في وقتٍ ما، كانت قيودنا البيولوجية تحتم علينا العلق في حلقات أدوارٍ اجتماعية محددة تحددها هذه الأدوار. وفي مجتمع الإنسان الجامع، زعيم المجموعة هو أقواها جسديًا وأقدرها على مواجهة بقية أفراد المجموعة وفرض زعامته بالقوة، وأضافت لهذه الأدوار مزيد من الأفكار الماورائية في تعميق فكرة الزعامة وجعلها أكثر قبولًا؛ فهيئتنا الجسدية وجيناتنا المتوارثة تحدد أدوارنا الاجتماعية في الجماعة. وكجنسين ذكورًا وإناثًا، تحدد قيودنا البيولوجية أدوارنا في الحياة بشكلٍ عام.
تؤصل نظرة إنجلز بأن الأبوية كائن اجتماعي طارئ على المجتمع الإنساني، عمّد حضوره ظهور الملكية الخاصة إبان الثورة الزراعية في تاريخ الإنسان العاقل. واكتشاف الإنسان العاقل للزراعة واستقراره جغرافيًا، من وجهة نظر يوفال هراري، أنهى صورة اجتماع الإنسان الجامع وبدأت معه صورة اجتماع جديدة دجنت فيه الزراعةُ الإنسان. تبع ذلك ظهور الملكية الخاصة التي زادت على أعباء الإنسان من تحديد قيوده البيولوجية لمصيره الاجتماعي، لتضيف إليها عوامل جديدة تتمثل في الإرث والملكية، وهي عوامل، -بالإضافة للأبعاد الطبقية التي أسست لها في المجتمع الإنساني- تركت أثرها على قيمة المرأة ككائن أكثر من تأثيرها على الذكر.
في منتصف القرن العشرين، ظهرت سيمون دي بوفوار، وبشكلٍ غير مهملٍ لدور الملكية الخاصة، ولكن مقللًا من قدره الذي تهوّله الاشتراكية، لتؤكد أكثر على دور القيد البيولوجي في تحديد الأدوار الجندرية والقيمة الإنسانية للجنسين. في ممارسة العلاقة الجنسية قد تنتهي الأعباء البيولوجية للرجل حال وصوله للنشوة، لكن المرأة في حاجة للاستعداد لأعباء جسدية ونفسية ستقرر مصيرها الاجتماعي وحالتها الصحية وفرصها للنجاة.
تسعة أشهر من الحمل والحاجة للعناية تتبع العلاقة الجنسية مع الرجل، ثم ظهور عبءٍ أكبر مع الإنجاب في حال كانت الأم قادرة على النجاة. في آخر المطاف، تنتهي عالقةً في مهام رعاية واحدٍ من أكثر أطفال الثدييات حاجةً للرعاية التي تطول لسنين قبل أن يصبح قادرًا على رعاية نفسه.
في كتابها الجنس الثاني، ترى دي بوفوار أنه رغم تأثير ظهور الملكية الخاصة على المرأة؛ فإن القيد البيولوجي الذي يظهر الفوارق البيولوجية بين المرأة والرجل ينعكس اجتماعيًا على الأدوار التي تحدد القيمة الإنسانية لكلا الجنسين. قيود الحمل والإنجاب وفارق القدرة مع الذكر جعلت من المرأة أكثر ارتباطًا بالمهام المنزلية المتعلقة برعاية وخدمة الأسرة والأطفال، في الوقت الذي استطاع الرجل تجاوز هذه القيود مع اكتشاف النار والثورة الزراعية وما تبعها من تحولات في قيام الحضارات الإنسانية، ليتسيد النظام الأبوي في المجتمع، وتصبح المرأة فيه كائنًا يفتقر للقيمة الإنسانية. هنا تقدم دي بوفوار مسألة كسر القيد البيولوجي بمثابة الخطوة الأولى في إعادة توزيع الأدوار الجندرية وتحقيق المساواة بين الجنسين.

الثورة الصناعية
مثّل الفارق البدني الذي يعتمد عليه الرجل في قضاء أعمال المهام اليومية، الذي تفتقر المرأة لها جسديًا للقدرة على أدائها كما يؤديها الرجل، كقيدٍ بيولوجيٍ آخر، عائقًا آخر أمام تحقق هذه المساواة وإعادة توزيع الأدوار في الحياة العامة أو تصنيفها جندريًا. ويرى إنجلز بأن الآلة تقلص هذا الفارق، كانت الثورة الصناعية واختراع الآلة البخارية فصلًا جديدًا في إعادة تعريف دور المرأة في المجتمع البشري، إذ إن الآلة لا تعتمد على القدرة البدنية التي كانت ترجح فيها الكفة لصالح الرجل، وتبقي المرأة عالقةً بالمهام المنزلية والرعاية.
على الرغم من الآثار السلبية التي قد يراها المتشائمون من النظام الرأسمالي، أو الآثار الإيجابية التي يرويها نظراؤهم، مثّل القرن السابع عشر نقلةً في حياة المرأة الأوروبية وبقية الشعوب، لتستطيع المشاركة في مهام خارج أدوار الإنتاج المنزلي غير المدفوع الأجر، لتنخرط المرأة في سوق العمل، بل وحتى المشاركة العسكرية في الجيوش التي أصبحت تعتمد على الأسلحة والتقنيات الحديثة أكثر من اعتمادها على القدرة الجسدية في الوقت الحالي.
لكن، وفي ذات السياق، ما زالت المرأة عالقةً أيضًا في ذات القيد البيولوجي الذي يربطها بأدوار الإنجاب والرعاية الأسرية المرتبطة بالدور الاجتماعي. الجنس، الحمل، الإنجاب، الرعاية، قيود لا زالت هي العامل الأساسي في تحديد قيمتها الإنسانية وتوزيع الأدوار الجندرية، وفي منتصف القرن العشرين، كان الحل الثوري في الطريق.
الثورة على قيد الحمل والإنجاب
في العام 1937، اكتشف الأطباء تأثير هرمون البروجسترون الأنثوي الفعال في منع حدوث الحمل. على الرغم من ذلك، كانت طريقة تعاطي الهرمون عبر الحقن وتكلفته المرتفعة تمثل عائقًا أمام انتشار الوسيلة الجديدة والمضمونة في منع الحمل.
العام 1955، كان العالم أمام اكتشاف لا يقل في ثوريته عن الثورة الزراعية والصناعية، نقطة تحولٍ في إعادة توزيع الأدوار الجندرية وكسر القيود البيولوجية التي تحد من مشاركة المرأة في الحياة العامة
في هذا العام أعلن عالم الأحياء الأميركي جريجوري بنكوس عن اكتشافه لتركيبة منع الحمل التي يمكن تناولها كأقراص عن طريق الفم وبتكلفةٍ منخفضة وسهلة. لتنتشر حبوب منع الحمل في الأسواق بحلول العام 1960 وتغير حياتنا بشكل درامي.
وجدت الحركة النسوية بمختلف توجهاتها مزيدًا من الزخم لاحقًا؛ حيث أعاد ظهور حبوب منع الحمل توزيع الأدوار الأسرية ونسبة مشاركة المرأة في الجامعة والتخصصات التي كانت حكرًا على الذكور، وكذلك سوق العمل. تشير كلوديا جولدن ولورنس كاتز في دراسة بجامعة هارفارد تحمل عنوان “حبوب منع الحمل وقرارات عمل وزواج المرأة” أن اكتشاف حبوب منع الحمل وتصنيعها في شكلها المتعاطى فمويًا صنع تحولًا في حياة المرأة الأميركية؛ حيث تباعدت معدلات الولادة، كما تباعدت سنوات الزواج، على العكس منها المعدلات العمرية للزواج قبل ظهور حبوب منع الحمل، فيما ازدادت معدلات النساء الملتحقات بالجامعات وسوق العمل، وبالتالي مشاركة نسائية أكبر للرجل في سوق العمل.
قياسًا على رؤية سيمون دي بوفوار، فإن حبوب منع الحمل تظهر هنا كاكتشاف الإنسان للزراعة وكسر الرجل لقيدٍ بيولوجي يجعله عالقًا في حلقةٍ بيئية للعيش، لتكون وسيلة المرأة لكسر القيد البيولوجي الذي جعلها عالقةً بصورةٍ أكبر في نمط حياة المهام المنزلية وأدوار الرعاية. وعلى الرغم من هذا الدور في هذه المقاربة التي يمكن رؤيتها في منظور دي بوفوار حول أثر القيد البيولوجي والقول الاشتراكي بأن الرأسمالية قيدت المرأة في المهام المنزلية غير المدفوعة، يقول ميشيل فوكو في دراسته للجنسانية بأن الرأسمالية في تحويل المجتمعات الأوروبية على سبيل المثال جعلت من الأسرة بشقي جنسها أسرة عاملة تستدعي مشاركة المرأة في الانتاج. لكن بالتأكيد، وفرت أقراص منع الحمل فرصةً ثورية لتغيير هذا النمط للأبد، ومحطةً في كسر المرأة قيودها الطبيعية.
لن نتحمل كلفة ذلك وحدنا
مع اكتشاف الثورة الزراعية، تحملت المرأة عبء المشاركة في الأعمال الزراعية في الحصاد والزرع في معظم المجتمعات إلى جانب الرجل، وارتبطت أكثر بالمهام المنزلية التي تقيدها بها قيودها البيولوجية. ومع ظهور الملكية الخاصة، تحملت المرأة عبئًا آخر؛ إما في منعها من الزواج، أو حصره داخل الأسرة والقبيلة وحرمانها من ميراثها في الملكية. انعكست هذه القيود التي كانت تفرضها حركة الحضارة والقفزات التي تحققها في حياة البشر في صور نمطية عن المرأة تجردها من القيمة الإنسانية لها ككائن بشري لجنسٍ آخر، جنسٍ ثانٍ. في الوقت نفسه، كان الرجل في هذه الحركة يتحدى الطبيعة ويتغلب على أقدارها التي كانت تحكم على أسلافه بالعجز وقبول المصير الذي تحتمه عليه قوانينها. لكن ما الذي يمكن أن يتغير الآن في واقع المرأة؟ لن تتحمل عبء كسرها لقيدها وحدها.
في لقائها الربيعي مارس العام الحالي، أعلنت الجمعية الكيميائية الأميركية عن التوصل لحبوب منع الحمل للذكور ونجاح تجاربها على الفئران بنسبة 99% دون أعراضٍ جانبية. ومن المتوقع أن تبدأ التجارب البشرية لهذه الحبوب بحلول النصف الثاني من العقد الحالي. نجاح هذه التجارب قد لا تقل آثارها بشكلٍ ثوري عن تلك مطلع ستينات القرن الماضي التي انعكست في تحولات اجتماعية واسعة غيرت من نمط حياة المرأة، وشكلت محطةً مهمة في تاريخ الحراك النسوي. كلفة كسر هذا القيد لم يعد مسؤولية خاصة بالمرأة وحدها، فهل سيتحمل الرجال هذه الأعباء كما فعلت المرأة في محطات سابقة من تاريخ الحضارة البشرية؟