بمواجهتها، خصوصا في الدول العربية، للعودة إلى الظهور مجددًا، وتنفيذ عملياته الإرهابية، وفي هذه الأثناء أتى شهر رمضان، وقرر التنظيم أن ينتفع من ورائه لمضاعفة الحماس في نفوس عناصره، وتصعيد أعمال العنف.
وقبل انطلاق شهر رمضان هذا العام، أراد داعش تذكير أتباعه من خلال العدد 232 من صحيفة النبأ التابعة له، بأهميته الخاصة لدى التنظيم، خاصة أنه شهد إعلان الخلافة قبل 6 سنوات على يد “البغدادي”، كما ذكرنا آنفا، بالإضافة إلى أنه كان الأول عقب مقتل الزعيم ذاته، في غارة أمريكية، 27 تشرين الأول/أكتوبر 2019، ما قد يلهب حماس العناصر بالطبع في الأماكن المتفرقة للثأر من مقتله.
وبناء على المعطيات السابقة، شهد الأسبوع الأول من رمضان عام 1441، نشاطًا مكثفًا من قبل عناصر التنظيم في أماكن متفرقة، ففي العدد 232 من صحيفة النبأ، الصادرة في 7 من الشهر الكريم، فند داعش هجماته في الأسبوع الأول، والتي كانت عبارة عن 57 عملية، 47 منها في ولايات “العراق، والشام، وسيناء”.
ولم يكن التنظيم ليمرر أي فرصة في سبيل حصد الغنائم؛ ففي العدد ذاته، الذي أعلن التنظيم خلاله عن عملياته المكثفة في الأسبوع الأول من رمضان، استغل ذلك أيضا في بث مزيد من الحماسة في نفوس أتباعه وحضهم على استمرار ما سماه “الجهاد”، ونشر مقالاً حمل عنوان “فضائل شهر رمضان والفرح بقدومه“.
وخلال المقال، حث التنظيم أتباعه على الجهاد، قائلاً: “هنيئًا لمن جمع بين الصيام والجهاد”، مستدلًا بحديث للنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: “من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبدا لله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة”، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟ قال: “نعم وأرجو أن تكون منهم”.
وبالعقيدة الفاسدة والفهم غير الصحيح للدين الإسلامي، الذي لم يأمر أتباعه بالعنف وقتل أي نفس إلا بالحق، عقب داعش في المقالة على الحديث المذكور، بقوله: “فأبشر يا من جمعت بين الصيام والقيام والجهاد والرباط، فإنك قد جمعت بين أبواب الخير إن شاء الله”.
داعش يحصد الثمار
لم يمر الأمر بسلام، وإنما جنى التنظيم ثمار ما بذره؛ فوفقًا لصحيفة النبأ الصادرة عنها، في العدد التالي مباشرة، الذي حمل رقم 233، كشف داعش أن عملياته زادت إلى 88، كان منها 79 في “العراق (64)، وسوريا (10)، وسيناء (3)، وخراسان (2)”، واستمرت الأرقام في الزيادة حتى نهاية شهر رمضان.
في العدد 235، الصادر في 28 رمضان، أي في الأسبوع الأخير من الشهر، كشف التنظيم أن عملياته وصلت إلى 158، كانت النسبة الأكبر منها في العراق بواقع 84 هجومًا، ما يعني زيادة العدد إلى ما يقرب من 3 أضعاف ما كان عليه مطلع الشهر المبارك.
ومع قدوم شهر رمضان في العام التالي 1442، لم يخالف التنظيم عادته، وإنما في العدد 282 من صحيفة النبأ، الصادر في اليوم الثاني من الشهر المبارك، نشر داعش مقالة حملت عنوان “أعمال الصالحين في شهر رمضان“، ذكر منها الجهاد والغزو، قائلا: “إن ذروة سنام الإسلام وعمله في ذروة سنام العام أعظم أجرًا، فقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان غزوة بدر الكبرى وغزوة فتح مكة، وبعث بعوثاً وسرايا في رمضان، وغزا من بعده أصحابه ومن جاء بعدهم، حتى عرف شهر رمضان بشهر الفتوحات والانتصارات، فليلتمس المجاهدون فيه البركة بغزواتهم وصولاتهم بعد الاجتهاد والدعاء، فإن لذلك أثر بين في الجهاد…”.
ومرة أخرى أتى اللعب بورقة “شهر الفتوحات والانتصارات” بثماره؛ إذ ذكر التنظيم في العدد التالي مباشرة من “النبأ”، أن عدد عمليات عناصره في المناطق المتفرقة بلغ 63، كان للعراق وسوريا النصيب الأكبر منها بواقع 52، بعد أن كان بجميع ما يطلق عليه داعش لفظ “الولايات”، 43 في الأسبوع الأول من رمضان.
ولم ينته الشهر إلا وكان عدد العمليات وصل إلى 131 في الأسبوع الأخير، وأوضح التنظيم أن الإجمالي خلال رمضان كان 361 هجومًا إرهابياً، كان للعراق كالعادة النصيب الأكبر، بواقع 192، يليها سوريا بـ79، ما يعني ببساطة أن داعش أجاد اللعبة جيدًا، وأصبح الشهر ملاذه لبثّ الحماس في نفوس عناصره، الذين لم يخيبوا ظنه، وإنما يتبعون ما يصدر إليهم من تعليمات مغطاة بشعارات قرآنية وأحاديث نبوية، بريئة من فعلهم الإجرامي.
خطط لضرب مفاصل العدو في رمضان
المعطيات السابقة قد تجعلنا نترقب نشاطًا مكثفًا لعناصر داعش في الولايات المتفرقة، على غرار الأعوام الماضية، خاصة أن الشهر الكريم أتى هذا العام في ظل معاناة التنظيم من هزيمة نفسية قاسية، إثر مقتل زعيمه السابق أبو إبراهيم الهاشمي، في غارة أمريكية على سوريا، الثالث من شباط/فبراير الماضي، وتنصيب أبو الحسن الهاشمي خلفا له، ما يجعل من رمضان فرصة عظيمة لبث الحماس في نفوس أتباعه تحت مسمى “الجهاد” للثأر من قتلة الخليفة الراحل، وإعادة الثقة إليهم مرة أخرى، وجذب عناصر جديدة.
وفي سبيل ذلك، نشر داعش مقالاً في العدد الأخير من صحيفة النبأ، الذي حمل رقم 332، الصادر في 28 شعبان 1443، الموافق 31 آذار/مارس الماضي، بعنوان “رمضان.. خير زائر“، تحدث خلاله عن أهمية الجهاد في هذا الشهر، ودعا بشكل صريح إلى اغتنامه في ضرب العدو، قائلا: “ويستقبله المجاهدون برسم الخطط لضرب العدو في مفاصله؛ فإن رمضان شهر الجهاد والفتوحات، فاغتنموه أيها المجاهدون في ضعضعة الطواغيت وجيوشهم من جهة، وفي نشر الهدى والعلم لعامة المسلمين من جهة أخرى، وواصلوا الليل بالنهار؛ فإن رمضان من مواسم أهل الآخرة، وكله مبارك والأجور فيه أضعاف مضاعفة”.
وذكر داعش في العدد ذاته من الصحيفة، أن عدد عمليات عناصره بجميع الولايات الأسبوع الماضي، وصل إلى 45، لكنه وفقًا للمعطيات السابقة، وما رصد خلال شهر رمضان في الأعوام الماضية، فإنه من المتوقع أن يتضاعف العدد، خاصة بعد دعوة التنظيم الصريحة لعناصره باغتنام الشهر لضرب “مفاصل العدو”، بحسب وصفه، والتأكيد أنه ما زال قادرًا على شن هجمات مكثفة، برغم مقتل زعيميه السابق “البغدادي، وأبو إبراهيم”، بجانب العديد من قياداته البارزة.
وبالفعل ظهرت مؤشرات على ذلك، فبحسب القنوات التابعة لتنظيم داعش، على موقع “تليجرام”، فإن عناصره نفذوا تفجيرين في منطقة هيرات بولاية خراسان، أسفر عن مقتل وإصابة 30، في يوم السبت الماضي، الموافق الأول من شهر رمضان، وفي اليوم التالي هاجم الإرهابيون قرية إيدهو بالكونغو، بالأسلحة الرشاشة، وقتلوا 6 مسيحيين، بجانب 12 في منطقة أخرى بولاية وسط أفريقيا، بالإضافة إلى عمليات متنوعة بأماكن متفرقة.