في تلك المهنة الصعبة، مهنة الصحافة التي اخترناها أو اختارتنا هي، نحاول أن نقوم بما نحب، بما نشعر أنه واجبنا تجاه مجتمعاتنا العربية التي ننتمي لها، ذلك الانتماء الذي لا يتبدل مهما تبدلت أماكن إقامتنا طوعًا أو كرهًا. نحاول فقط، إيمانًا منا بدورنا في الحياة وإيماناً بواجبنا تجاه مجتمعاتنا أن نقوم بمهمة الناقد، المراقب، المنبه للسلطة والمجتمع، لما نرى أن له تأثيرًا سلبيًا كان أو إيجابيًا على مجتمعاتنا، لتقويم ما نراه سلبيًا وتركيز الضوء على الإيجابي والاهتمام به بصورة أكبر.
نقوم بمهامنا الصحفية دون إحساس بأي فوقية، لسنا فلاسفة ولا أصحاب سلطة وقرار، فقط نقول ملاحظاتنا للمجتمع، فمهنتنا أن نلاحظ ونشير ونسلّط الضوء، علّ نقاشًا مجتمعيًا ينفتح حول تلك الملاحظات، حينها يقرر المجتمع من خلال الحوار والشفافية وبالآليات الديمقراطية السلمية ما يراه مناسبًا له ويرفض ما يراه يشكل ضررًا.
يحتفل صحفيو العالم في الثالث من آيار/مايو من كل عام باليوم العالمي للصحافة، والذي واكب هذا العام الاحتفال بعيد الفطر المبارك، نحن في “مواطن” أجّلنا عطلاتنا، حاولنا الاحتفال على طريقتنا، لم نغفل حق أسرتنا وأصدقائنا، ولم نفوّت عيدنا السنوي بمهنتنا، والتي نعتبرها رسالتنا تجاه مجتمعاتنا، منّا من سهر بين أصدقائه، ومنّا من احتفل بين أولاده، منّا من صحب زوجته للسينما، وفي الصباح على مكاتبنا نحتفل مع صحفيي العالم بعيدنا، نحتفل من خلال ممارسة عملنا اليومي. لكن السلطات العمانية كان لها رأي آخر حول اليوم العالمي للصحافة.
صحافي يحال للمحاكمة
في الوقت الذي تستضيف فيه سلطنة عمان الدورة الـ 31 من مؤتمر الاتحاد الدولي للصحفيين الكونجرس نهاية مايو الجاري، فوجئ الشارع العماني في يوم العالمي لحرية الصحافة الثالث من مايو بخبر إحالة السلطات العمانية، ممثلة في الادعاء العام العماني، صحافي عماني “المختار الهنائي” إلى محكمة مسقط الابتدائية؛ وذلك على خلفية نشره لتغريدة في التاسع من مارس الماضي عن قضية فساد مالي وإداري في إحدى الوزارات العمانية.
وفي هذه القضية أدانت محكمة مسقط ثمانية متهمين بالاختلاس والتزوير، والتي منعت وزارة الإعلام العمانية الصحف من نشر الموضوع. وقد أشرنا في “مواطن”، ديسمبر الماضي، أن الصحف العمانية – بأمر حكومي- ممنوعة من تغطية قضايا الفساد، الأمر الذي نراه يُخل بمبدأ الشفافية والمساءلة، ونعتبره تضييقًا تعسفيًا على حرية الصحافة في عمان.
حسب المادة 249 من قانون الجزاء العماني (العقوبات)، يعاقب القانون بالسجن من شهر إلى سنتين وغرامة مالية بين 100 ر.ع (260$) و1000 ر.ع (2,600$) كل من نشر تحقيقًا أو وثيقة علنًا دون إذن من الادعاء العماني أو المحكمة المختصة.
ومع ذلك لم تُوجه السلطات تحذيرًا ولم تمنع أو تُصدر تحفظًا على النشر، لا قبل المحاكمة ولا بعدها. ويُشار إلى أن المادة 80 من النظام الأساسي للدولة، تتيح نشر الأحكام طالما كانت نهائية، حتى إن كانت المحاكمات سرية، وعليه فإن المختار لم يرتكب مخالفة أو ما يُوجب التحقيق معه أو محاكمته. كذلك لم تُوجه السلطات تحذيرًا ولم تمنع أو تُصدر تحفظًا على النشر، لا قبل المحاكمة ولا بعدها.
وزير الإعلام يختصم الهنائي
حسب المعلن أن الدعوى المسجلة بحق الهنائي سُجلت كدعوى عمومية، لكن مصادر خاصة لـ “مواطن” أفادت أن مقدم الشكوى للادعاء العام العماني هو وزير الإعلام الدكتور عبد الله الحراصي الذي هاتف المدعي العام شخصيًا لتقديم شكواه في حق الصحفي المختار الهنائي. وقد بدأ التحقيق مع الهنائي من قبل الادعاء العام في منتصف شهر مارس.
مصدر آخر من جمعية الصحافيين العمانية صرّح لـ “مواطن” أن الجمعية استلمت خطابًا من الهنائي قبل وقت سابق من موعد المحاكمة للتدخل في حل موضوع الشكوى المحالة ضده من قبل الادعاء العام.
وذكر المصدر بأن مجلس إدارة الجمعية اجتمع مع وزير الإعلام لطلب تدخله في الموضوع، ولكنه لم يبدِ أي مساندة، بالرغم من أن الجمعية تستضيف مؤتمر الاتحاد الدولي للصحفيين الكونجرس في دورته 31، وجاء طلب التدخل من أجل التدخل للحفاظ على سمعة السلطنة التي ستشهد زيارة أكثر من 300 صحفي يمثلون جهات إعلامية من أكثر من 100 دولة.
كما زعم المصدر أن الجمعية استطاعت الضغط على الادعاء العام لتأجيل الجلسة المزمع إقامتها في 8 أيار/مايو حتى انتهاء مؤتمر الاتحاد الدولي للصحفيين الكونجرس.
تأجيل محاكمة الهنائي
كانت القضية المرفوعة ضد الصحفي الهنائي قد قيدت للنظر فيها في الثامن من آيار/ مايو الجاري، إلا أن المحكمة قامت بتأجيلها لنهاية حزيران/ يونيو المقبل دون ذكر أسباب التأجيل. الأمر الذي قد يؤكد صحة زعم المصدر الخاص لـ “مواطن” بالضغط على الادعاء العام لتأجيل المحاكمة.
من جانبها طالبت منظمة “مراسلون بلا حدود” السلطات العمانية بإسقاط التهم الموجهة في حق المختار الهنائي على خلفية ما وصفته المنظمة في مطالبتها بـ “المنشورات المنددة بالفساد” مبدية تخوفها من مواجهة الهنائي عقوبة شديدة إذا ما استمرت إجراءات المحاكمة.
الصحافة العمانية إلى أين؟
منذ وصول السلطان العماني هيثم بن طارق للسلطة في يناير 2020، يشهد قطاع الصحافة العماني، والذي يعاني من التضييق، مزيدًا من التضييق وفرض القيود على قدرات الصحافيين للقيام بمهامهم؛ فبعد منع وزارة الإعلام في تعميمها في ديسمبر العام الماضي 2021 تناول الصحفيون ووسائل الإعلام لقضايا الفساد، قامت أيضًا بمنعهم من نقل أخبار مجلس الشورى العماني.
والجدير بالذكر أن غالبية القضايا المرفوعة ضد الصحافيين والمؤسسات الإعلامية في عمان منذ العام 2016 كانت تتعلق بنشر تحقيقات أو تصريحات لمسؤولين حول قضايا فساد مالي وإداري في الجهات الحكومية؛ مثل القضية المرفوعة ضد جريدة الزمن في العام 2016 والتي انتهت بأمر المحكمة بإغلاق الجريدة وسجن المتهمين الثلاثة بما فيهم رئيس تحريرها.
وقد جاء تصنيف عمان على مؤشر حرية الصحافة للعام 2022 في المرتبة 165 من أصل 180 دولة في المؤشر، بفارق ثلاثين رتبة عن وضعها العام الماضي في المرتبة 135، الأمر الذي يكشف تردي أوضاع حرية الصحافة وأمن الصحفيين العمانيين.
كما وصف المؤشر الصحافة المستقلة في عمان بـ “المستهدفة” من قبل السلطات، حيث أدت الضغوط السياسية لإيقاف وإغلاق العديد من الصحف المستقلة مثل الزمن والبلد، كما حُجبت “مواطن” عن الجمهور العماني للمرة الثانية منذ تأسيسها في العام 2013.
أما عن الصحافة العمانية الحكومية فيصفها المؤشر بأنها تضفي الطابع الإيجابي المبالغ فيه على تغطياتها الإخبارية لأي قضية حكومية، الأمر الذي يظهر سيطرة خطاب السلطة على وسائل الإعلام المحلية، حيث تقتصر الصحافة في مصادرها على المعلومات الواردة من الجهات الرسمية.
في حين يتعرض الصحفيون والمدونون للاعتقالات والمحاكمات تحت تهم الإساءة للسلطان أو لثقافة وعادات البلاد، إضافة لتهم الدعوة للتجمعات غير المرخصة وتعكير الأمن العام “تقويض هيبة الدولة”.
هل يستطيع مجلس الشورى احتواء الأزمة؟
قد تبدو إحالة الصحافي المختار الهنائي إلى المحاكمة في هذا التوقيت رسالة من السلطة للصحافيين بأن مزيدًا من الترهيب والتنكيل في انتظارهم إن حاولوا تقديم صحافة جادة ورصينة وملتزمة تجاه مجتمعها. أو ربما يسعى وزير الإعلام عبد الله الحراصي من تلقاء نفسه إلى إحكام قبضة حديدية على الصحافة والصحافيين العمانيين في محاولة لكسب أرضية أوسع داخل دوائر الحكم والنفوذ في السلطنة.
إلا أن وزير الإعلام يواجه في الآونة الأخيرة انتقادات على أدائه وعلى سياسته التضييقية، فقد قامت وزارته في كانون الأول/ديسمبر الماضي بإيقاف المذيعة خلود العلوي من تقديم برنامجها الإذاعي على إذاعة «هلا» المستقلة (والتي تعد أول قناة إذاعية خاصة ومستقلة في عمان) بعد نشر مقابلة أجرتها مع عضو مجلس الشورى محمد الزدجالي انتقد فيها كلاً من رئيس مجلس الشورى ووزير الإعلام، وأطلق مغردون وسم #متضامن_مع_خلود_العلوي للتضامن مع العلوي قبل أن تتصاعد الانتقادات وتتطور المطالبات بإعادة برنامج العلوي إلى المطالبة بمحاسبة وإقالة وزير الإعلام عبر وسم #إقالة_وزير_الإعلام.
كما نشرت وزارة الإعلام بيانًا في الخامس والعشرين من ديسمبر العام الماضي، إثر إيقاف العلوي عن العمل، قالت فيه إن استضافة وسائل الإعلام لأعضاء مجلس الشورى يتطلب تنسيقًا مسبقًا مع لجنة الإعلام بالمجلس، ما اعتبره إعلاميون وشوريون تقييدًا لحرية العمل الصحفي والبرلماني.
وتبع بيان وزارة الإعلام بيان آخر من مكتب مجلس الشورى في اليوم التالي أكدت فيه أن السياسة الإعلامية للمجلس “لا تتضمن منع أصحاب السعادة أعضاء المجلس من المشاركة في البرامج الإعلامية”، إلا أن لجنة الإعلام بالمجلس أصدرت بيانًا آخر بعد ذلك بيومين، كان خجولاً أكثر أشارت فيه إلى متابعتها إجراءات “التنسيق مع الجهات المختصة”، قد تفسر على أنها إشارة إلى وزارة الإعلام.
هذا والجدير بالذكر أنه تم استضافة رئيس مجلس الشورى خالد بن هلال المعولي على إذاعة «هلا» في مقابلة خاصة أجراها معه الصحفي المختار الهنائي وخلود العلوي في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2019.
كل هذه الأحداث والتطورات دفعت مجلس الشورى العماني، ولأول مرة في تاريخه، أن يوافق بالأغلبية على استجواب وزير الإعلام العماني في الثامن والعشرين من مارس الماضي على خلفية التعميم الصادر من الوزارة بحظر تداول وقائع جلسات محاكمات قضايا الفساد والمخالفات المالية والإدارية؛ حيث صرح عضو المجلس بدر الجابري، بأن من بين التهم الموجهة للوزير والتي تستوفي الشروط، هي تعميم لوسائل الإعلام بحظر نشر جلسات المحاكم، باعتبار هذا الأمر تجاوزًالصلاحياته وتدخلاً في اختصاص القضاء، بالإضافة لتهم بإهدار المال العام على خلفية طباعة عدد من الصحف التي لم تنشر.
على الرغم من موافقة مجلس الشورى على طلب استجواب وزير الإعلام، لم يبد الوزير ولا رئاسة الوزراء أي إشارة على موعد الاستجواب الذي لا يمكنه رفضه، لكن بيده التسويف كيفما شاء.
هل نشهد في الفترة المقبلة تفاقم الأزمة وانفجارها بين وزير الإعلام من جهة والصحافة وأعضاء مجلس الشورى من جهة أخرى؟ أم أن العقلاء في السلطة سيتدخلون لتفكيك الاحتقان وخلق مساحة أوسع للصحافة، لا حبًا في الشفافية، لكن للحفاظ على استقرار الأمور؟ هذا ما سنشهده في الفترة القادمة.
اقرأ أيضا: التصنيف العالمي لحرية الصحافة في 2022