ينبهنا حضور نموذج مثل الداعية الأزهري عبد الله رشدي على رأس كل حادثة من قبيل واقعة “كشري التحرير” لإمكانية تحولها إلى قنبلة تطيح بسلام اجتماعي متقلقل، هذا الاستنتاج الأولي يدعمه مؤشر مهم، يرتبط بنزوع تفضحه هذه الحادثة وغيرها، ويتمثل في فصل “الديني” عن “الروحي”.
حين يقدم الداعية الدعم إلى المطعم رغم كذب رواية أصحابه الواضح علاوة على إصرارهم على رفض تناول الأسرة المسيحية طعامها قبل آذان المغرب، لتنطلق إثر ذلك حملة دعم للمطعم، فهذا سلوك يحمل تمجيدا للذات “الدينية” ولفظ الديني هنا يشير إلى تعسف المعتقد وأدلجته، عبر إقامة حاجز بين “الديني” و”الروحي” بما يحمله المفهوم الثاني من معاني التسامح والمودة والنفور من خطيئة الكذب.
هذه المقابلة التي تضع "الديني" في مقابل "الروحي" علامة تدلل على لا إنسانية الثقافة، فكرامة الإنسان تمسي بذلك متوقفة على نوع هويته الدينية، وبدلا من أن تدفع الثقافة الفرد إلى مزيد من التحرر وارتقاء ذاته تصبح مهمتها الوحيدة تقييده بقيود الأيديولوجية.
وهناك معنى لامع يوضح الفكرة أكثر، نبه إليه المتصوف الهندي “أوشو” عندما سُئل: لماذ تقف ضد العقل بهذا الشكل، نحن نستخدمه ونحتاجه؟.
أجاب: لا، ليس بإمكان الجميع استخدامه. من النادر أن نجد شخصًا واحدًا يستخدم العقل، أشباه بوذا ويسوع و”أتيشا” هم من يستخدمونه، وإلا فالكل مُستخدَمون من قبل العقل”.
كذلك، من النادر أن نجد من يستخدم الدين ـ بما يتضمنه من طاقة روحية قادرة على التحليق فوق مثل تلك الصغائر وغيرها ـ فالكل مُستخدَمون من قبله، وللتدليل يمكن الوقوف على ما كان في العصر الإسلامي الأول، حين استعمل الناس طاقة الدين الهائلة في البناء، جراء تغلب الروحي على الأيديولوجي، ولم يمضِ وقت حتى غلب الأيديولوجي على الروحي، فاستعمل الدينُ الناسَ ليستحيل إلى طاقة هدم.
الأيديولوجي بطبيعته يتأسس على قاعدة المصالح، ويحول مفاهيم مثل الاختلاف والتعددية والتنوع، وهي مفاهيم ثرية تفرضها طبيعة المجتمعات الإنسانية، إلى حواجز وجدران وأسيجة توطد للتفرقة، لتعادي بذلك تلك الطبيعة، بما يصب آخرا في غير صالح المجتمع الإنساني، معنى أكد عليه الفيلسوف الفرنسي “ألتوسير” مشيرا إلى أن الأيديولوجيا معنية دائما بـ “موضوعات ثقافية تُدرك وتُقبل وتُعانَى وتعاش فتفعل فعلها في البشر عبر مسلسل يفلت من أيديهم” وحينها تستعملهم لتحقيق أغراضها، لا العكس.
بعد آخر للمسألة يمكن تتبعه في محاورة ألسيبياد لسقراط حيث يبدي من خلالها ملحوظة، أننا عندما ننظر لأحد يقف أمامنا فإن بصرنا يتركز على حدقة عينيه، لأنها الجزء الذي نرى أنفسنا فيه، مثلما يحدث مع المرآة حين تعكس صورة من ينظر إليها.
يلفت الفيلسوف الإغريقي النظر إلى ضرورة الآخر لمعرفة الذات، لكن في حالة هذه الثقافة يجري نفي الآخر خارج أفق الذات بعد ارتداد أصحابها إلى أضيق دوائر الانتماء “الديني”. ينشد المرء ذاتا صافية نقية من أية شوائب، لتمارس تعاليها على الآخر وتُقصيه، وفي هذا السلوك اختلال للعلاقة مع الواقع، يدلل عليه رفض التعدد وشجب الاختلاف وقمع التنوع، ليتحول الاختلال إلى نوع من المرض النفسي، من قبيل: الشيزوفرينيا أو الهلاوس ( تبصر تلك الصورة واضحة في أطروحات هذه النماذج المتشددة ولدى مشايخ السلفية، حيث تتبدى مظاهر الانفصال عن الواقع جلية في تصوراتهم التي هي أقرب إلى التخيلات المرضية).
هذه الثقافة لا ترضى بغير الجدران بين أصحابها والآخر، عازفة عن الاكتفاء بحدود تتيح الحركة والتبادل، إقامة الجدران تبني ضد الآخر ورفضا له، بينما الحدود تُرسم باتفاق الطرفين وتعاونهما بغرض التمييز الذي لا يمنع الاتصال والتواصل.
الحدود دعوة للعبور وحرية في التنقل أما الجدران فتقام منعا للاتصال ورفضا للانتقال، وعلى هذا جرى تسليم السيدة مريم وهيب ـ التي انتشرت رواية غير صحيحة عن خطفها خلال الأيام الماضية ـ إلى الكنيسة بعد إعلان إسلامها في فيديو تداولته وسائل التواصل الاجتماعي.
وفق تلك الثقافة يجري التأسيس ـ على الجانبين ـ لمفهوم التمايز في مقابل الاختلاف، والمعنى أن كل طرف يرى ذاته أفضل وأعلى مرتبة وأهم وأحسن لا مختلفًا فقط عن الآخر، ففي التمايز تنغلق الجماعة الثقافية أو الدينية على ذاتها، تتوحد معها، متمركزة حول سماتها وخصائصها، منفصلة عن غيرها، أما في الاختلاف فتنفتح على الآخر وإن تباعدت عنه، فالتباعد لا يعني الانفصال.
في التمايز تقاوم الجماعة التغيير معرضة عن أي نقد، أما في الاختلاف فتزداد قابليتها للتعاطي مع التغيير والنقد، وفي حين تنتظم الأشياء بشكل أفقي في الاختلاف، تتدرج في خط رأسي في التمايز، لهذا يكون هناك دائمًا الأفضل والأحسن والأعلى مرتبة.
هذه الثقافة تجنح إلى التعامل مع الآخر عبر طرده خارج نطاق الإنسانية، وهو نزوع يخص العصور البدائية، حينما كانت الإنسانية تنتهي عند أصحاب اللسان الواحد أو القرية الصغيرة أو حتى القبيلة، ففي اللحظة التي ينتهك فيه حق إنساني بدعوى مخالفة الآخر للمعتقد ـ وفق تعبير الفيلسوف الفرنسي ليفي شتراوس ـ نكون سلكنا طريق البربرية.
وبالتأكيد من يسلك هذا الطريق يغيب عنه المعنى الذي نبه إليه سقراط، أن المرء مدين بوجوده للآخر، فهو لا يوجد إلا من خلاله، والوجود “هو وجود في العالم مع..”، معنى صاغه الشاعر والكاتب الفرنسي بول إيلوار في عبارة بليغة “لقد اخْتَرَعْنا الغير كما اخْتَرَعَنَا الغير لأن كل منا كان في حاجة إلى الآخر”.
بربرية عبد الله رشدي وتياره تأتي جراء فصل “الديني” عن “الروحي” ليتمدد الأيديولوجي رافضا الاعتراف إلا بمنطقه الخاص، ويُصيغ أصحاب هذا المنطق حقوقا، يمكن وصفها بامتيازات لا إنسانية تقصر الكرامة الإنسانية على أبناء القبيلة، وهي في حالتنا قبيلة “التحرير”.
اقرأ أيضا: هو السؤال حُرُم؟
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.