اتصلت بهما موظفة المفوضية تخطرهما: "تمت الموافقة على إعادة توطينكما، هل تقبلان بإعادة التوطين في فرنسا؟ أم أنكما تفضلان خياراتٍ أخرى؟ بالتأكيد لا يهمنا أي مكان، ما يهم أن نكون وأطفالنا آمنين، بالطبع نوافق". مكالمةٌ منذ عامين لا تزال هدى وعبير وأطفالهما ينتظرون تنفيذها.
تتقاطع مسارات حياتنا، التي قد نظنها قدرت للمعاناة الخالصة وحدها، مع أشخاصٍ يمنحونها المعنى، يشاركوننا ذات الوجع، نكتشف ونرى فيهم أنفسنا معهم. هذه قصة حب نشأت بين امرأتين يمنيتين، حين وصلتا لليأس من أي معنى لحياتهما، قررتا يومًا أن تعيشا كما هما، كما هي ميولهما، وكما هي حياة أي امرأةٍ أخرى خارج الشرق الأوسط. لكن العالم في الخارج أكثر صعوبةً من أن تواجهه امرأة يمنية مثلية بالشجاعة.
هدى وعبير، أمهات يمنيات ولدتا وعاشتا وتزوجتا وأنجبتا أطفالًا في محل إقامتهما في السعودية، كانت حياتهما كالكثير من مثيلاتهما من الفتيات في أسرٍ محافظة ومتشددة دينيًا. يجب أن تتزوج، تنجب، ترضي زوجها وتحيا لأجله، وبالطبع لا يمكنها الطلاق.
نشأة مع الخوف
نشأت هدى في أسرةٍ يمنيةٍ مقيمة في السعودية، تصفها هدى بــ “شديدة المحافظة والتقليد”، وكفتاة في هذه الأسرة، كان لزامًا عليها أن تكون حبيسة المنزل، فهي عار العائلة وشرفها. تقول هدى: “كانت حياتي كئيبة ومملة، وحتى مشاعري وانجذابي لصديقاتي لا أستطيع تفسيره في بيئة مشوشة كتلك التي أعيش فيها ولا أقدر حتى على وصف مشاعري أو التعبير عنها”.
منعت هدى من الالتحاق بالجامعة وأجبرت على الزواج، لتبدأ حلقةٌ من اللا جدوى تعيشها في بيت الزوجية، تستمر في الإنجاب؛ طفلًا وطفلين، وهي حبيسة منزل الزوجية. وقررت ذات مرة أنها يجب أن تلتحق بالجامعة، ومع إصرارها استطاعت أن تفرض قرارها على زوجها الذي قال لها بأنه لن يدفع شيئًا لنفقة دراستها الجامعية. اضطرت هدى لتدريس القرآن للنساء المسنات كي تستطيع جمع رسوم دراستها الجامعية التي أصبحت موضوع ابتزازٍ يهددها بها زوجها باستمرار “سأجعلك تتركين الدراسة”.
خمسة عشر عامًا قضتها هدى في صراعٍ مع زواجها تطالب بالطلاق الذي يرفضه أهلها ويردعها أبناؤها وقوانين الحضانة عن القيام به.
عبير
"في مراهقتي، عانيت من شعور كرهي لذاتي الأنثى، لأنها كانت العائق الأكبر في حياتي، أنني أنثى، أردت أن أحقق نفسي وأعمل وأسافر دون أن أوصم بالعهر وأفقد وجود عائلتي من حولي".
تضيف عبير “كنت في صراع دائم مع ذاتي ومع ضميري ومجتمعي وأهلي، لم أستطع بسببه فهم نفسي، أكره أنني أنثى، لكنني أتوق للأمومة، أريد الاستقلال لكنني لا أحتمل فكرة الزواج، ولذا كنت أرى أنني المخطئة وأن بي عيبًا ما. كان حفظ القرآن محاولةً مني لأن أصلح مشكلتي مع نفسي”.
حفظت عبير القرآن لتتجنب أفكارها حول نفسها، وتهرب من الزواج للإنجاب ثم الإنجاب من جديد، على أمل أن هنالك معنىً ما سيمنحها إياه الإنجاب وترضى عن حياتها. دخلت في حالة اكتئاب قاسية لتطلب الطلاق، لكن أهلها رفضوا أن تطلق، ما يهم أن تبقى زوجةً مطيعة لزوجها بجوار أبنائها.
في اللقاء الأول
تعرفتا على بعضهما في العام 2015، تشاركتا ذات الهموم والمعاناة والميول الجنسية والحب. ترى عبير بأن معرفتها بهدى أخرجتها من حالة اكتئاب حادة عانت منها، كانت علاقةً تسمح لهن بتحمل مصاعب حياتهن الزوجية ويحلمن أن يكن فيها معًا ذات يوم تحت سقف واحد وأسرة واحدة.
تصف هدى علاقتهما بقولها: "حين عرفت عبير، كانت تلك الفترة من أحلك أوقات حياتنا بسبب الصعوبات التي كنا نمر بها نفسيًا وجسديًا، أعادت عبير لي ضحكتي، تشاركنا الهموم، وقررنا أننا يجب أن نعيش مع بعضنا لبعضنا ورفعنا طلبًا بالطلاق".
كان قانون الحضانة قد تم تعديله في السعودية، لذا استطاعتا أن تحصلا على حضانة أطفالهما بعد الطلاق. استمرت علاقة هدى وعبير التي كانت تدور حولها الشكوك بعد طلاقهما على الرغم من ابتعادهما عن بعضهما وعودة هدى لبيت أهلها حبيسةً كما كانت قبل الزواج، حتى تم اكتشاف علاقتهن المثلية. تقول هدى: “كنت أظن أن الطلاق سينهي معاناتي، لكنه كان فقط استبدال سجنٍ بآخر، انتهيت من زوج متسلط ورجعت لعائلة تضعني تحت المجهر“.
محاولة الهرب
اعتادت عبير وهدى على التواصل واللقاء ببعضهن في كل فرصة، وهن يخططن للهروب، لكن كما تقول هدى وعبير: “كانت الجنسية اليمنية عائقًا آخر”. رفضت محاولاتهن للتقديم على فيزةٍ للسفر، حاولن التقدم بفيزة للسفر لأوكرانيا، ولكن رفضت هي الأخرى، قررتا لاحقًا الهرب لمصر.
في سبتمبر 2018، كانت عبير وأطفالها قد سبقوا هدى للقاهرة، لتلتحق بهم بعد أسبوعٍ على أمل أن يجدن أخيرًا ما كن يحلمن به؛ أن تكونا كما هما وكما هي حقيقتهما وخياراتهما تحت سقف واحد ودون خوف. لكن على ما يبدو كانت رحلتهما لمصر بدايةً من المعاناة الطويلة مع إجراءات مفوضية اللاجئين. في ديسمبر 2018 قدمتا مع الأطفال للجوء لدى مفوضية اللاجئين، ومنذ ذلك الحين لا يزلن عالقات في القاهرة دون أي تقدمٍ في ملف لجوئهن، سوى أنه تم إعلامهن بالموافقة على إعادة التوطين في أغسطس 2020، ثم لا جديد بعد ذلك حتى اللحظة.
الحياة في القاهرة وانتظار إعادة التوطين
في انتظار إعادة التوطين، قضت عبير وهدى مع أطفالهن ما يقرب من الأربع سنوات في القاهرة منذ وصولهن، وثلاثة أعوام منذ إخبارهن بالموافقة على إعادة التوطين. يواجهن فيها ظروفًا مادية صعبة بلا رعاية صحية أو تعليم لأطفالهن. تقول عبير: “منذ طلبنا الحماية من المفوضية إلى يومنا هذا ما زلنا مختبئين دون أدنى مقومات الحياة الكريمة، نهرب من منزل لمنزل ومن منطقة لأخرى، بمساعدات لا تلبي أبسط احتياجاتنا ووعود فارغة”.
تحرص هدى وعبير على التحفظ على هويتهن وطبيعة العلاقة التي تجمعهما ومعلوماتهما الشخصية، إلا أن استضافتهما لإحدى الفتيات اللاجئات تسبب في التشهير بهما ونشر صورهما ومحل إقامتهما على وسائل التواصل الاجتماعي. مذ ذلك الوقت، تواجه هدى وعبير الكثير من التهديدات التي تصلهما على وسائل التواصل الاجتماعي فيما يتعرض أطفالهما للكثير من التمييز في الشارع والحي الذي تسكنان فيه. تقول هدى: “نحن نعيش وأطفالنا عزلةً اجتماعية ونتجنب الاختلاط مع الآخرين، إلا أن أطفالنا تعرضوا للكثير من التمييز في الشارع، حيث إن كشف هويتنا وموقفنا من الدين جعلهم عرضة للتنمر والضرب في الشارع” حسب ادعائها.
حياة صعبة لأطفالهن
منذ فرارهن من السعودية في أغسطس 2018، لم يستطع الأطفال الالتحاق بالمدرسة ومواصلة تعليمهم، فالمخاوف من انكشاف علاقتهما وموقفهما من الدين جعل من مسألة التحاق الأطفال بالمدرسة والاختلاط مع أطفالٍ آخرين يشكل هاجسًا كبيرًا لديهما. بالإضافة للأعباء المادية التي سيفرضها التحاق الأطفال بالمدرسة، حيث تعاني أسرتهما من صعوبة بالغة في تدبر تكاليف المعيشة وعدم قدرتهن على العمل أو الاختلاط بالناس.
حاولتا إلحاق الأطفال في مركز صيفي لدراسة اللغة الإنجليزية، ليفاجأ في يوم بمعاقبة المعلمة لطفلها بالوقوف لأربع ساعات بعد أن عرفت من الطلاب موقف أهله من الدين. مشاركة الأطفال في المراكز الصيفية والمدارس كان مصدر خوفٍ آخر لهن، خصوصًا مع التساؤلات التي كان يلقيها الأطفال والمعلمون في المركز حول والد الأطفال وعلاقة والدتيهم. كان ذلك آخر يومٍ يزور أطفالهن المركز الصيفي.
أما عبير فتصف حالهما بأنه لا يطاق، مشبهةً إياه بالفرار من سجنٍ لآخر كانت تظنه جنتها الموعودة، تقول عبير:” شكل حياتنا الاجتماعية أو التعليمية هنا هي سجن آخر تسببت فيه مفوضية اللاجئين التي أهملت قضيتنا على الرغم من موافقتهم على إعادة التوطين وقيامنا بمقابلة التوطين وإجراءاته”.
على مدى سنين، واجهت هدى وعبير الكثير من المصاعب والمخاطر الجدية في سبيل أن تكونا كما هما، وخاضتا تحديات كبيرة مع أطفالهما، كان آخرها الهرب قبل أربع سنوات لمصر أملًا في الحصول على الأمن. لكنهما الآن بعد أربع سنين لا زلتا تواجهن خطرًا حقيقيًا على حياتهما في مصر بعد انتشار قصتهما وصورهما على وسائل التواصل الاجتماعي، فيما تستمر المفوضية في المماطلة وعدم الرد على مناشداتهما ورسائلهما المطالبة بالتوضيح حول أسباب تأخر إعادة توطينهما رغم صدور الموافقة قبل ثلاثة أعوام.