مع كل الجهود الأممية والإقليمية لإنهاء الحرب والدخول في عملية سلام ومصالحة يمنية تطوي عقدًا من الصراعات والاقتتالات الداخلية، وتحول اليمن لمسرح صراعات إقليمية، يظهر الحوثيون في مواقف أكثر تصلبًا تجاه مبادرات السلام وشروطٍ تعجيزية أو اقصائية، في الوقت الذي يمضون في مشروعهم العرقي بتعميق وجودهم كدولة شمولية طائفية في مناطق سيطرتهم واستمرار محاولاتهم في التوسع لمناطق سيطرة الحكومة الشرعية، لفرض واقع مختلف أمام المجتمع الدولي والإقليمي، واقع القوة على الأرض.
يدرس الحوثيون فرص نجاح مشروعهم في نموذجين من التجارب الثورية، أحدها محلي يعتمد على فهم التركيبة المجتمعية للمجتمع اليمني، وآخر يمثل تجربة نجاح الدولة الدينية في الثورة الإسلامية في إيران. من جهة يرى الحوثيون بأنهم كمشروع طائفي عرقي يمتلكون فرص البقاء والنجاح كما كانت عليه مؤلفات القبائل اليمنية في العهد الجمهوري منذ سقوط الدولة الإمامية ستينيات القرن الماضي، وازدهار عهد قبيلة حاشد التي استطاعت السيطرة على مراكز صناعة القرار وتقاسمها بشكلٍ طفيف مع بقية المكونات القبلية والسياسية.
ومن جهةٍ أخرى يرى الحوثيون في ثورتهم التي أفرزت مشروع الدولة الشمولية تحت حكم الهاشمية السياسية نموذج نجاحٍ آخر للثورة الإيرانية نهاية سبعينات القرن الماضي، لكن هل يمتلك مشروع الدولة الحوثية فرص البقاء التي استطاع النظام الإسلامي في طهران تحقيقها؟ وهل التجربة الحوثية ذاتها هي التجربة الإيرانية؟ وهل المشروع الهاشمي في الدولة الحوثية هو النظير لمشروع القبيلة اليمنية في مركز القرار؟. هذا ما نحاول الإجابة عليه في هذا المقال.
الحوثي ليس إيران
قبل الخوض في هذا الحديث، هنالك حاجة لمعرفة طبيعة المجتمع الإيراني والمجتمع اليمني كأرضية توفر الحاضنة لمشروع الثورة الدينية، ويعد المجتمع اليمني واحدًا من أكثر المجتمعات العربية والإسلامية محافظة وعزلةً عن التحديث السياسي والاقتصادي والفكري، بيئةٌ يرى فيها الحوثي بأنها توفر أرضيةً أفضل من تلك التي وجد ويعيش فيها مشروع الثورة الدينية في إيران؛ بل إن الحوثيين أنفسهم يسخرون من انفتاح المجتمع الإيراني وفشل الثورة الإيرانية في تحويله فكريًا وعزله عن الغزو الفكري الغربي حسب تسميتهم.
ومن جهةٍ ما، يتناسى الحوثيون بأنهم مشروعٌ عرقي أكثر منه مشروعًا دينيًا، وهو على العكس من المشروع الثوري في إيران، كمشروعٍ ديني مؤسسي أكثر منه مشروعًا عرقيًا. إيران مشروع بنظرة طائفية، والحوثي مشروع عرقي أعمق. إيران مشروع سياسي متطور لمذهب أصولي (الاثنا عشرية)؛ أما الحوثي فهو مشروع لمذهب سياسي الأصل قائم على السلطة السلالية في المقام الأول.
النظام الإسلامي السياسي في طهران ليس التجربة الحوثية في اليمن ولن يكون كذلك، فيتوهم الحوثي بأن نجاح تجربة الجمهورية الإسلامية يعني بأنه قادر على تحقيق مشروعه الذي يظنه متشابهًا، ويعلق في وهم أن البيئة التي يوجد فيها مشروعه أكثر ملاءمة من بيئة المجتمع الإيراني كمجتمع يعيش تجربة النظام الديني السياسي. الفوارق التقليدية والعزلة الثقافية والاجتماعية التي يعيشها المجتمع اليمني بمعزلٍ عن العالم والتي يزيد الحوثي في تعميقها، على العكس من انفتاح الشعب الإيراني وحداثته الاجتماعية والثقافية هي البيئة التي يظن الحوثي أنها توفر أرضية أفضل من تلك في التجربة الإيرانية لمشروعه.
وهنا يغفل الحوثي الفارق الأيديولوجي والفارق السياسي والفارق الاقتصادي في تركيبة المشروعين الإسلاميين في طهران وصعدة. الفوارق التي تحدد فرص البقاء لكل مشروع من المشروعين الذي يحاول الحوثي الظهور فيه كمشروع استنساخ للتجربة الإيرانية؛ وهو على العكس من ذلك تمامًا.
الفارق الأيديولوجي
قد يظهر بشكلٍ سطحيٍ بأن مشروع الثورة الإسلامية ومشروع الحوثي مشاريع شيعية تمنح أفضلية مواطنة للأقلية الهاشمية، إلا أنها على العكس من ذلك تمامًا؛ يأتي مشروع الثورة الإسلامية في طهران من عمقٍ شيعي (اثنا عشري)، ومشروع الحوثي من عمقٍ سياسي زيدي. وبالتأكيد فإن واقع الاثنين مختلف جدًا. يقف المذهب الاثنا عشر عند الإمام المهدي في جزئية سيادة الهاشميين وحقهم في السلطة، لتتحول من بعده وتمتد في الواقع المعاصر بنظرية ولاية الفقيه لسلطة رجل الدين، وهنا رجل الدين الهاشمي وغير الهاشمي الذي تنتخبه المؤسسة الدينية، فيما يبقى المذهب الزيدي أشبه بالأيديولوجية العباسية في حصر السلطة في الأقلية الهاشمية، في رمزها الأقوى صاحب الحق والغلبة؛ وهو العامل الأهم في تشكيل غالبية الصراعات الداخلية في تاريخ الدولة الزيدية طوال ألف عام.
ساعد هذا التصور في الفلسفة السياسية الإيرانية ما بعد الثورة الإسلامية في ولادة نموذج حكم المؤسسة الدينية الذي استطاع ضمان بقاء التجربة واستقرارها، فيما الحوثي كان إعادة ولادة لمشروع حكم الأقلية العرقية الهاشمية في أغلبيات عرقية معادية ومتصارعة، بل اختزال هذه الدعوة العرقية في حكم الأسرة الواحدة. وهذا هو الفارق الأيديولوجي بين المشروعين.
فهم هذا التركيب يجعل من مؤلِّفات المجتمع السياسي في النظام الإيراني مكونةً من رجال الدين، والطبقة الرأسمالية الإقطاعية التي استطاعت المؤسسة الدينية التماهي معها والسيطرة عليها في آخر المطاف، فيما يظهر واقع الحوثيين في المجتمع السياسي اليمني أقلية عرقية تتصارع مع بقية المؤلفات العرقية للمجتمع اليمني تحت غطاء الصراع الطائفي والحرب الخارجية؛ الأمر الذي يغير من إمكانية توفر الفرص التي حظيت بها التجربة الثورية الدينية في إيران للحوثيين في اليمن.
الفارق السياسي
يقوم النظام الإسلامي في طهران على المؤسسة الدينية، حكم رجال الدين الذي قد يظهر في حِراكات وتجاذبات داخلية للنفوذ غير مستقرة في أوساط عائلات نخب رجال الدين. مشروع الثورة هناك هو مشروع يحمل عمقًا مذهبيًا، ولكنه يتجاوزه لسلطة المؤسسة لا العرق، وهو ما كان مميزًا للمذهب (الاثنا عشري) عن الزيدي. فيما المشروع الحوثي هو مشروع عرقي خالص مستمر في عدة تجارب ومحاولات للعودة إلى الواجهة السياسية في اليمن تقف وراءه وبكل وضوح الهاشمية السياسية.
على مدى قرون، ظهرت الدولة الزيدية كدولةٍ ملكية تقليدية أكثر منها دولة دينية، دولة يستمر فيها توريث السلطة داخل الأسرة الهاشمية الواحدة قبل أن تنقلب عليها أسرة هاشمية أخرى مع وفاة إمام الدولة وفتح صراعات مع أبناء وأسرة الإمام الراحل؛ وهي ذات التجربة التي لا يستطيع الحوثيون تجاوزها، فمن صراعات الأسر الهاشمية الداخلية في تصدر مشهد المذهب الزيدي، تنتقل القيادة الدينية والسياسية داخل الجماعة من حسين الحوثي لأخيه عبد الملك، ويضخم الدور الروحي لزعيم الجماعة ومنحه هالة القدسية الدينية والحنكة السياسية في الوعي الشعبي، وتستمر المخاوف حول مستقبل المشروع الهاشمي في الجماعة إذا ما سقط عبد الملك.
ماذا بعد عبد الملك الحوثي؟ ومن هو الشخص المقدس والمختار لخلافته؟ وهل يمكن أن تنتقل السلطة خارج أسرة الحوثي؟
بالتأكيد هي أسئلة لا تملك أجوبةً منذ ألف عام؛ سوى أن خليفة عبد الملك هو الصراع والصراع وحده، وهو قصور في نظرية الجماعة السياسية لا يمكن لها أن تتجاوزها قبل أن يسقط مشروعها دينيًا وسياسيًا.
على العكس من ذلك، تظهر ولاية الفقيه في طهران متجاوزةً الصراع باستمرار المنصب الأعلى في سلطة الدولة الدينية عبر مؤسسة رجال الدين الذين ينتخبون الولي الفقيه التالي. وبالتأكيد لن تكون في ذات الأسرة التي ينتمي لها الولي الفقيه السابق؛ وهي تجربة قد نجحت في أصعب ظروفها مع رحيل الخميني وتنصيب خامنئي واحتمالات خلافته من قبل مجموعةٍ من الشخصيات الأكثر حضورًا في نخب الأسر الدينية الساعية للمنصب. وهنا الفرق بين حكم المؤسسة الدينية وحكم النظرية العرقية والقبيلة والأسرة الهاشمية التي هي عليه في مشروع الدولة الحوثية.
الفارق الاقتصادي
وقفت الثورة الإيرانية على إرثٍ هائل من الثروات التي خلفها نظام الشاه وراءه، بالإضافة للمكاسب التي كانت ثورة الشاه الإصلاحية (الثورة البيضاء) قد حققتها طوال عقد من الزمان كواحدة من كبرى مصدري النفط وأكثرها امتلاكًا لاحتياطات النفط والغاز، ساعدت طفرة أسعار النفط تحقيق إيرادات ضخمة للنظام الإيراني بعد حرب الثماني سنوات مكنته من تحقيق نهضة تنموية واقتصادية داخليًا غلى الرغم من العقوبات والقطيعة الدولية التي واجهته، وهو بالتأكيد ما يفتقر له الحوثي في بلد مثل اليمن.
البنية التحتية الهشة والانفجار السكاني وشح الثروات وتدني المستوى التعليمي والمعيشي والافتقار للكوادر المتخصصة هي حزمة مشاكل لا يمكن لأن تسمح لمشروع سلالي في اليمن بالنجاح كسلطة سياسية في حالة السلم.
الهاشمية السياسية ليست الحاشدية السياسية
استطاعت إقطاعيات حاشد أن تضمن حصتها من السلطة طوال العهد الجمهوري أو القتال لأجلها في فترات متقطعة منه، وحتى محاولتها الأخيرة في حركة الربيع للسيطرة الكاملة على مقاليد الحكم بوصول إقطاعييها لكرسي الحكم. يتوهم الحوثيون بأن مشروع استحواذهم على الحكم سيدوم أكثر من مشروع الحاشدية السياسية بوصفهم مشروعًا يمتلك على الأقل في الوقت الحالي سيطرة كاملة على السلطة السياسية ومؤسساتها، وهو ما لم تحظ به إقطاعيات حاشد أو بقية القبائل طوال العهد الجمهوري.
إلا أنه في الحقيقة، الهاشمية السياسية مشروعٌ أقل حظًا في القبول الشعبي من الحاشدية السياسية، ذلك أنه مشروع عرقي ثيوقراطي شمولي على العكس من الحاشدية السياسية التي تظهر كنخبة انتفاعية اقطاعية فاقدة للأيديولوجيا.
افتقار القبائل وإقطاعياتها أو نخبها للعامل الأيديولوجي جعلها بهذا الشكل الانتفاعي، سمح لها الأمر أن تتماهى مع مؤسسات الدولة وتحت عناوين مراكز القرار في مفاصل مؤسساتها، وهو ما سمح بخلق بيئة حاضنة لها في السلطة السياسية والمجتمع. فوحدها مظاهر الفوضى الطائشة الخارجة عن المظاهر المدنية هي ما كان يكشف للمواطن العادي نفوذ وقدرات هذه الاقطاعيات القبلية داخل مؤسسات الدولة.
القيمة الأخلاقية تُمنح المعنى السامي بوصفها النمط الذي تريده الطبقة العليا في المجتمع، أرستقراطيته ونخبته؛ وهو المشروع العرقي الثيوقراطي في مشروع الهاشمية السياسية، ويأبى هذا المشروع إلا التحول لسلوك وتدين ونمط حياة، وأن يتدخل في حياة الناس بشكلٍ حاد ومباشر ويحضر في أدق تفاصيلها. وهي لا تحكم بصورة انتفاعية يمكن لها أن تتماهى تحت عناوين ومسميات مراكز القرار ومؤسساته في السلطة السياسية، بل تحكم بحقٍ أيديولوجي يحتاج استظهار مظاهر الخضوع والطاعة والتبجيل والتقديس من بقية الناس، يحتاج لاحترام الناس وتقليده في صلاتهم وحديثهم وتفكيرهم ليطمئن غول وهم التفوق العرقي الوجودي الذي بداخله لحقيقة وجوده. ولذلك لا يمكن لهذا المشروع أن يعمر طويلاً كما فعلت الحاشدية السياسية والتقاسمات المناطقية في العهد الجمهوري، ولا يملك ذات الفرص التي سمحت ببقائها.
يتوهم الحوثيون بقياساتٍ مقارنة إمكان نجاح مشروعهم واستمراره في تقرير مصير اليمن ومنطقة شبه الجزيرة العربية، ويغفلون فهم أنفسهم ومشروعهم في المقام الأول لدراسة فرص بقائهم، أو حتى إمكان مشاركتهم السياسية السلمية، ليكونوا مشروعًا ولد ليموت فقط.