خرج عدنان الصائغ من الحرب سهواً، تاركاً خلفه “الوطن” يبكى على رحيل الأحبة، ركب بحر الشعر وهو طريد المخاوف، ينتقل من اليمن إلى لبنان ومن السويد إلى لندن، وفي كل خطوة كان الشعر رفيقه الوحيد، يكتب حين يتذكر طفولته في الكوفة، وحين كان يقاسي متاعب الحياة من أجل إعانة أسرته، وحين هدد بالقتل، بسبب أشعاره، لكن لم يستطيع أحد غلق فمه أو منع يده عن تدوين الأشعار.
في عام 1996م، حصد جائزة هيلمان هاميت العالمية للإبداع وحرية التعبير بأمريكا، وعام 1997م، فاز بجائزة مهرجان الشعر العالمي، أما عام 2005م، فقد نال الجائزة السنوية للكتاب السويدين، ترجمت أشعاره إلى العديد من اللغات كالإنجليزية والسويدية والفرنسية والفارسية، من أبرز دواوينه الشعرية، تحت نصب الحرية، والعصافير لا تحب الرصاص، وصراخ بحجم وطن، التقت”مواطن“مع الشاعر العراقي ليأخذنا في رحلة حول حياته وقصائده المملوءة بالحب والحرية والشجن والمعاناة.
- المرأة هي الوجود الأعظم بكل أسرارها ودهشتها وأطيافها: روحًا وجسدًا ومعنى.
- مشاهد القتل والسحل والقصف لمْ تختفِ من تاريخ هذا العراق، ولمْ تُمحَ من ذاكرة الطفل الذي كنتهُ.
- أحد عناصر ميليشيا الموت، هددني بقطع لساني لأني تطاولتُ على معتقداته.
- لم يكن الأمر سهلًا بالمرة أن تسرّب نصوصي عبر الصحف والمجلات، في زمنِ أعتى دكتاتورية شهدها تاريخنا الحديث.
كيف بدأت علاقتك بالشعر، ومتى أيقنت أنك شاعر وكاتب قصيدة، وما هو أول دافع لك خلق رغبة كتابة؟
الشعر؛ إنه الحبل السري الذي هبطَ بي من رحم أمي و"وادي عبقر"!، ولم ينقطع للآن. ولا أظنه سينقطعُ حتى يهبطَ بي إلى رحم الأرض.
لا أتذكّر أول قصيدة، بمعنى القصيدة، أعلنتني شاعراً لدى الوسط الأدبي أو الناس، لكن قبل ذلك بسنوات غابرة كنتُ قد كتبتُ خاطرة عند سرير أبي الذي كان يعاني على سرير مرضه بين بيتنا ومستشفى الكوفة أو مستشفى مرجان في الحلة، كنتُ وقتها في العاشرة لا أرى من العالم سوى هذا السرير. خبأت تلك “القصيدة” بين كتبي المدرسية وملابسي، وحين عثرتْ عليها أمي وقرأتها انسال خيطان من الدمع على خديها. هذان الخطّان المترقرقان هما اللذان رسما طريق قصيدتي إلى الأبد وربما حياتي. كانت تلك أول شهادة شعرية أحصل عليها.
حينما كنت طفلا في العراق، أحتلت الحرب شرفات أحلامك، فكيف تتذكر وقائعها؟
مشاهد القتل والسحل والقصف لمْ تختفِ من تاريخ هذا البلد، ولمْ تُمحَ من ذاكرة الطفل الذي كنتهُ: صورة الجثة المسجّاة في زقاقنا يحومُ حولها الذباب والكلاب، ستظل في ذاكرتي للأبد، وأنا بعمر السادسة أقطع زقاقنا المنسي مع أختي، ونحن نرتجف من كل أطرافنا أمام ذلك المشهد المريع الذي بقي يتناسلُ لليوم.
في عام 1993 خرجت من وطنك عنوة؛ فكيف تتذكر ذلك اليوم؟ وما الذكريات التي حملتها معك؟ وكيف كان تأثير تلك التجربة على كتاباتك؟
في تلك السنة وكانت أحلك ما مرَّ بي من مخاضات، بين التهديدات القاتلة عقب مسرحية “الذي ظلَّ في هذيانه يقظًا”، وبين بقايا أحداث الانتفاضة العارمة عقب “عاصفة الصحراء” وبين أنياب الحصار التي وصلت إلى العظم، وبين سياط السلطة التي هرست ما تبقى من أنفاسنا وأحلامنا وحيواتنا.
عبرتُ الطريق الصحراوي الطويل إلى طريبيل (معبر الحدود العراقية الأردنية) ، وفي روحي تلوب مواجع ومخاوف وذكريات حلوة ومرّة، وأحلام بالهجرة إلى الأبد. لكن إلى أين؟
وقتها لمْ تكن هناك طائرات بسبب عقوبات مجلس الأمن على النظام والشعب، ولا دولة تؤويك سوى عمّان؛ حيث قضيتُ فيها حوالي ثلاث سنوات، ثم عبرتها إلى دمشق ومنها إلى بيروت سرًا، ومن هناك إلى جنوب القطب الشمالي (مدينة لوليو شمال السويد).
في تلك البقعة النائية من العالم، كانت الشوارع والأشجار والبنايات، مغطاة كلها بالصقيع، كأن أمامي ورقة بيضاء ممتدة ولا حدّ لها. الثلوج تُحيطني من كل الجهات (بدرجة 36 تحت الصفر) ، كتبتُ هناك بعض القصائد؛ منها “المحذوف من رسالة الغفران”، و”لوليو”.
وصفوك بأهم شعراء الحرب في العراق، ووصفوك أيضًا بالمرتدّ. كيف تنظر إلى كل وصف منهما؟
ذلك ما كتبته صحيفة المحرر الباريسية وقتها: إنه “واحد من أخطر شعراء الحرب الذين أنجبهم جيل الثمانينات الشعري في العراق، عاش الحرب بكل تفاصيلها (..) ولأنه يكره الحرب جدًا قدر حبه للعصافير، فقد كانت الحرب متشبثة به، ربما كانت بحاجة ماسة إلى من يكتب تأريخها السري غير ذلك التأريخ العلني الذي يدونه مزورو الحرب، وفي مقدمتهم شعراء المديح العالي”. كان ذلك بتاريخ 16/8/1993، وحمدًا أنني كنتُ قد خرجتُ من الوطن قبل ذلك بحوالي شهر، وإلا لكانت العواقب خطيره جدًا.
لم يكن الأمر سهلًا بالمرة أن تسرّب نصوصي عبر الصحف والمجلات، في زمنِ -صدام حسين- أعتى دكتاتورية شهدها تاريخنا الحديث؛ ففي وسط طبول الحرب كان الصوت المختلف والعزف المنفرد مريبًا جدًا وخطيرًا جدًا، ورغم أن قصائدي كانت تلوذ بالخطاب المستتر، إلا العيون السرية ومقصات الرقابة كانت بالمرصاد تتقرّى الأنفاس وما وراءها.
لكن بعد أن تم تقديم مقاطع من قصيدتي الطويلة “نشيد أوروك” على مسرح الرشيد عام 1993 في مسرحية بعنوان “الذي ظلَّ في هذيانه يقظًا”، من قبل المخرج غانم حميد، وأثارتْ ما أثارت لجرأتها غير المسبوقة ومنع عرضها، وكانت إحدى الصحف قد كتبت: “عندما أُسدل الستار على العرض الأول لمسرحية “الذي ظل في هذيانه يقظًا” دَوّت عاصفة من التصفيق لم يشهدها تاريخ المسرح العراقي من قبل، وخرج ممثلو المسرحية يشقّون طريقهم بين أمواج الجمهور المتلاطم على أبواب مسرح الرشيد في بغداد تاركين خلفهم علامات الدهشة والإعجاب، ولما نظّم التلفزيون العراقي استفتاءً مسرحيًا كان لـ “هذيان” حصة الأسد؛ فقد أجمع أغلب من شملهم الاستطلاع على أنها الأفضل والأجرأ من بين ما قدم مؤخرًا”.
وبهذا أصبح وجودي مُهدَدًا جدًا. لهذا انتهزتُ أول فرصة أتيحت لي وغادرتُ الوطن تاركًا كل شيء؛ حتى عائلتي التي استطاعت التسلل لي بصعوبة وبمساعدة أصدقاء بعد حوالي 6 أشهر.
وحين وصلت بيروت عام 1996 طبعتها هناك. وبعد صدورها ثارت ثائرة السلطة أكثر، فلمْ يكن لي بد من الرحيل عن طريق الأمم المتحدة إلى تلك البقعة النائية من الأرض.
عام 2006، وتحديدًا في مهرجان المربد بالبصرة، وجهت إليك رسالة تهديد بالقتل، ما سبب هذا التهديد وكيف كانت مشاعرك حينها؟
بعد سقوط النظام وصلتني دعوة عام 2006 للمشاركة في مهرجان المربد الشعري في مدينة البصرة، هرعتُ إليها فرحًا وأنا أتخيل أن عقلية المصادرة والقمع التي عانينا منها لعقود قد سقطت في بلدي مع سقوط النظام، فألقيتُ من على منصة المهرجان قصيدتي “نصوص مشاكسة قليلًا”، وما أن أنهيتُ وعدتُ إلى مقعدي، حتى وقف أحد عناصر ميليشيا الموت، مهددًا إياي بقطع لساني لأني تطاولتُ على معتقداته.
نعم كانت مشاعر مختلفة ومختلطة تجول في روحي وعقلي، وأنا أقطع الصحراء ثانيةً عبر حدود صفوان (معبر الحدود العراقية الكويتية)، عائدًا إلى منفاي.
استخدمت المرأة بدلالة رمزية في قصائدك. حدثنا عن المرأة ماذا تعني لعدنان الصائغ شاعرًا وإنسانًا؟
المرأة هي الوجود الأعظم بكل أسرارها ودهشتها وأطيافها: روحًا وجسدًا ومعنى، وهي الملجأ والحرية والقصيدة بالنسبة لي.
قد لا تجدين ديوانًا لي يخلو من المرأة رمزًا وحياةً، من ديواني الأول “انتظريني تحت نصب الحرية” عام 1984، وحتى ديواني الأخير “نرد النص” هذا العام 2022.
ستلاحظين يا سيدتي من عنوان المجموعة الأولى كيف ارتبطت واندمجت المرأة مع الحرية، والحرية مع المرأة، فكانا عنوانًا كبيرًا وأصيلًا للحياة وللعالم؛ فلا وجود بلا حرية، مثلما لا وجود للوجود بلا امرأة.
حينما تأخذك الذكريات وتعود بالماضي إلى أيام الشباب، كيف تأتي ذكرى العراق بخاطرك؟ ما الذي اختلف بين الأمس واليوم في العراق؟
لي بظل النخيل بلاد مسورة بالبنادق، كيف الوصول إليها؟. وقد بعد الدرب ما بيننا والعتاب، وكيف أرى الصحب من غيبوا في الزنازين، أو كرشوا في الموازين، أو سلموا للتراب. إنها محنة – بعد عشرين – أن تبصر الجسر غير الذي قد عبرت، السماوات غير السماوات، والناس مسكونة بالغياب.
عدنان الصائغ ونشيد اورورك رائعان.. إلتقيته في،بيروت عند السيد محمد حسن الامين قبيل هجرته الطويلة مع عائلته وابنيه.. في ملتقى الثلاثاء الثقافي. تحياتي له..