في عصر الدولة الأموية، ظهرت بعض المغنيات اللواتي حظين بشهرة كبيرة، منهن جميلة السلمية التي أفرد لها أبو الفرج الأصفهاني جزءً واسعًا للحديث عنها في الجزء الثامن من موسوعته الشهيرة “الأغاني”، خاصة أن البعض وصفها بأنها “أعلم العرب بصناعة الغناء”، أو “أعلم أهل الأرض بالغناء”.
من هي جميلة السلمية؟
لعلّ جميع الأخبار التي نُقلت عن جميلة السلمية، كان مصدرها الأصفهاني في “الأغاني”، الذي يعرّفها بقوله: “هي جميلة مولاة بني سليم، ثم مولاة بطن (جماعة) منهم، يقال لهم بنو بهز، وكان لها زوج من موالي بني الحارث بن الخزرج، وكانت تنزل فيهم، فغلب عليها ولاء زوجها، فقيل: إنها مولاة للأنصار، تنزل بالسنح (موضع قرب المدينة)، وهو الموضع الذي كان ينزله أبو بكر الصديق، ذكر ذلك إبراهيم بن زياد الأنصاري الأموي السعيدي، وذكر بن عبد العزيز بن عمران أنها مولاة للحجاج بن علاط السلمي”.
وذكرها خير الدين الزركلي، أيضا في مؤلفه الشهير “الأعلام”، مؤكدًا أنها “تزوجت بمولى لبني الحارث بن الخزرج (من الأنصار)، وكانت تنزل بالسنح (في عوالي المدينة)، ووضعت ألحانًا تهافت الناس على سماعها، وأحسنت الضرب على العود أيضًا أيما إحسان، فكانت نابغة الغناء والتلحين والموسيقى في عصرها”، مشيرًا إلى أن “معبد (أستاذ المغنيين – يقصد معبد بن وهب أشهر المغنيين في هذا العصر) كان يقول: أصل الغناء جميلة ونحن فروعه”.
وتحدث عنها المؤلف داوود الأنطاكي، في كتابه “تزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق”، قائلا: “مغنية من أعلم المغنيات في العصر الأموي، وأصل من أصول الغناء، وكان عمر بن أبي ربيعة (الشاعر المخزومي القرشي) يبكي لسماع صوتها”.
ويؤكد عمر كحالة في كتابه المعنون بـ"أعلام النساء": "كانت جميلة ممن لا يشك في فضيلتها في الغناء ولم يدّع أحد (ولم يقدر أحد على) مقاربتها في ذلك، وكل مكي ومدني يشهد لها بالفضل".
"أصل من أصول الغناء"
وما يدل على شهرتها الواسعة، ما ذكره أبو الفرج الأصفهاني بأنها “أصل من أصول الغناء، وعنها أخذ معبد وابن عائشة وحبابة وسلامة وعقيلة العقيقية والشماسيتان خليدة وربيحة (جميعهم مغنيون في هذا العصر)، وفيها يقول عبد الرحمن بن أرطاة:
إن الدلال وحسن الغناء وسط بيوت الخزرج
وتلكم جميلة زين النساء إذ هي تزدان للمخرج
إذا جئتها بذلت ودها بوجه منير لها أبلج
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي جعفر القرشي عن المحرزي قال: (كانت جميلة أعلم خلق الله بالغناء)، وكان معبد يقول: (أصل الغناء جميلة وفرعه نحن، ولولا جميلة لم نكن نحن مغنين)”.
وبالطبع هناك سؤال في هذا الموضع فحواه: “ممن أخذت جميلة الغناء؟”، خاصة أن أبا الفرج الأصفهاني ذكر أنها توفيت سنة 125 من الهجرة/ 743 ميلادية، ما يعني أنها ولدت مبكرًا ولم يكن هناك مغنيون كثيرون في هذا العصر، وهو ما أجاب عنه صاحب “الأغاني” أيضًا.
يروي “الأصفهاني”: “قال إسحاق وحدثني أيوب بن عباية، قال حدثني رجل من الأنصار قال: سُئلت جميلة: أنى لك هذا الغناء؟، قالت: والله ما هو إلهام ولا تعليم، لكن أبا جعفر سائب خاثر كان لنا جارًا، وكنت أسمعه يغني ويضرب بالعود فلا أفهمه، فأخذت تلك النغمات فبنيت عليها غنائي، فجاءت أجود من تأليف هذا الغناء، فعلمت وألقيت، فسمعني موالياتي (صواحبات – صديقات) يومًا وأنا أغني سرًا ففهمنني ودخلن عليّ وقلن: (قد علمنا فما تكتمينا)، فأقسمن علي، فرفعت صوتي وغنيتهن بشعر زهير بن أبي سلمى:
وما ذكرتك إلا هجت لي طربا إن المحب ببعض الأمر معذور
ليس المحب بمن إن شط غيره هجر المحب وفي الهجران تغيير
نام الخلي فنوم العين تقرير مما اذكرت وهم النفس مذكور
ذكرت سلمى وما ذكري براجعها ودونها سبسب يهوي به المور
وتؤكد جميلة السلمية، وفقا للرواية: “فحينئذ ظهر أمري وشاع ذكري، فقصدني الناس وجلست للتعليم، فكان الجواري يتكاوسنني (يتزاحمن حولي)”.
لقاء جميلة بـ"عبدالله بن جعفر"
وبحسب “الأصفهاني”، زار عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، جميلة السلمية في منزلها، فاستقبلته بأفضل صورة، ولندع صاحب “الأغاني” يروي القصة؛ إذ يقول: “حدثني أبي قال حدثنا يونس، قال لي أبو عباد: أقبل على جميلة عبد الله بن جعفر، وكانت شديدة الفرح، فقامت وقام الناس (الحاضرون عندها آنذاك)، فتلقته وقبلت رجليه ويديه، وجلس في صدر المجلس على كوم لها وتحلق أصحابه حوله (أحاطوا به)، وأشارت إلى من عندها بالانصراف، وتفرق الناس، وقالت: يا سيدي وسيد آبائي وموالي، كيف نشطت إلى أن تقل قدميك إلى أمتك؟ قال يا جميلة: قد علمت ما آليت على نفسك (أقسمت) ألا تغني أحدًا إلا في منزلك، وأحببت الاستماع وكان ذلك طريقًا مادًا فسيحًا، فقالت: جعلت فداك، فأنا أصير إليك وأُكفر (كفارة يمين الحلف)، قال: لا أكلفك ذلك”.
وتابع عبد الله بن جعفر، رضى الله عنه، حديثه مع جميلة السلمية، قائلا: “وبلغني أنك تغنين بيتين لامرئ القيس (الشاعر الجاهلي) تجيدين الغناء فيهما، وكان الله أنقذ بهما جماعة من المسلمين من الموت”، فردت عليه الأخيرة: “يا سيدي نعم”.
ويؤكد الراوي، وفقا لما نقل “الأصفهاني”: “فاندفعت تغني بعودها، فما سمعت منها قبل ذلك ولا بعد إلى أن ماتت مثل ذلك الغناء، فسبح عبد الله بن جعفر والقوم معه”، مشيرًا إلى أن “البيتين هما:
ولما رأت أن الشريعة همها وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طامي
فلما فرغت قال جميلة: أي سيدي أزيدك؟ قال: حسبي، ونهض عبد الله والقوم معه، فما رأيت مجلسًا كان أحسن منه”.
وقد يدعم هذه الرواية ما ذكره الذهبي في مؤلفه “سير أعلام النبلاء”؛ إذ يقول في معرض حديثه عن عبد الله بن جعفر، إنه “كان وافر الحشمة، كثير التنعم، وممن يستمع الغناء”، مشيرًا إلى اختلاف الروايات في موعد وفاته ما بين عامي 80 و90 من الهجرة.
مزامير داود
الشهرة التي اكتسبتها جميلة السلمية، دفعت الكثير إلى الإقدام عليها للأخذ عنها، منهم ابن سريح الذي اشتهر بالغناء في العصر الأموي، الذي يروي أبو الفرج الأصفهاني أنه “زار جميلة ليسمع منها ويأخذ عنها، فلما قدم عليها أنزلته وأكرمته وسألته عن أخبار مكة فأخبرها، وكان عندها جارية محسنة لبقة ظريفة، فابتدأت تطارحها (تَطَارُحٌ – تَطَارَحُوا آرَاءَ جَدِيدَةً: تَنَاظَرُوا فِيهَا، تَبَادَلُوهَا)، فقال ابن سريح: سبحان الله! نحن كنا أحق بالابتداء، قالت جميلة: كل إنسان في بيته أمير وليس للداخل أن يتآمر عليه، فقال ابن سريح: صدقت جعلت فداءك! وما أدري أيهما أحسن؛ أدبك أم غناؤك!، فقالت له: كف فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احثوا في وجوه المداحين التراب)، فسكت، وطارحت الجارية بشعر حاتم الطائي:
أتعرف آثار الديار توهما كخطك في رق كتابا منمنما
أذاعت به الأرواح بعد أنيسها شهورا وأياما وحولا مجرما
فأصبحن قد غيرن ظاهر تربه وبدلت الأنواء ما كان معلما
وغيرها طول التقادم والبلى فما أعرف الأطلال إلا توهما
ويؤكد صاحب “الأغاني”: “حُدثت أنه حضر ذلك المجلس جماعة من حذاق أهل الغناء، فكلهم قال: مزامير داود”.
إشادة جميلة السلمية بـ"عزة الميلاء"
وعلى الرغم من شهرة جميلة الواسعة، إلا أنه عرفت في ذلك العصر مغنية أخرى، تدعى عزة الميلاء، قيل عنها إنها “سيدة من غنى من النساء”، وحظيت بإشادة “السلمية”.
نقل “الأصفهاني” ما ذكره محمد بن إسحاق في ذلك؛ إذ يقول: “حدثني أبي، عن سياط، عن معبد، عن جميلة السلمية أنها قالت عن عزة الميلاء: (لله درها ما كان أحسن غناءها، ومد صوتها، وأندى خلقها، وأحسن ضربها بالمزاهر والمعازف وسائر الملاهي، وأجمل وجهها، وأظرف لسانها، وأقرب مجلسها، وأكرم خلقها، وأسخى نفسها، وأحسن مساعدتها”، وما يدعم هذا الطرح ما رواه مؤلف “الأغاني” أيضا أن “عزة” توفيت عام 115 من الهجرة، أي قبل “السلمية” بــــ 10 أعوام.