"أوه أيها القديس سقراط؛ صلّ لأجلنا!"
إيرازموس
تشير كلمة “الدين الطبيعي” في أغلب السياقات إلى تلك الاستدلالات ذات المنشأ العلمي والفلسفي على وجود الله؛ أي البرهان على وجود الله من خارج الأديان التقليدية؛ فقط من “النور الداخلي والوعي الذي ينوّر الانسان” بعبارة أندريه لالاند في معجمه الفلسفي. عند الكثير من اللاهوتيين؛ يقف هذا الاستدلال عند
مرحلته العقلية ولا ينتقل إلى إثبات الوحي السماوي الذي ينزل على الأنبياء، وفي هذه الحالة سيكون الإيمان الديني أقرب إلى مذهب وحدة الوجود، حيث تشكّل الطبيعة في اتحادها مع كامل الموجودات ذات الإله الذي يعمل اللاهوت الطبيعي على إثبات وجوده، بينما ينتقل الكثيرون انطلاقا من هذا الدين الطبيعي لإثبات الأديان السماوية.
في محاوراته عن الدين الطبيعي (1779)؛ يبتكر ديفيد هيوم ثلاثة شخصيات يجري الحوارات على ألسنتهم. ولو أردت أن أصف الشخصيات الثلاثة فستكون كالتالي:
المؤمن اللاهوتي (دميان)، والمؤمن التجريبي (كليانثس)، والمؤمن الفلسفي (فيلون). الثلاثة يؤمنون بأن الله موجود؛ غير أن الأول يؤمن بذلك إيمانًا خالصًا، لا يحتاج إلى أي دليل من خارج الإيمان نفسه، والعقل عنده ليس الأداة الصالحة لمعرفة الله، كون العقل يعمل بعد الخبرة، ومعرفة الله يجب أن تكون سابقة للخبرة. دميان يتّفق في ذلك مع فيلون، ولكن مقصد فيلون الخبيث على خلاف ما يظنّه دميان، لأن فيلون يبذر الشك حتى في الأدلة التجريبية لكليانثس؛ والتي هي أقرب إلى الدين الطبيعي، فهو بذلك يتجاوز من الأساس الأدلة الأنطولوجية (كبرهان العليّة) عند دميان.
كليانثس؛ المؤمن التجريبي، يعتقد ببرهان النظم أو التصميم الذكي، ولا يمكن بالتالي معرفة الله إلا عن طريق العقل، والخبرة البعدية التي يكتسبها العقل من الطبيعة ومن التجربة هي الطريق الوحيد للوصول إلى الله. ولكن فيلون الذي لا يقتنع لا بالحجج اللاهوتية ولا التجريبية؛ يدعو للشك الفلسفي المستمر ونقض جميع الأدلة مع الاحتفاظ بالله كفكرة مجردة من أية تجليّات ما خلا ضرورته؛ الشك في قدرة العقل على الوصول إلى الله؛ فالشك الفلسفي لديه هو أفضل سبيل للإيمان الصحيح.
من غير المؤكد أين يضع هيوم نفسه بين الثلاثة، ويحاول أن يبدو بعيدًا عنهم جميعًا. فهناك جدل واسع حول ذلك؛ غير أنه وإن كان بدا قريبًا من فيلون الشكّاك، إلا أن النصوص الأخرى لهيوم حول فلسفة الدين تكشف عن رفضه الجدلي لكافة أشكال الدين؛ اللاهوتي والطبيعي والفلسفي، ولكن نظرًا لأنه لا يملك أجوبة بديلة، فإنه يحتفظ بمساحة للميتافيزيقا في فلسفته، والمتمثّلة في الحوار المستمر مع الله كممارسة إيمانية وحيدة يقبلها هيوم، وبالتالي هو ضد الدين المنظّم أو الدين المؤسسة، وضد حتى الدين الطبيعي. فهو لا يرفض وجود الله من حيث المبدأ، ولكنه يفعل ذلك تواضعًا فقط؛ إذ يبدو أنه يستشعر غرورًا عقليًا في النفي المطلق للإله.
في الحقيقة؛ أستعمل كلمة “تواضع” هنا لأني لا أجد كلمة مناسبة تصف تلك الحالة من اللا أدرية المشوبة بقبول إجمالي للميتافيزيقا كجزء لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن الطبيعة البشرية. ولعل هذا التواضع هو خلاصة مبحث فلسفة الدين؛ دعوة للعلم لكي يتواضع قليلا، ليس لأن الدين ما يزال قادرًا على تقديم أجوبة؛ بل لأنه قيمة أساسية وجوهرية لا يمكن تركها لرجال الدين؛ على اصطلاح سلافوي جيجك. وعندما أجد نقيض هذا التواضع عند علماء بحجم هوكينغ ودوكينز وفاينمان؛ يتبادر إلى ذهني السؤال حول أي إله يجحده هؤلاء العلماء. هل كان للإنسان أن يعبر كل هذا المسار الطويل من الحضارة بدون إحساسه بأنه على علاقة ما مع مطلق غائر فيه؟
هذا المطلق العظيم الذي لا يكاد المرء أن يمسك منه بطرف حتى ينسلّ منه أسرع من البرق؛ يصوّر لي إلحاد العلماء به كما لو أنه كفر بتصورات شكلية معينة قدمتها الأديان طوال تاريخ الإنسان، وهي في نفس الوقت إيمان بتصوّرات ضمنية أعمق لا يتم الحديث عنها؛ إذ تنساب بشكل جمالي في التزامات هذا العالم أو ذاك، ومسؤولية عملية تجاه الحياة والبشر، وتشكّل في نفس الوقت الخلفية الميتافيزيقية الهادئة وراء لا أدرية هؤلاء العلماء أو حتى إلحادهم. كما لو أن الكفر بالميتافيزيقا هو ميتافيزيقا أخرى، وأن العلم التجريبي ما كان ليتطور ويتقدم بدون لاهوت الدين.
ما كنا لنرى أبا بكر الرازي وابن الهيثم والبلخي وكوبرنيكوس وجاليلو ومندل ونيوتن لو لم يكن اللاهوت يجري في دمائهم. بل إن أكثر النظريات العلمية انفصالاً عن الدين كنظرية التطور والنسبية العامة والكوانتم؛ ما هي إلا تجليات لنوع متقدم ومتراكم من لاهوت الديانات الثلاث. وكلما أفرط العلم في استقلاله عن الدين؛ كما في حالات الداروينية الجديدة وأعمال وكالات الفضاء الدولية وأبحاث التصنيع الجيني؛ كلما كان يعبر عن لاهوتيته المزمنة. فالعلم يبدأ في الشلل والتقهقر في اللحظة التي يظن أن هذه الطبيعة بلا معنى لاهوتي، لأن نزعة الإنسان للسيطرة على الطبيعة هي نزعة إلهية من العيار الثقيل. وهنا؛ تطور العلم وتقدمه أمام تحديين خطيرين: تحدي عدمية المعنى وتحدي المعنى التام المغلق، وكلاهما قاتلان للفضول الذي هو وقود العلم ومحركه؛ فعدمية المعنى التي تتجلى في الشكاك في كل العصور، والمعنى المغلق في التدين الشعبي التقليدي. وما نحتاج إليه فعلا لإحداث حركة علمية هو لاهوت المعنى المفتوح.
أستعمل كلمة "تواضع" هنا لأني لا أجد كلمة مناسبة تصف تلك الحالة من اللا أدرية المشوبة بقبول إجمالي للميتافيزيقا كجزء لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن الطبيعة البشرية. ولعل هذا التواضع هو خلاصة مبحث فلسفة الدين؛ دعوة للعلم لكي يتواضع قليلا
بول فييرآبند في موقف متوافق، ومع ذلك يدعو في كتابه المهم “العلم في مجتمع حر”؛ وأيضا في كتابه الأسبق “ضد المنهج”، إلى أن ما يجب أن يؤخذ جديًا في علاقة العلماء بالمجتمع هو موقفهم العلمي وليس المنهج العلمي، لأن الأخير يصبح غامضًا وملتبسًا عندما يكون صوتًا من بين الأصوات، أما الموقف العلمي فهو اجتهاد يصيب ويخطئ ويكون متكافئًا مع مواقف الآخرين؛ سياسيين أو اقتصاديين أو رجال دين وقانون. بشكل آخر؛ فييرآبند يدعو العلماء إلى التواضع، والتوقف عن الغرور عبر التشدّق بالمنهج العلمي. ومن هنا تأتي دعوته إلى فصل العلم عن الدولة؛ تمامًا كما تم فصلها عن الدين؛ بمعنى ألا تتبنى الدولة أي موقف علمي، فهي ليست طرفًا في أي نزاع بين العلماء، وبالتالي لا يستند العلماء إلى الدولة ليحظوا بأي مفاضلة ترفعهم عن اللاهوتيين أو الأدباء والفنانين، لأن الخطاب العلمي هو الآخر؛ أيديولوجية ضمن سائر الأيديولوجيات الفاعلة في المجتمع، كما لو أن فييرآبند يريد أن يحقق مصالحة بين العلماء ورجال الدين.
وهذا ما يجعلني أظن أنه مبرر جدًا أن يكون هناك تشدد في نقد نظريات العلم مقابل التساهل عند نقد معتقدات الدين، بل وربما محبّذ. بمعنى آخر؛ لن يكون حميدًا أن نتعامل مع الدين بنفس الصرامة التي نفعلها مع العلم. فنظرية مثل الداروينية ستحتاج إلى أدلة متماسكة ومقنعة وكثيرة، في مقابل نظرية الخلق الإبراهيمية أو المعتقدات الهندوسية عن بداية الخلق، فالإنسان مُعدّ ليكون كائنًا دينيًا أكثر مما هو مجهّز ليكون كائنًا علميًا منطقيًا، ومن هنا فالعلم مطالب بأن يتواضع، وذلك عبر التشدّد في قبول ادّعاءاته.
هناك عدة مبررات لهكذا تفكير، ربما أكثرها قبولاً هو كون غايات الدين مختلفة إلى حد كبير عن غايات العلم؛ فالدين لا يبغي حقيقة الواقع بقدر ما يكون معنيًا بتهدئة المطلق الغائر في الإنسان، والذي يمثّل معظم إنسانيته. فغاية العلم هو معرفة حقيقة هذا الواقع على نحو يمكننا من أن نسيطر عليه ونجعله في خدمتنا، والمادة بطبيعتها متمردة على الإنسان ومقاومة له، ولا سبيل لكسر صمتها إلا بالعقل. الدين يكاد يكون محايدًا تجاه هذه المادة، وعندما يصرّح بنظرة أو رؤية تجاهها؛ فإنما يكون ذلك عرضًا هامشيًا للخطاب الأصلي الذي سيكون معنيًا بماهية هذا الإنسان والمعنى في وجوده.
العلم يحتاج إلى الشك بسبب يقين المادة بوجودها، بينما الدين يحتاج إلى اليقين بسبب شك النفس بوجودها. لذلك أن تهدم نظرية علمية فأنت لا تفعل كثيرًا، بينما ربما ستهدم أمة بأكملها فيما لو أبطلت معتقدًا دينيًا. أي نعم هناك فلسفات إنسانية مبنية على العلم والعقل وتقوم مقام الدين وتكون مقنعة للبعض أكثر بكثير من الدين، ولكن قدرتها على الانتشار لا يكاد يعدو بضعة ملايين؛ تتركز في الغرب تحديدًا. في مقابل الزخم الديني الضارب في عمق التاريخ. ومن هنا فالأديان؛ حتى لو كانت من صنع الإنسان؛ فإن ما أنتجها ذلك الإلهي الغامض داخله، والذي يقف باسمًا أمام العلم وهو يقفز من مكان لآخر كالطفل أمامه.
التواضع العلمي يقتضي بالضرورة الاعتراف بأنه لا توجد أجوبة كاملة لكل الأسئلة، وأنّ ذلك لا يقلّل من مشروعية الدين ولا مشروعية العلم؛ بل يزيد من ذلك، ويصبح هذا الاعتراف مبرّرا قويّا لما أصبح يسمى بأخلاق العناية؛ العناية بالذات، بالكوكب، بالآخر، بالطفل، بالعامل، وبالمختلفين عنّا. دعوة مستمرة لأي سببيّات تحاول إغلاق الأبواب أمام التعارف والانفتاح بين الكائنات؛ لأن تتواضع؛ حتى للاحتمالات الضئيلة جدا من الشكّ.
بطبيعة الحال هذا لا يعني أننا نريد من العلم أن يكون دينًا، أو من الدين أن يكون علمًا. ولكنأن نلاحظ تلك المساحة الملتبسة بينهما؛ حيث يشتبكان داخلها على نحو وجودي؛ تبقى بعض معالم الحدود واضحة بين مجال العلم ومجال الدين، فنستطيع أن نقول إن العلم ليس كذا، والدين ليس كذا؛ دون أن نحتاج لإقامة جدران صلبة وجامدة بين المجالين. لا أدري إن كان ذلك سيصنع التباسًا ما بينهما، ولكن لو وقع، فلن يكون مختلفًا كثيرًا عما نفعله عندما نحاول تمييز العلم عن الفلسفة مثلاً، أو العلم عن الأدب. ربما يعود ذلك إلى أننا قد نميل أو لا نميل إلى توسيع وتضييق نطاق عمل كل حقل من هذه الحقول للنشاط البشري. أحيانا يمكن التمييز بينها من خلال المناهج المستعملة. صحيح قد لا تصنع حدودًا قاطعة، ولكن في الحد الأدنى أستطيع أن أنفي عن الدين أنه ليس فيزياء مثلا، أو عن الفلسفة أنها ليست تجربة مخبرية. بحكم اختلاف المناهج فيما بينها.
إنه فاصل موسيقي لو جاز لي التعبير. فالموسيقى تبدأ عندما تعزف الروح لتخليص الجسد من ماديته، ثم تعود لتحوّل ذلك العزف إلى مادية جديدة عبر العلم. المادية الجديدة ستكون أكثر رقيًا وجمالاً؛ إذ ستكون متناغمة مع باقي الوجود. هذا الفاصل بين العلم والدين ليس فاصلاً زمنيًا ولا مكانيًا، وإنما بمعنى من المعاني هو فاصل فلسفي. فاصل نظري يحتاج إلى تأمل عقلي قبل الإقرار بوجوده، ومتى ما تم الإقرار بذلك يصبح سهلاً على الإنسان أن يعيش الحالتين؛ الدين والعلم.
اقرأ أيضا: التوبة .. كمفهوم علماني