تظل الأنثى منذ نشأتها حتى وفاتها مربوطة من عنقها بأغلال في يد رجل من عائلتها حتى يتم تسليم هذه الأغلال إلى زوجها، فتنشأ المرأة كمخلوق ساذج وتابع، وفي كل مرة تقع في الحب بعيدًا عن القوالب الاجتماعية المقبولة أو تمارس حريتها الجنسية خارج الإطار المسموح به، يَخُط عليها المجتمع بقلم الأخلاق وصم عاهرة، وعلى أثر هذا القمع الواقع فقط على المرأة التقت “مواطن” مع الكاتبة والمترجمة اللبنانية “جمانة حداد” لتأخذنا في رحلة حول مؤلفاتها وأفكارها المتمثلة في قيم المساواة وحرية الاختيار والجسد.
- “الأديان كرّمت المرأة”؟ صراحة، هذه اسطوانة معلوكة.
- هناك نوع يتوهّم أن رجولته تكمن في إخضاع مَنْ هم جسديًا أو اقتصاديًا أو سياسيًا “أضعف” منه.
- أن تمارس الجنس مع ألف رجل (أو امرأة)، أو ألا تمارس. أنا لا أعترف يما يسمّونه “عهر جنسي”.
- ليس هناك عهر في الجنس. العهر موجود حصرًا على المستوى الفكري والسياسي والاقتصادي والديني.
- على النساء أيضًا، أن يتوقفن عن الارتعاد خوفًا من الرغبة الأنثوية.
"لا أحد يتعجب من الاجتماع البديهي بين العناية بالخارج والعناية بالداخل إلا نحن العرب. لماذا؟ لأن من يهتم بالشكل تافه حكمًا في عرف مثقفينا، ومن يهتم بالثقافة مهمل لشكله حكمًا في عرف أهل الأناقة والجمال عندنا". هكذا قتلتُ شهرزاد
1. استنكرتِ تصنيف المجتمع للمرأة الجميلة على أنها غبية وساذجة، والمرأة المهملة لمظهرها على أنها هي المثقفة والفهيمة. كيف ترين هذه الثنائية؛ خاصة أنك إحدى هؤلاء النساء اللاتي كسرن هذه القولبة المجتمعية؟
للأسف هي ثنائية “صامدة” رغم كل التطوّر الذي يحدث حولنا في العالم. لا ثورات المعرفة المتتالية قدرت عليها، ولا الجهود النسوية والإنسانوية، ولا النماذج الكثيرة التي تناقضها وتبطلها على الأرض، ولا انفتاح العوالم بعضها على بعض. ذلك لأن ربط الشكل بالمضمون والعكس بالعكس هو أحد الأحكام الذكورية المهينة حيال المرأة التي لا تعدّ ولا تحصى في مجتمعاتنا خصوصًا، وفي العالم كله عمومًا، والتي ما زالت بـ “صحة جيدة”، مهما هدّدها الوعي وعارضها الواقع. لماذا لا تزال بـ “صحة جيدة”؟ لأنها تضع المرأة في جارور، تختزلها وتمنع تمدّدها، “المرأة كذا والرجل كذا. هذا ما تجيده المرأة وذلك ما يستطيعه الرجل، لا يجوز لها لأنها امرأة ويحقّ له لأنه رجل. ينبغي لها أن تَقنَع بقدرها (وقدرها طبعًا وحصرًا الزواج والإنجاب والطبخ والنفخ)، أما فهو فيجب ألا يكون هناك حدّ لطموحاته. الخ.”.
والأنكى أن أعدادًا هائلة من البشر ما زالت تربّي أبناءها وبناتها على هذه الكليشيهات والأدوار المنمَّطة. أبناء وبنات يكبرون على الإيمان بهذه المغالطات والمظالم إيمانًا شبه أعمى يحول دون اغتنامهم أي فرصة انعتاق منها قد تتاح لهم في المستقبل. ثمة من ينعتق طبعًا، لكنّ هؤلاء هم الاستثناء، وليست العملية سهلة: تحتاجين إلى الكثير من القوة لكي تكسري القالب وتخرجي منه وتعيدي تشكيل نفسك بمنأى عن تأثيرات نشأتك وبيئتك. لأجل ذلك من الجوهري والحيوي التمهيد للانعتاق، أكان فكريًا أم جسديًا، منذ الصغر، منذ الأصل، منذ نقطة الانطلاق. لن تنكسر الصيغ الجاهزة التي تكبّل تقدّمنا وتحدّ من قدراتنا كمجتمعات، إلا متى ترافقت تربية الأطفال مع وعي تنويري يتحدّى هذه الموروثات البالية، ويجهّز أجيالًا جديدة تفكّر بحرية وتعبّر بحرية وتعيش بحرية. متى يحدث ذلك؟
نحتاج إلى الكثير من الوقت، الكثير من التراكم، والكثير من الإرادة الصلبة والمعارك الطاحنة مع الجهل. نحن الآن ما زلنا -في غالبيتنا- “روبوتات” خاضعة للبرمجة التي نتعرّض لها منذ أن نرى النور. برمجة في البيت، برمجة في المدرسة، برمجة في التعاليم الدينية، برمجة على التلفزيونات وفي وسائل التواصل الاجتماعي، كل هذه العناصر تتضافر ضد الوعي الفردي منذ الطفولة، وتحدّ من مقدرة الإنسان على المساءلة واتخاذ القرارات. ما إن نكتسب القوة، والجرأة على طرح أسئلةٍ تشكّك فيما يُقدَّم لنا كبديهيات مطلقة، آنذاك يبدأ مشوارنا نحو الوعي والحرية، آنذاك نكفّ عن كوننا محض “متلقّين” ونصير فاعلين، والأهم: نصير مالكين لحياتنا وقراراتنا.
كتبت في "عودة ليليت" على لسان الله: "كم هول البلية التي أنزلتها بالأرض عندما نفيتها، وقد راعني عصيانها، فرجوتها أن تبقى ولم تبق، واخترعت لأجلها آدم فملته ورحلت وتمردت وعصتني فأرسلتُ ملائكتي لإرجاعها فأبت وعصتني"
2. هل ترين أن الذكر الشرقي يشبه الله في أنه يحب الأنثى المتمردة ليليت، وفي نفس الوقت يغضب لأنه لا يحتمل قوتها وجرأتها، ويبقى على حواء المطيعة المصنوعة من الضلع الأعوج ثم يندم على غياب ليليت؟
حسبي أنه لا يحبّها، لا لأنه لا يقدر أن يحبّها، وهو لا يقدر أن يحبّها لأنه لا يفهمها ولا يستطيع استيعابها ولا قدرة لديه على وضعها في خانة. الأصحّ أن نقول إنه “يشتهيها”، إنها تجذبه كالمغناطيس، لكنها ترعبه في الآن نفسه. هي أنثى حرّة، عصية على التبويب، وكل ما هو حرّ ويستعصي على التبويب يخيف الذكر الشرقي الذكوري (أضيف صفة الذكوري كي لا نقع في فخ التعميم). أصلًا هذا النوع من الذكور ليس إلا طفلًا يرتعد خوفًا، يتوهّم أن رجولته تكمن في تخضيع (وأحيانًا تعنيف) مَنْ هم جسديًا أو اقتصاديًا أو سياسيًا أو اجتماعيًا “أضعف” منه، يتوهّم أنه هكذا يظهر جبّارًا ويخفي خوفه عن الآخرين، بينما هو في الحقيقة لا يفعل سوى تشويه معنى الرجولة والهرب منها إلى عكسها تمامًا. كل عنيف وبطاش وطاغية هو حكمًا جبان، هو حكمًا يفتقر إلى الثقة بالنفس، هو حكمًا مستعد لأن يفعل أي شيء مهما كان ما يفعله فظيعًا أو مجرمًا أو حقيرًا، لكي يثبت أنه قوي وبطل وغير هش. ولكن مَنْ بين البشر ليس هشًا؟
جميعنا هشّ بلا استثناء: إناثًا وذكورًا ومروحة كلّ مَن يقعون بين هذين، كبارًا وصغارًا، شرقيين وغربيين، أغنياء وفقراء… الخ. جميعنا قابلون للانكسار والحزن واليأس والمعاناة، هذه من شروط أن يكون المرء على قيد الحياة. وقبول هذه الهشاشة واحتضانها وعيشها بلا شعور بالعار أو الرفض أو الغضب، هو القوّة الفعلية. وقبول أن المرأة شريكة مساوية وليست ضِلعًا، هو القوّة الفعلية. متى يعي كل رجل ذلك؟ آمل أن يكون قريبًا، قبل “الطوفان”.
3. كتاب “سوبرمان عربي” يبدأ بمقدمة بعنوان “لماذا أنا ملحدة”. هل ساورك القلق عند الإعلان عن توجه مثل هذا؟ ألم تخشي أن تفقدي الكثير من جمهورك النسوي؟ خاصة أن بعض النسويات يعتقدن أن المجتمع هو الذي سلبهنّ أغلب حقوقهن وأن الأديان السماوية كرّمت المرأة؟
أنا لا أكتب ولا أفكّر ولا أعيش من أجل “جمهور”، مهما كان هذا الجمهور، لكي يساروني قلق كهذا، أنا أكتب وأفكّر وأعيش من أجل إرضاء قناعاتي ومبادئي وأحلامي والأصوات الكثيرة في داخلي، من أجل ممارسة حقي في أن أكون مَن أنا بلا رتوش ومسايرات ومساومات، أيّد مَن أيّد وانزعج من انزعج. أقول ذلك بكلّ ما قد يوحي من أنانية وتمحور حول الذات. لن أشتري أي قرّاء أو جمهور. أحترم الناس أكثر من أن أفعل ذلك. لن أستميل أحدًا بواسطة الكذب والمناورة والزعبرة: هذه إهانة صفيقة للآخر.
المعادلة في الواقع بسيطة، بل بسيطة للغاية. أكتب نفسي، بكل ما فيها من حسنات وسيئات، من مزايا وأخطاء، من جمال وبشاعة، ثم أقوم بنشر ما كتبت. البعض يحبّه والبعض الآخر لا. البعض يحبّه لأنه يجد نفسه فيه، والبعض يكرهه حتى قبل أن يطّلع عليه. وللجهتين الحقّ المطلق في أن يفعلا ذلك، مثلما لي الحق المطلق في أن أكون حقيقية. المنطق نفسه ينطبق على قضية النسوية: أنا شخصيًا لا أرى أن كرامة المرأة وحقوقها تتناغم مع التعاليم والنصوص الدينية. وحقي أن أقول رأيي هذا على الملأ، مثلما هو حقّي في ألا أكون مؤمنة (والمسألتان منفصلتان في المناسبة، أي أنني لستُ ملحدة بناء على “موقف نسوي”، بل لأني لم أعد أؤمن بالدين وأعتبره اختراعًا بشريًا). في المقابل، ثمة نسويات مؤمنات يرين العكس، ويعتقدن أن الأديان تكرّم المرأة، ومن حقّهن أن يعتقدن ذلك ويقلن ذلك، وأن يكنّ في حاجة إلى التمسّك بإيمانهنّ. ما ليس من حقّهن ولا من حقّ أي أنسان، هو حرماني من حقي أنا وحق آخرين في تحدي هذا الاعتقاد ومساءلته.
"الأديان كرّمت المرأة"؟ صراحة، هذه أسطوانة معلوكة، ولا تفاسير، مهما كانت خلاقة، يمكن أن تغيّر واقع أن المرأة مجرد ضلع في فلسفة الأديان التوحيدية الثلاثة، وأنها محض تابعة للرجل.
لا حلّ لنا إلا بالانعتاق؛ فالانعتاق ثم الانعتاق. كلٌّ على إيقاعه/ا طبعًا. وذلك سيحدث لا محالة، الزمن والعلم كفيلان بسحق الخرافات؛ فالتاريخ أثبت ذلك.
4. عند التلفظ بعبارة “الحرية الجنسية”، أول ما يتبادر إلى أذهان أغلب العرب العهر الجنسي أو ممارسة الجنس بدون مسؤولية، فما هو مفهومك عن الحرية الجنسية؟
ليس أوضح منه مفهومًا: أن تكون المرأة الراشدة هي صاحبة القرار الأوحد والنهائي فيما يتعلّق بجسدها وجنسانيتها. أكان هذا القرار أن تمارس الجنس مع ألف رجل (أو امرأة)، أو ألا تمارس الجنس على الإطلاق. أصلًا أنا لا أعترف يما يسمّونه “عهر جنسي”، لا أعترف بالعهر مطلقًا في إطار الجنس، ليس هناك عهر في الجنس؛ فكل شخص حرّ بنفسه وجسده. العهر موجود حصرًا على المستوى الفكري والسياسي والاقتصادي والأيديولوجي والديني، العهر هو الطغيان، هو القمع، هو الفساد، هو النهب، هو غسل الأدمغة، هو شيطنة الآخر، وهلم جرًا.
أيضًا في سياق الحديث عن ممارسة الجنس “بمسؤولية”، لا يعني ذلك عندي ممارسة الجنس بـ “ضوابط”، بل حماية الجسد من الأمراض أو من أي حمل غير مرغوب بسبب ممارسته، تلك هي المسؤولية، وأيضًا وخصوصًا، في حال الشاب، عدم فرض هذه الممارسة على شريكته واحترام حقها في أن تغيّر رأيها حتى آخر لحظة.
5. داخل الكثير من البيوت المغلقة امرأة شهوانية تخجل من التعبير عن احتياجاتها، ورجل ضعيف جنسيًا يعتبر نفسه “فحلًا” بسبب خجلها، فيذهب ليتزوج بأخرى لأن زوجته “باردة جنسيًا” أو يذهب لعاملات الجنس. ماذا سيحدث لو واجهت المرأة ذلك الرجل داخل كل بيت؟
لكانت العلاقات بين البشر أشدّ جمالًا وتألقًا وصدقًا وتلقائية، ولعاشت النساء حيوات مرضية ومشبعة أكثر من تلك التي يعشنها الآن، ولكان معظم الرجال نموا ونضجوا ليصبحوا رجالًا بحق. يجب أن يدرك الرجال والنساء على السواء أن ليس هناك فريق “الشهوانيات” من جهة، وفريق “المحترمات” من جهة ثانية. ازدواجية القديسة والعاهرة تتفّه العلاقات وتسطّحها. كل عاهرة قديسة، كل شهوانية محترمة. ولنا الحق في، والقدرة على أن نكون الاثنتين معًا بحسب ما يتطلّبه الظرف أو الموقف أو الرغبة، وعلى الرجال خصوصًا، ولكن على النساء أيضًا، أن يتوقفن عن الارتعاد خوفًا من الرغبة الأنثوية، هي رغبة جبارة نعم، لكنها بسبب ذلك، يمكن أن تكون مصدرًا لا متناهيًا من العطاء واللذة والتجارب. ليستثمروها.
6. بعد تغليظ عقوبة الختان وانتشار ترميم البظر لإصلاح ما أفسده الختان، هل يدل ذلك على اعتراف المجتمع بأن للمرأة شهوة كالرجل، أم أنهم يمنعون الختان لخطورته الطبية فقط برأيك؟
أي اعتراف بأي شهوة؟ هذا سيناريو سوريالي مضحكٌ مبكٍ. لولا الحملات العالمية المتكرّرة ضد الختان لما اتُخذ قرار كهذا. مَن مِن المسؤولين العرب تهمّه شهوة المرأة ومتعة المرأة وحقّ المرأة في التلذذ بالجنس؟ هذا كله غير موجود، لا بل هو مرفوض تمامًا في العقلية الذكورية السائدة في أنظمتنا ومجتمعاتنا. فقط الرجل يتمتّع، والمرأة طبعًا موجودة لإمتاعه، هذا “حقّه الشرعي” وذلك “واجبها المقدّس”. هي غالبًا في فراشه “شيء”، محض أداة. حتى في حال المرأة غير المختونة، قلّة هم الشركاء الذين يولون أهمية لمتعتها هي. ومن بين أولئك القلّة الذين يولون أهمية كهذه، ثمة عددٌ لا بأس به يفعل ذلك لكي يطمئنّ إلى فحولته هو، ليس لأنه يريدها بالضرورة أن تتمتّع، هذه هي الحقيقة الفجّة والمرّة.
7. ما المبادئ التي جاهدت بكل قوتك لتعليمها لابنيك حتى لا يصبحا مع الوقت “سوبرمان عربي مزيف” وليكونا رجلين حقيقيين؟
الحرية، النزاهة، النبل، الإصغاء، الشجاعة، الكرم، الجرأة على الحلم، التعلّم المستمرّ، احترام المرأة وقدراتها وطموحاتها وحريتها، التعاطف مع الآخرين، المنافسة مع الذات… باختصار: القِيَم التي تجعلنا بشرًا جديرين بإنسانيتنا.
8. ما أكثر كتاب مقرّب إليكِ من بين كتبكِ؟ وعندما تتصفحينه تشعرين أنكِ وضعت جزءً منكِ فيه؟
في كل واحد من كتبي، في كل واحد منها بلا استثناء، جزء مني. بعض تلك الأجزاء في كتب معيّنة تكون أكبر من سواها في كتب أخرى، لكني موجودة فيها كلّها، واحدًا واحدًا وصفحة صفحة. أصلًا لا أعرف أن أكتب من دون أن أنهش بعضًا منّي وأحوّله كلمات. وأعلم أني في آخر المطاف، عندما أكتب كتابي الأخير في هذا العالم، سأكون أنا مجموع كل ما كتبت على مرّ الكتب والوقت. كمثل “بازل” يمكن تجميعه قطعةً قطعةً، لكي يعطي صورة كاملة عنّي.
9. في عام 2018 صرحت خلال حوار لكِ “أن غالبية النواب لا يمثلون ناسهم ولا مصالحهم وحقوقهم وهمومهم”. هل ترين أن هناك أملاً في وجود ديمقراطية حقيقية تمثل مصالح الشعب اللبناني في أحد الأيام؟
هناك أملٌ طبعًا؛ بل يجب أن نخترع هذا الأمل اختراعًا رغم أن الواقع صعبٌ ومعقّد للغاية. السلطة الحاكمة، أو بالأحرى “العصابة” المستحكمة بنا، مدّت جذورها تحت الأرض، وفي كلّ مكان، بحيث إنّه بمجرّد التفكير في استئصال شرشٍ واحدٍ من شروشها، سيكون مدعاةً لتفريخ ما لا عدّ له وإحصاء من الشروش المتجذرة في كلّ شيء، وفي كلّ مؤسسة. هذا هو الواقع. لكني لن أسلّم به، ولن أدعو أحدًا إلى الاستسلام له. لبنان يستحق أكثر من ذلك، نحن نستحق أكثر من ذلك، وسنعمل على تحقيق ما يستحق ونستحق، مهما تطلب الأمر من جهود وصبر ووقت ومواجهات شرسة. لا خلاص لنا في لبنان، وفي العالم العربي أجمع، إلا بدول علمانية، عادلة، حرّة، ديموقراطية وحديثة. وسوف نجعلها حقيقة رغمًا عن أنف كل ظلامي وكل فاسد.
10. منصور لبكي اعتدى على أكثر من فتاة، ومن بينهم سيليست عقيقي ابنة شقيقته، ورغم حكم المحكمة الفرنسية عليه بالسجن ثمان سنوات؛ رفض لبنان تسليمه إلى فرنسا! هل يدعم الاستبداد السياسي الاستبداد الذكوري؟ كيف ترين العلاقة بينهما؟
أصلًا حتى الحكم بسجنه ثمان سنوات لا يتناسب مع هول جرائمه في رأيي. وعدم تسليمه نذالة مطلقة وبرهان شراكة في الجريمة، فضلًا عن كونه تصرفًا غير قانوني. ولكن عن أي قانون وأي عدالة نتحدث في دولة منهارة كدولتنا؟ في أي حال، لطالما كان الدين والسياسة متحالِفَين في الظلم والقمع والإسكات والعنف والتمييز والذكورية. هنا مبدأ “مصلحة الزعيم قبل كل شيء.” وهناك مبدأ “مصلحة المؤسسة الدينية قبل كل شيء”، وفي اتحادهما قوة مضاعفة ومنفعة متبادلة. كلّ يبرّر للآخر جرائمه وفجوره وعنجهيته، لا بل يسهّلها عليه. يكفي أن نراجع كم من الديكتاتوريات في تاريخ العالم احتمت بالدين، وكم من المؤسسات الدينية الفاسدة احتمت بالسياسيين. جرائم البيد فيليا المتسلسلة التي ارتكبها كبار وصغار كهنة الكنيسة الكاثوليكية في جميع أنحاء العالم (ولا يزالون يرتكبونها) بلا عقاب أو ملاحقة أو بغضّ نظر حقير من المسؤولين عنهم- الذين لم يفعلوا غالبًا سوى نقلهم من مدينة إلى أخرى-، تستحق ثورة بنيوية في المؤسسات المسيحية. وفي الدين المسيحي نفسه. هذه الجرائم التي بدأنا نسمع عنها منذ بضعة أعوام فحسب، تظهر أيضًا مدى تجذّر ثقافة الأميرتان المافيوية في تلك المؤسسات.
وهي الثقافة نفسها التي تحكم عالم السياسة وتحالفاته تحت الطاولة: “حكّلي تـَ حكّلَك” نقول في لبنان. اسكت عنّي أسكت عنك، والتواطؤ بين الدين والسياسة حلفٌ شيطاني بامتياز. يكفي أن ننظر، كمثال واحد بسيط عن هذا السرطان الخبيث، إلى ما فعله تدخل الدين بالسياسة في لبنان، فقد حال وما زال يحول دون أن نصير شعبًا واحدًا، وحال وما زال يحول دون أن نتخلّص من طبقة حاكمة فاسدة تنهبنا وتقتلنا، وما زالت تجد من يدعمها بين الناس بسبب استغلال السياسيين للغرائز الطائفية. أكرّر: لا خلاص لنا إلا بالدولة العلمانية، العادلة، الحرّة، الديمقراطية والحديثة.