هل من الممكن أن تتحول العلمانية إلى نزعة دوجمائية متطرفة على غرار الأصوليات الدينية والعقائدية فيكون لدينا علمانية معتدلة وعلمانية متشددة، مثلما هو الحال في كل النزعات والتيارات الفكرية؟ أليس على سبيل المثال اليمين المتطرف المنتشر في الغرب العلماني ضربًا من العلمانية المتطرفة؟ ألا نرى بعض المثقفين والتنويريين المتبنين لاتجاه الدولة المدنية هم أول الطاردين لمن اختلف معهم فكرًا وعقيدةً على الرغم من اتفاق المستبعدين معهم حول أسس المجتمع المدني العلماني؟! وإن كانت الحالات السابقة هي السمت الذي ميّز بعض العلمانيين وحكائيها، ألا يُعد ذلك دلالة على إخفاق مُتوقع للعلمانية في تخليص المجتمع من شرور الفكر الأصولي المتطرف، كونها تقوم بنفس الأدوار ولا تستطيع استيعاب القدر المتزن من المختلفين حسبما تدعو وتقول؟!
فهل يمكن أن تقوم علمانية في غياب الديمقراطية ومناخ احتواء اختلافات الآخر؟
تُعد الديمقراطية في الأساس تنظيمًا للصراعات بين أطراف متباينة الوجهات، وبين رؤى مختلفة في إطارٍ من الموضوعية وليس القبلية، وفي احتراب فكري قائم على البرامج السياسية والحزبية، وطرح الوجهات والآراء فيما تكفله منابر ومنصات الصحافة والإعلام من حريات التعبير، والاحتراب الفكري أساسه هنا الابتعاد عن العنف المنهجي أو كل ما يحرض على الكراهية ونبذ واضطهاد الآخر. ويمكن أيضًا قولبة الديمقراطية وفق تعريف أو بالأحرى تعبير الكاتب المصري بلال فضل، على أنها “تنظيم للكراهية”. وهنا لم تهبط العلمانية من السماء كحلٍ جامعٍ أو مُختزِل للمشكلات دون كافة الأنظمة، ولا وظيفتها جمع المتفقين، وهُنا مناط اعتمادها على الأساسات الديمقراطية، وبالطبع العلمانية وابنتها الديمقراطية تقومان بحسم أية صراعات وفق آليات التمثيل والانتخاب والتشارك والتعبير السلمي، بين الأطراف المتباينة في مناهجها واعتقاداتها، أما غياب الديمقراطية فهو بمثابة رسوب للعلمانية في اختبار احتواء الآخر وتنظيم اختلافات المجتمع، وبالتالي أولى بها حينها الرجوع من مآلها الذي انبثقت منه لتصبح فكرة طوباوية -تقوم على الاستبعاد- في أجندات منظريها الدوجمائيين.
وغياب هذا التنظيم والارتباط الواضح بين آليات الديمقراطية لتتحول إلى حيز الواقع والممارسة في وسط أدعياء التنوير والعلمانية، يؤدي إلى الوقوع في مغبة إشكالية تنذر بالتأسيس لعلمانية متطرفة وعقائدية؛ متحولًة إلى “دوجما” تعطي المبرر لبروز المسوغات اللاهوتية الجامدة والمتطرفة هي الأخرى، وكذا، سيادة الرؤى الدينية في مجتمعات يقوم فيها السياسي باستبعاد المختلف، وبالتبعية، يقوم المكون الديني المتطرف في بعض الأحيان، بجذب “الآخر” الذي تستبعده السُلطة وتقصيه عبر أدواتها الإعلامية والصحفية والسياسية وقوتها الناعمة. وقد علمنا التاريخ عمومًا وفي العقد الأخير من الحالة السياسية الفاعلة في مصر، أن مَرد الحكم الديني المقدس المطلق غير القابل للتشكيك يكون بحلول فاشية أخرى ولكن من نوع آخر، والعكس، ومعنى ذلك ان الديمقراطية غير ممكنة بدون العلمانية، والتي هي في أبسط تعريفاتها “التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق” حسب تعريف مراد وهبة في كتابه ملاك الحقيقة المطلقة، ويتأتى النسبي بالطبع بتنظيم الاختلافات لا باستبعادها، وباحتواء المتباينين عقائديًا وفكريًا لا بإقصائهم، الذي يعني أن التدين والمقدس والروحي لا تحاربه الدولة في العموم، ولا يتخذ منه التنويري والعلماني موقفًا طالما ظل بمعزل عن مؤسسات الدولة ومراكز اتخاذ القرار.
ومن المتعارف عليه، أن الديمقراطية العلمانية -وهنا تلاحظ عزيزي القارئ أننا لا نفرد المفردتين منفصلتين بل هما صنوان، ولا استغناء لإحداها عن الأخرى- من هذا المنطلق ليست معطى ناجزا ونهائيا، بل هي دائمًا ما تكون نتاجًا يبدأ من السنوات الأولى لتطبيع الأجيال فكريا، فما تمارسه السلطة من سياسات ومن حرصها على احتواء كافة الأطياف داخل مؤسساتها هو بمثابة تربية علمانية وإعداد لمن سينضوون تحت لوائها من جموع المثقفين والمفكرين وجماهير الشعب، وكذلك مقدار الخطابات والممارسات التي تفردها القوى الناعمة بما تشمله من ممثلين في اتجاهات الفكر والفن والثقافة وغيرها، هي مقدار انعكاس صوابية الاتجاه الديمقراطي العلماني في مدى اقترابه من احتواء الاختلافات وإعطاء المساحة والفرصة للجميع لأن يعبروا عن أنفسهم، دون استدعاء للحزازات الروحية والمقدسة.
تُعد الديمقراطية في الأساس تنظيمًا للصراعات بين أطراف متباينة الوجهات، وبين رؤى مختلفة في إطارٍ من الموضوعية.
ومن المُنطلق أعلاه، تتجلى حقيقة آنية وجلية في العالم العربي، ولكنها عصيّة على الفهم، وقوامها أنه ليس من نموذج ديمقراطيّ أو نسقٍ علمانيّ معياري يصلح بصورة واحدة لكل المجتمعات بغض النظر عن مكوناتها الثقافية والاجتماعية وأحوالها الاقتصادية وغيرها. أما الحادث الآن عربيًا أن مُنَظري العلمانية والمتشبثين بقضايا التنوير، يستدعون حالات تاريخية تليق بمجتمعاتٍ معينة، ولا تصلح لأن تكون بمثابة المخرج والحل لمجتمعات أخرى لها مكنوناتها الثقافية، والتي تختلف بالطبع عن درجات ونشوء مجتمعات أخرى سعت لسنّ ووضع أسس العلمانية والليبرالية والديمقراطية فيما تفرضه ظروفها التاريخية وطقوسها الثقافية.
إلا أنه في نفس الوقت، هناك العديد من المُشتركات التي تنتهجها الدول الحديثة الوطنية والتي يمكن أن تؤسس لما يصبو إليه العلمانيون العرب والتنويريون، وهي أولى بالدفاع عنها قبل الحديث عن قضايا فصل الدين عن الدولة واللاهوتي عن العام والقانوني عن الطقسيّ ..إلخ، وهذه المشتركات هي كل ما يمثل رمزا للنزاهة السياسية وحيادية الدولة، وكل ما يرفعها فوق ولاءات الجماعات الإثنية أو المذاهب الدينية وكذلك التيارات الحزبية وتسيسس مؤسسات الدولة بدلا من استقلاليتها، وذلك لتبقى في النهاية قِبلة للولاء العام، وحجر زاوية يتحول إلى مؤسسة لها كيانها الاعتباري المستقل بعيدا عن منطلقات من يقومون على تيسيرها، ولها توجهها التوافقي الخاص ممثلا في الدستور، والذي تتبلور فيه أهدافها وتبرز فيه أيضا السُبُل التي تعتبر كافة أفراد الدولة مواطنين بالضرورة قبل النظر في اختلافاتهم وانتماءاتهم، وهي منظومة نسقية عموما، تراتبية في مجتمعاتنا، تقود بالضرورة الى ثبات الدولة واستقرارها ولا تؤدي الى زعزعتها او اهتزازها حال تغير الحكومات.
ومن الأمور التي تجعلك تستشيط غضبًا، كأحد المنضوين تحت لواء التنوير “الموضوعيّ” غير المؤدلج، وإلى المدافعين عن العلمانية بكافة مكوناتها الديمقراطية، هو سعي بعض العلمانيين العرب إلى “قولبة” القضية، وتحميلها دائمًا بسياقات -لا تحتملها- مستدعاه من المواقف الشخصية/الفكرية في العمل العام، وغالباً ما يرتبط معظمها بـ “السياسي”. فعلى سبيل المثال نرى أنه قد تشكلت دوجما موازية للعلمانية، تقول إن كل علماني هو “ملحد”، “لاديني” بالضرورة أو على الأقل “ربوبيّ”، في حين أن الفِكر العلماني يتجاوز مثل تلك التصنيفات والاعتقادات، لتنظر إلى فردانية الشخص وكونه مواطنًا بالضرورة دون إعطائه صكوك الفهم والترقي داخل التراتبية العلمانية بمقدر ابتعاده عن الدين والمعتقدات، وبمقدار مواقفه ومسافته من التيارات الدينية أو الدين عمومًا. وهي مغالطة قد انتشرت كثيرًا ويمكن تفهمها إذا تم وضعها داخل سياق الصراع العسكري الديني خصوصا معارك العقد الأخير مع جماعات الإخوان المسلمين في شمال إفريقيا، والجماعات الوهابية والجهادية والشيعة الإمامية المنتشرة في الجزيرة العربية واليمن والشام واليمن.
لقد تشكلت دوجما موازية للعلمانية، تقول إن كل علماني هو "ملحد"، "لاديني" بالضرورة أو على الأقل "ربوبيّ"، في حين أن الفِكر العلماني يتجاوز مثل التصنيفات والاعتقادات، لتنظر إلى فردانية الشخص وكونه مواطنًا وفقط.
ونتيجة لتلك الصراعات التي أخلفت دماراً في العديد من الأقطار العربية، أصبح هناك موقف عدائيّ من قِبَل ممثلي العلمانية لكل من لديه اعتقاد، حتى ولو كانت له وجهته المناوئة والمخالفة لأصحاب تيارات الإسلام السياسي والمسيحي المتشدد، ومن هُنا لم تعد هناك احتمالية لبروز رؤية علمانية موضوعية تتعامل مع الفرد العربيّ كجهاز عقائدي – المُصطلح للمُنظِرة السورية وفاء سُلطان في كتابها “نبيك هو أنت“- الذي يتماشى مع الخصوصية الثقافية العربية التي يجب أن تكون ضمن نطاقات اهتمام المشروع التنويري العلماني العربي البعيد عن تصفية الخلافات التاريخية وكذلك بعيد الانتصار لعلمانيات أخرى مستهلكة وتليق بتاريخيات أخرى، لا نصيب لمنطقتنا العربية منها. وهُنا محل دراسة/موضوع/تطبيق ذاك المشروع لابد وأن تتم بمعزلٍ عن السرديات الغربية والأوروبية التي تتماشى مع الظرف التاريخي الحادث مع سقوط اللاهوت والكنيسة وتبعات القرون الوسطى والثورة الفرنسية. فمن باب الموضوعية قراءة مشروعات أعدها مفكرين بحجم د. طه حسين، ومحمد حسين هيكل، ومحمد أركون، وطلال أسد، وحسن حنفي، ومحمد عابد الجابري وغيرهم، بالتوازي مع قراءة روسو ولوك وستيوارت ميل وكالفن وغيرهم، فالأولى النظر إلى الظرف التاريخيّ بدلًا من الحفر في المياه باستدعاء أثوابٍ أخرى ليست على مقاساتنا.
وأهم الإشكالات أيضًا في رأيي التي تقف حائلًا أمام التفاف المثقفين والتنويريين حول نموذج ونسق علماني واضح، هي إشكالية سيكولوجية متوارثة في الأساس ومُكتسبة من نزاعات وتجارب الماضي الفاشلة والتجرعات المريرة لميراث عقود من تغييب العقول وحمل الناس على التفكير بعقول السُلطة بكافة مكوناتها، بالإضافة إلى انتهاج سياسات “التعليم البنكي” -على حد تعبير المنظر البرازيلي باولو فيريري في كتابه الهام “التخلف الاجتماعي مدخلًا إلى سيكولوجية المقهور”- المتمثل في إيداع المعلومات دون التفكير النقدي والشك المنهجي. وهذه الإشكالية تتمثل في إنتاج علمانيين بصريح العبارة متسامحين لا يؤمنون بالتسامح، ومعيبون وهم أولو النواقص، يشتكي البعض منهم جلد السُلطة وهم ممسكون بسياطها، يؤمنون بحرية الفِكر وهم أول من يشارك في الاغتيالات المعنوية، يسعون إلى الحقائق أنصافها طالما أنها ستداهن وتنتصر لمواقفهم البرجماتية خصوصًا أمام المحايدين وقت الأزمة، موضوعيتهم ترف لا تعبر عن إخلاص أكبر لقضايا الوطن بل هي رغبة يضمرها لا وعيهم في التشفي ممن نكّلوا بهم باسم الدين وأضاعوا أعمارهم بعيدًا عن الملذات والاستمتاعات باسم العادة المستمدة من أحكام شريعة الدين والمجتمع.
وطبقًا لهذه السمات المتضاربة والمتناقضة والتي تشكل غالبية عقول علمانيي وتنويريي العقود الأخيرة، نرى شيوع ظاهرة المثقف الـ FULL PACKAGE أي قولبة الفرد أو “الآخر” وفق ما يتفوه به ووصمه به طيلة حياته، في حين أنه على سبيل المثال الكثير من التنويريين والمفكرين العلمانيين قد أتوا من خلفيات إسلامية متطرفة، وتطورت أفكارهم مع مرور الوقت وأصبح جزء كبير منها مما هي عليه الآن نتيجة المراجعات والمحاسبات والاعترافات، إلا أنهم لا ينظرون للمواقف في سياقاتها، ولا بدرجة توافق الفكر والقول والفعل، ولا إلى آراء الأفراد في ضوء الظروف التاريخية وظروف المجتمع حينها والحوادث السياسية، بل هي رغبة في قتل الآخرين وإقصاء أكبر قدر منهم خارج الحلبة، لا بمنطلق احتواء عقل الآخر المراجع لأفكاره والمار بنفس الطور التجاربيّ لفلترة الأفكار، والنظر للآخرين بموضوعية مع الخلاص من الرغبة في التشفي والإقصاء، وهنا يقول المهاتما غاندي: “إننا سوف نكسب معركتنا لا بمقدار ما نقتل من خصومنا، ولكن بمقدار ما نقتل في نفوسنا الرغبة في القتل”
سوف نكسب معركتنا لا بمقدار ما نقتل من خصومنا، ولكن بمقدار ما نقتل في نفوسنا الرغبة في القتل
غاندي Tweet
فليس شرطًا أن يكون الفرد ناقدًا للأديان لكي يحمل مزية الكياسة والفهم، ومن الممكن أن يكون عنصرًا إسلاميًا أو مسيحيًا متدينًا ومعتقدًا وتكون لديه في نفس الوقت تصورات تقدمية للدولة العلمانية المدنية، وكذلك رؤية واضحة ومنطقية تجاه المكون الديني/العسكري وكذلك بالنسبة إلى معضلة الحكم الدائرة في كثير من بلدان العالم العربي في الخمسة أو ستة عقود الاخيرة، وينطبق ذلك من أول الخط بمشاركة المواطن العادي إلى آخر الخط وصولًا إلى الإنتلجنتسيا والمفكرين. فليس شرطًا أن نحترم -كمثقفين تنويريين- رؤى الآخرين تجاه قضايا العلمانية وقضايا الساحة عمومًا طالما كانت وفق مؤهلاته التي يحددها أولياء المنظومة عبثًا، وأهم هذي المؤهلات والمقومات المواقف السابقة للفرد ودرجة دنوها وتطابقها مع النسق العلماني والاتجاه النيو ليبرالي، في حين أنه ليس من المستبعد بمكان أن يكون ذاك الفرد المستبعد من رحمات العلمانية ناقدًا موضوعيا لمكونات السُلطة بطريقة تقربه إليهم من الدولاتيين المباركين لكل ما هو سلطوي وحكوماتيّ.
وعليه ثمة عوامل أخرى تحكم الموضوع، طبقًا للاتساق مع القاعدة أعلاه، مثل مقدار مراجعة الفرد لآرائه، ودينامية منهجه ونقده المنحاز بشكل صيروري للرؤى التقدمية متحررًا من آراء ووجهات سابقة، العامل الآخر والأهم هو الفهم الخاطئ والمُداهن في نفس الوقت للمثقف أو المفكر الكامل الذي لا يتم الفصل بين مواقفه وإبداعه وبين سابقاته ورؤاه الحالية، والتأصيل المفتري لقاعدة الاتساق المخادع؛ أي لابد من تماس السياسي والديني والاجتماعي والاقتصادي في منهجية للفرد المُرحب به وسط زمرة العلمانيين، وكذلك حينما لا ترتبط بصورة أكبر بالغير لاهوتي، ولا تنبثق جميعها من كل ما هو تنويري، بغض النظر عن مساحات الاتفاق التي يمكن أن تؤسس في النهاية إلى مجتمع مدني علماني يحترم الحقوق والاختلافات تكون فيه السلطة للقانون ويكون سوطًا على رقاب الجميع بخلاف معتقداتهم ووجهاتهم، الذي يُعَد الهدف الأسمى لأية روابط لها علاقة بالمواقف والرؤى ومناهج أفكار الأفراد -بخلاف طبقاتهم المعرفية وتراتبيتهم الاجتماعية- وما تصبو إليه بالنسبة لمجتمعها بشكل براجماتي وواقعي وربما أخلاقي.
وتبقى هنا علامة استفهام، أي علمانية نريدها في عالمنا العربي مع الأخذ في عين الاعتبار الجذور الدينية والثقافية الضاربة في القدم؟ هل هدفنا المنشود ينصب على الدعوة إلى عقلانية جافة مسطحة تستبعد كل من يمتثل وعيه لاعتبارات دينية وثقافية كليا بحجة أنها ظلاميات، وفي نفس الوقت لا نريد أصولية متعصبة تكفر الآخرين وتدعو إلى ذبحهم؟! هل نحن حقًا في حاجة الى علمانية ديمقراطية مستنيرة تجافي الجفاف الفكري المختلف وتنافي التعصب؟