لم أكن أدرك أن والدي يعاني من الخجل حتى مع ابنه، وبعد أن ظل سنوات طوال ينتظر أن أبدي أي مشاعر دافئة نحوه، منعني عنها ما بدا لي من مشاعره الباردة نحوي، تركني والدموع تملأ عينيه، متذمرا شاكيا، متهما إياي بأني لا أحبه".
في تلك الفقرة المقتبسة من رواية “أدولف” يسرد الأديب بنيامين كونستان لمحة عن حكايته مع الخجل، كيف عرضه هذا الشعور لأزمات ومواقف قاسية، فالرواية جاءت أقرب إلى سيرة ذاتية يروي فيها بنيامين عما يرتكبه الخجل حين يتطفل في إلحاح على أي علاقة إنسانية، فيباعد بين الصديق وصديقه والحبيب وحبيبته أو بين الابن وأبويه مثلما حدث مع أدولف.
في روايته أو سيرته الذاتية يستعرض الكاتب السويسري دواخل نفس حاصرها الحزن والملل فتعطلت عن كل فاعلية لينعزل صاحبها “أدولف” عن مجتمعه ثم تظهر سيدة متزوجة يخفق قلبه بحبها، تشجعه على كسر حاجز العزلة ومحاولة الاندماج مجددا مضحية بسعادة أسرتها من أجله غير أن “أدولف” ارتد إلى طبعه بعد مغالبته فترة، ليطلق مرارة فشله تجاه من مدت له يد المساعدة، فيتحدث عنها بسوء متسببا في وفاتها.
يلفت “كونستان” الانتباه إلى أن الخجل الذي عانى منه بطل روايته لا يظهر إلا بتحريض من خبرة اجتماعية، فالأب يتحرر منه عند الكتابة، بينما تعقد السمة النفسية لسانه لدى مواجهته الابن، ويرجعها “كونستان” في حالة “أدولف”، إلى نظرته المتدنية لإمكانياته وقدرته على التفاعل مع الآخرين.
في ذات الموضوع استعرض نجيب محفوظ بروايته السراب جانبا مختلفا وربما أكثر عمقا لمشاعر الخجل، تتبع أديبنا بطل روايته “كامل” منذ كان طفلا هربت به أمه من زوج سكير قاس.
تسلطت الأم بحبها على الابن فمنعته من الاختلاط بأحد، ولم ترحب بذهابه إلى المدرسة لولا جده الذي أصر على إلحاقه بها.
يروي بطل “السراب” أنه كان لا يفارق أمه في صغره أبدا ولم يختلف الحال في صباه أو شبابه فاعتاد حتى على النوم في سريرها إلى أن بلغ الخامسة والعشرين، كان حضنها ملاذا يخفف من سخرية زملائه وقسوة ولامبالاة مدرسيه، وإلى أن أمسى شابا عد أمه والحياة صنوان، في مقابل ذلك خص أبيه بكراهية عظيمة، طفت في مواقف عدة.
عذبه خجله المرضي خلال سنوات دراسته حتى البكالوريا التي حصل عليها ـ في سن الخامسة والعشرين ـ بصعوبة بالغة، وتصور أن الانتقال إلى الجامعة سيحول دون ملاحظة أحد له، ليختفي في زحام مدرجاتها الواسعة، لكن صادف في محاضرة لمادة الخطابة أن طلب منه الأستاذ إلقاء خطبة كما فعل عدد من زملائه، وحين سخر منه الجميع لصمته غادر المدرج والكلية للأبد.
كان خجل كامل أفدح من درجة عانى منها “أدولف”، وألقى محفوظ ضوءا ساطعا على سببه المستور تحت أكوام من الأعراض “عقدة أوديب”، رغبة كامل في أمه التي لم يتجاوزها على مستوى اللاوعي فلازمه شعور عميق بالخجل، لتتسبب هذه العقدة كذلك في عجزه جنسيا مع زوجته، ولا تنتهي مأساته عند هذا الحد، فيفجع في زوجته ويعرف قبل موتها أنها خانته.
وإذا كان الخجل في علم النفس أو على الأحرى لدى مدرسة التحليل النفسي محكوم بعقد الطفولة، فإن الفلسفة خصت بعدا آخر باهتمامها، حين يمسي الخجل من الذات محرضه الرئيسي حضور الغير، فقبل ظهوره يستغرق المرء في أفعاله، دون أن يصدر حكما عليها بل يحياها فقط، لكن عندما يتسلط الآخر باهتمامه هنا يعي المرء ما يعنيه فعله، أي يصدر حكما على الفعل، ويكون محصلة ذلك الشعور بالخجل.
تصبح الذات لدى ظهور الآخر موضوعا لصاحبها، لأن الذات تظهر أمام الغير كموضوع، عندها يشعر الفرد بالسوء أو الخجل إزاء صورة رأه الغير عليها، ليصدر حكما على نفسه مثل الذي قد يقره بخصوص أي موضوع آخر.
هذه المقدمات يعرضها سارتر ليستخرج منها مقولته الشهيرة “الآخرون هم الجحيم”، لكن هناك رؤية مغايرة لماركس جعلت من الخجل عاطفة ثورية، بوصفها تحرض المرء على الثورة فيما يتصل بموضوع خجله، وذلك سدا لنقص يستشعره في نفسه، أو لخجله من ذاته وانتصاره عليها لصالح الحقيقة.
الحقيقة أيضا على غير المشهور عنها ـ من قوة وجرأة ـ خجولة منذ أن غرر بها الكذب، وقع ذلك حين التقت الحقيقة والكذب ذات يوم، فبادر الكذب الحقيقة: يا له من صباح جميل، وافقته بهز رأسها بعدما تطلعت إلى الفضاء الرائق، ثم تمشيا معا حتى وصلا إلى النهر، ليلمس الكذب المياه بيده.
الماء دافئ، لما لا نسبح؟ قال الكذب، تقدمت الحقيقة إلى النهر في حذر ولمست مياهه بأنامها فوجدتها مثلما أخبرها، خلع الاثنان ثيابهما ونزلا إلى النهر، لم يمض وقت حتى خرج الكذب مسرعا، فلبس ملابس الحقيقة وانصرف، أما هي فعجزت عن ارتداء ملابسه، سارت بين الناس عارية لينفروا منها، ومن يومها فضل الناس الكذب المرتدي لباس الحقيقة على الحقيقة العارية التي احتجبت في بئر عميق تنتظر من يثور لأجلها، هو وحده الذي لن تخجل منه أبدا.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.