أثار الغزو الروسيّ لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير مخاوف مشروعةً لدى عموم المراقبين من تكرار سيناريو الحرب العالميّة الثانية، أو تحقّق نبوءات أكثر المتشائمين في اندلاع حرب نوويّة بين قوّتين مجهّزتين بأسلحة من شأنها أن تكفل إبادة جماعيّة للجنس البشريّ في غضون أيّام معدودات، بينما رجّحت أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، بأن تكون تلك الغزوة بداية لحرب باردة جديدة تشق عالمنا إلى عالمين مجدّدًا.
وإلى جانب تلك المخاوف، استعادت أسئلة فلسفيّة كلاسيكيّة مشروعيّتها، بل ضرورتها الملحّة لفهم عالم سقطت فيه المُثل الإنسانيّة دفعة واحدة على مرأى من “حرّاسها” المفترضين دون تفسير واضح أو مسار بديل.
ومن هنا تأتي أهمّية ما قدّمه عالما الاجتماع سيغموند باومان ودونسكيس في كتابهما “الشرّ السائل: العيش مع اللا بديل” والذي بدت فيه روسيا أو ما يصطلح عليه الكاتبان بالـ”بوتينيّة” كأحد أعمدة ذلك الشرّ “السائل” في عالمنا المعاصر.
الصدمة
على الرغم من تحذير الولايات المتّحدة العالم من احتماليّة غزو روسيّ وشيك لأوكرانيا، غير أنَّ ذلك التحذير ظلّ يُقرأ في حدود المهاترات السياسيّة والدعائيّة المتبادلة بينَ الغرب وروسيا، أو بوصفه استباقًا استخباريًّا وظيفيًّا لإحباط عمليّة عسكريّة محدودة قد تقوم بها روسيا في إقليميّ دونباس ودونيتسك مستغلّة استعداد بعض الميليشيات الأوكرانيّة الانفصاليّة لتقديم الولاء والأضاحي لنيل “الاستقلال”، وعلى أبعد تقدير أن تكون تلك إشارات مخادعة دفع بها صنّاع القرار في موسكو لزيادة الضغط بهدف تحصيل مكاسب سياسيّة.
أمّا سيناريو الغزو، فكان بالنسبة للكثير من الاستراتيجيين والسياسيين مجرَّد دعابة ثقيلة لن يكون بوتين بحال من الأحوال قادراً على إلقائها حتّى على أفراد أسرتهِ في قصره على شاطئ البحر الأسود، ومردّ ذلك بالطبع إلى التلويح الغربيّ المستمرّ بسلاح العقوبات الاقتصاديّة التي كان من الواضح أنّها ستطال كلّ قطّاع حيويّ ومصدرٍ استراتيجيّ من مصادر الدخل الروسيّ.
وبالرغم من أنَّ صنّاع السياسة في لندن وباريس وروما كانوا يرون في بوتين صديقًا "حسّاسًا" لليمين الأوروبيّ وأحد المتسلّطين المصمّمين على تقويض الديمقراطيّات الليبراليّة، غير أنّهم كانوا يعتقدون بأنّه ذكيّ بما فيه الكفاية ليعرف أين يتوقَّف، كما ذكرت واشنطن بوست في تقرير لها عقب الغزو الروسيّ.
وأضاف التقرير أنّه عندما سُئل أحد كبار الاستراتيجيين العسكريين في البحريّة الألمانيّة نائب الأدميرال كاي أشيمو شونباخ عن نوايا بوتين؛ ما كان منه إلّا أن سخر من فكرة الغزو الروسيّ قائلًا: “لا، هذه حماقة” قبل أن يضيف: “بوتين ربما يضغط علينا فقط لأنّه يستطيع فعل ذلك”.
وفي الأوّل من آذار/مارس الفائت وضعت الاستخبارات الأمريكيّة الحالة العقليّة لبوتين على رأس سلم أولويّاتها مشكّكةً بصحّتها وناشدةً تقييمها مع تطوّر الصراع في أوكرانيا.
وبالمجمل كان الغزو الروسيّ لأوكرانيا بمثابة صدمة ثقافيّة وإنسانيّة وأخلاقيّة يمكن مقاربتها وفهمهما من منظورات سياسيّة واستراتيجيّة وأمنيّة رغم صعوبة ذلك، ولكن تبقى الحاجة ملحّة لاستيعابها وفهمها على تلك الصعد الأخلاقيّة والإنسانيّة والثقافيّة.
البوتينيّة والشرّ السائل
“الشيطان في السياسة ليس مجرّد خيالات؛ بل إنّه يتجسّد في أشكال كثيرة؛ أحدها هدم وتدمير نظام أخلاقيّ کونيّ، أو على الأقلّ نظام أخلاقيّ قابل للحياة والنمو والتطبيق، بيد أنّ الشيطان قد يظهر على أنّه فقدان للذاكرة والحسّ الأخلاقيّ، وهما الجانبان اللذان تمثّلهما روسيا الحديثة بكلّ براعة.”
يقول دونسكيس واصفًا وجهًا من أوجه الشرّ السائل في عالمنا المعاصر؛ أي السياسة الروسيّة أو كما يصطلح عليها الكاتب “البوتينيّة” التي ما هي إلّا تحقّقًا واقعيًّا للعالم الروائيّ الذي شكّله أورويل قبل عقود في روايته الشهيرة “1984”، إنّها نزعة خالصة للتدمير وضرب الاستقرار السياسيّ والتعجيز الاجتماعيّ لخدمة مصالح أو “هذيانات” شخصيّة، وما الأرض “والادّعاءات القُطريّة سوى مناورات تكتيكيّة لإخفاء ذلك الهدف الحقيقيّ.”
فالبوتينيّة بحسب دونسكيس فاشيّة بلا إيديولوجيا؛ أيْ حشر السلطة للشعب في قوالب قوميّة متطرّفة، ونشر لخطاب الكراهيّة وصناعة للعدوّ وغسل للأدمغة إعلاميًّا دون أن يكون ثمّة أُسس ومنطلقات فكريّة وأدبيّة لتلك السلطة، أو مشروع واضح يمكن مراقبته، وبالتالي محاججتها في فشلهِ، أو أهداف معيّنة يمكن التأكّد من عدم تحقّقها وبالتالي قابليّة مواجهة السلطة بإخفاقاتها المخيّبة تلك، وعوضًا عن ذلك يوجد خطاب رسميّ فاشيّ معمّم على كلّ قنوات الاتصال بالشعب يحافظ على توتّر سلبيّ مستقرّ لدى عموم الروس وجاهزيّة عالية للدخول في الحرب، ومردّ ذلك إلى الخوف من الآخر أو العدو المختلق (أوكرانيا).
ويدوّن دونسكيس في هذا السياق: ” تكمن مأساة روسيا في أنّ أهلها يقعون فريسة لخبراء الكرملين وخبراء الدعاية والعلاقات العامّة وقدرتهم على خلق واقع افتراضيّ فوقيّ يخفي الواقع الحقيقيّ عن الجماهير، وهكذا تكون أوكرانيا في عيون الروس من الذين انتهجوا النهج النازيّ جزءً من واقع افتراضيّ جرى افتعاله من أجل سياسات محلّيّة.”
والواضح أنّه كلّما ساءت الأوضاع الداخليّة في روسيا وضعفت قدرة البوتينيّة على فرض سياسات محلّية موائمة لمصالح ممثّليها تمّ، تعزيز ذلك الواقع الافتراضيّ وتعميق السرديّة المضادّة للوعي بالحقيقة، وما أن يصل سوء تلك الأوضاع الداخليّة إلى ذروته ويبدأ الشعب في مراجعة الخطاب الرسميّ وفحص ادّعاءاتهِ كخطوة على طريق التطابق مع الحقيقة والانفجار الشعبيّ؛ حتّى تجد البوتينيّة في افتعال الحرب مجازفة لا بدّ منها، وإن كانت ارتدادات تلك الحرب ستفاقم سوء الأوضاع الداخليّة وتخالف توقّعات كبار المحلّلين السياسيين والاستراتيجيين.
وإنَ جوهر فشل المراقبين والمحلّلين في توقّع خطوات من هذا القبيل؛ هو ركونهم إلى مقاربات موضوعيّة لا تأخذ في الحسبان سوى المصالح الاقتصاديّة والسياسيّة للمركز (الدولة) غاضّة الطرف عن المصالح الشخصيّة والاعتبارات الذاتيّة لممثّليه، يقول دونسكيس: “إنَّ الاستخدام المفرط لمصطلح الفاشيّة شكل من أشكال التناقض المعرفيّ في الفاشيّة الروحيّة (البوتينيّة)، بمعنى إسراع روسيا إلى استخدام اسمها وصفتها لوصف عدوها، وبالتالي إلقاء اللائمة على العدو وتبرئة الذات” وليس استخدام مفردة “الذات” هنا استخدامًا مجازيًّا للإشارة إلى الذات الروسيّة، وإنّما هو استخدام دقيق وحرفيّ لوصف ذات شخصيّة تجد في وصف عدوها/فريستها بصفاتها ضرورة لخلق التوازن بينَ الذنب والرغبة.
وبهذا المعنى فإنّ ما يجعل شرّ البوتينيّة شرًّا "سائلًا" لا "صلبًا"؛ هو ذلك الطغيان للذاتيّة على الموضوعيّة من جهة، وغياب الإيديولوجيا الملزمة لها -التي كانت رمزًا للشرّ الصلب في أواخر القرن المنصرم- من جهة أخرى، وإنَّ غياب الإيديولوجيا يعني غياب "البديل" الذي كان أبطال الشرّ الصلب يعدون شعوبهم به ويضعون برامج عمليّة -رغم عدم واقعيتها وتناقض منطقها الداخليّ- لبلوغه.
ففي الحين التي كانت السوفيتيّة (كرمز للشرّ الصلب) تعد شعوبها بالمساواة والاشتراكيّة والعدالة الاجتماعيّة بعد تحقيق برنامجها في تعميم نموذج الحكم الشيوعيّ على العالم بأسره والانتصار على الرأسماليّة، فإنَّ البوتينيّة (كرمز للشرّ السائل) لا تقدّم أيّ وعود، وبدل ذلك لا تنفكّ تورّط متّبعيها في انتهاج سلوك إقصائيّ عدائيّ يقوم على خطاب مظلوميّة مُختلقة بهدف التضليل وترسيخ الشعور بضرورة العنف لدرء الأخطار واستعادة المجد كحقّ تاريخيّ.
وبينما تمكَّنت الشعوب السوفيتيّة من إشعال ثوراتها في أوروبا الشرقيّة في ثمانينيات القرن الماضي بناءً على فشل أبطال الشرّ الصلب في تحقيق برنامجهم والمحافظة على بريق وعودهم، فإنَّ أبطال الشرّ السائل -بحسب الكاتبين- لن تكون هزيمتهم بتلك السهولة؛ لا سيّما وأنّ ليس ثمّة ما يفشلون بهِ بما أنَّ منطقهم يقوم على ثنائيّة “الإغواء والانسحاب” والاعتماد المفرط على القوّة.
اللابديل والخوف من الشموليّة
“إنّه شبح غياب البديل، لاسيّما البديل الجذّاب بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى، بديل يعد بإنهاء سطوة القدريّة والعجز وانهيار الخيال. إنّنا أمام أزمة، يصاحبها نفق مظلم عند نهاية النور، وتمتزج الآمال المحبطة فيه بانعدام الآفاق الواعدة.”
بهذه العبارة ردَّ المفكّر وعالم الاجتماع سيغموند باومان على نظيره دونسكيس الذي خطَّ عددًا من الصفحات حاول من خلالها تعرية سياسات النظام الروسيّ الداخليّة والخارجيّة انطلاقًا من خصائص خطابه السياسيّ تجاه الجارة الأوروبيّة أوكرانيا كما بيّنا سابقًا.
إلّا أنّ باومان ينحت مصطلح “اللابديل” ليعبّر من خلاله عمّا هو أبعد من نظام يراه دونسكيس ديكتاتوريًّا وفاشيًّا، وقاب قوسين أو أدنى من زجّ شعبه في حرب دمويّة -نبوءة تحقَّقت لاحقًا مع اندلاع الحرب الروسيّة الأوكرانيّة في فبراير الماضي- ليكون “اللابديل” خلاصة نقد باومان للنظم (النماذج) السياسيّة القائمة غرب وشرق أوروبا.
فعلى الرغم من تأكيده على وجود اختلافات بين النموذجين: الديكتاتوريّ شرق أوروبا والديمقراطيّ غربها، غير أنّه يضيء على تقاطع واحد بينهما “مهم ومقلق جدًا”؛ حيث يشجّع النموذجان كما يرى باومان “على الحتميّة الاجتماعيّة والقدريّة السياسيّة”.
إنّ الشموليّة بكلّ ما تعنيه من قمع وإرهاص للإرادة الحرّة والحقوق الطبيعيّة؛ هي النموذج السائد في كلا النظامين، فبينما تفرض النُظم السياسيّة الديكتاتوريّة شموليتها عبر "القوّة الخشنة" والأدوات الفاشيّة التقليديّة؛ فإنّ النظم الديمقراطيّة تنشد شموليتها عبر "القوّة الناعمة" التي تبقي على مظاهر الحرّية في نموذجها، بينما تُبطنُ القمع والتدجين، وبتعبير باومان؛ فإنّ "الشموليّة الناعمة شكل محكم من التلاعب بالوعي والخيال، يرتدي عباءة الديمقراطيّة الليبراليّة، ويمكِّن من الاستعباد والسيطرة حتّى على نُقّاده."
ففي شموليّة النموذج الغربيّ يشهد المجتمع تفكّكًا، ويعيش الأفراد مرحلة من “اللامعيارّية وانعدام الثقة والضياع وصهر الجذور” بمساعدة وفيرة من وسائل الإعلام والأسواق الاستهلاكيّة التي لا تني تقدّس النزعات الفرديّة وتحقّر القيم الاجتماعيّة حتّى ليبدو القهر الاجتماعيّ كعارض طبيعيّ من عوارض العيش في ظلّ هذه الشموليّة.
وتكمن المفارقة هنا من خوفنا العظيم (كبشر معاصرين) من انتصار أو مكسب قد تحقّقه القوّات الروسيّة في أوكرانيا، وما قد يعنيه ذلك من استفاقة لشبح الشموليّة الذي خيَّم على العالم لعقود خلال القرن الماضي. أمّا السؤال المفتوح: هل ما نختبره في عيشنا غرب وشرق وجنوب وشمال هذا العالم أقلّ وطأة من شموليّة فتيّة تلوّح بقضبان الحديد؟
اقرأ أيضا: روسيا والغرب: كيف يرى المواطن الروسي نفسه؟