تلعب المنظومة العشائرية دورًا بارزًا في العراق، يبدأ من القيم الاجتماعية التي تضيفها من خلال تنظيم شؤون أفرادها ومعاونتهم في تجاوز بعض مشاكلهم الشخصية، وصولًا إلى دورها الحاسم في حل الخصومات الحاصلة ما بين أفرادها أو مع القبائل الأخرى، إضافة إلى دورها الكبير في معاونة القوات الأمنية في قتالها ضد تنظيم الدولة الإرهابي.
وفي الوقت ذاته، فإن للنظام العشائري جانبًا مظلمًا، ألقى ثقله على البلاد بشكل واضح بعد عام 2003، نظرًا إلى ارتفاع نسبة الصدامات المسلحة بين العشائر، ومحاولة فرض رؤيتها الخاصة بما يتعارض مع حرية الفرد والمجتمع.
وفي الحقيقة فإن هذا الواقع المظلم مختلف تمامًا عما سبقه من السنوات قبل عام 2003، إذا ما نظرنا إلى طبيعة النزعة العشائرية السائدة فيه منذ القدم، والتي تنبع من عادات وأعراف بدوية وريفية.
استطاعت هذه العقلية البدائية -رغم بساطتها- فرض سيطرتها على أراضيها وفق نظام يشبه المنهاج الاجتماعي إلى حد ما، ولعل أحدث هذه الأمثلة ما يرجع إلى مملكة أو إمارة المنتفق والتي سيطرت على مناطق وسط وجنوب البلاد، إضافة إلى مناطق شمال السعودية والكويت والأحواز، للفترة من عام 1530 وحتى عام 1918، والتي تعرف بأنها اتحاد لمجموعة من العشائر بقيادة آل السعدون وآل الشبيب، واللذان تمكنا من حماية نفوذهما وسلامة الأفراد القاطنين ضمن أراضيهم من الاحتلال العثماني أو غزوات القبائل المجاورة لفترة من الزمان.
وشكلت العقلية العشائرية على مر السنوات اللاحقة عامل ضغط على الحكومات المتتالية في العراق، دفعها هذا الضغط إلى العدل في قراراتها، لاسيما تلك القرارات التي تمس مناطق نفوذها أو أبناءها، وعلى النقيض من ذلك، فإن ما تشهده البلاد منذ عام 2003، مع مساهمة بعض القبائل في زعزعة استقرار المنطقة زاد من التوتر الأمني والاقتصادي والاجتماعي.
استفحال القوة بعد 2003
سمحت الفوضى التي تلت الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003 للعشائر بسط نفوذها في سهولة وبوتيرة متسارعة، ساهم غياب سلطة القانون من وتيرتها.
في هذا الصدد يعلّق شيخ قبيلة السادة المواشط عبد الهادي صالح الملا خليل لـ”مواطن“: أن عدم وجود ضوابط لانتشار الأسلحة، وعدم التزام بعض العشائر بالقانون المحلي، واستغلال تلك العشائر انشغال القوات الأمنية بالحرب ضد الإرهاب فاقم من حدة الأزمة.
ويضيف، أن لإهمال فئة الشباب ولمطالبهم المشروعة دورًا في هذه الأزمة، خاصة وأنه مكّن من استغلالهم وجذبهم بالمكاسب المادية والمعنوية إلى خوض بعض الصراعات العشائرية.
ويرى الباحث في التاريخ السياسي سلام العزاوي، أن الأزمة العشائرية الحالية هي نتيجة حتمية لسنوات من ضعف تطبيق القانون على العشائر النافذة، والتي مكنتها من توظيف هذا الضعف بشكل سياسي، من خلال دعم المرشحين وإيصالهم إلى قمة الهرم السياسي والأمني، لتسهيل تحقيق مصالحهم الشخصية، وتاليًا فإنه يتعلق بسوء إدارة المسؤولين لشؤون البلد.
ويستدرك؛ أن الجانب الآخر لهذه الصراعات يتعلق بتنفيذ بعض العشائر لأجندات سياسية أو خارجية داخل المنطقة، تهدف الى منع استقرار البلاد من أجل تحقيق منافع ومصالح ذاتية.
ذلك، وشهد قضاء الشطرة التابع لمحافظة ذي قار جنوب البلاد، في الـ20 من نيسان/أبريل، صدامات مسلحة عنيفة بين عشيرتي العبودة وبني زيد، قتل على إثرها عدد من المواطنين، إلى جانب مدير استخبارات قيادة عمليات سومر، العميد علي جميل عبد خلف، أثناء محاولته حل الأزمة بين العشيرتين.
الدوافع المادية وراء الصراعات العشائرية
ويزعم البعض أن لهذه الصراعات امتدادات حزبية، تحركها الدوافع المادية والخلافات السياسية، ويعزز هذا الاعتقاد الموقع الذي تحتله المحافظتان المتاخمتان للحدود الإيرانية، والواقعتان على الطريق الرئيسي لعمليات تهريب المخدرات والمشتقات النفطية والأسلحة.
ويؤكد هذا الرأي مصدر أمني في محافظة ميسان، فضل عدم الكشف عن اسمه، حيث يعتقد أن هذه الصراعات تتم برعاية بعض الجهات الحزبية، وتُعتبر امتدادًا لصراعها فيما بينها على تجارة السوق السوداء المارة عبر هاتين المحافظتين.
ويلفت في تصريحه لـ”مواطن”، أن هذه العلاقة الشائكة بين الأحزاب والسياسيين من جهة، وعشائر المنطقة الجنوبية من جهة أخرى، تجعل القوات الأمنية عاجزة عن اتخاذ أي إجراء فاعل ضد النفوذ العشائري المتصاعد، وتاليًا فإنها غير قادرة على فرض سلطة القانون بحسب زعمه.
آثار الأزمة على المجتمع
تقول سجى خالد الباحثة الاجتماعية: إن استفحال ظاهرة النزاعات العشائرية حول أبسط الأمور، يدفع بالكثير من الناس إلى اعتكاف الحياة الاجتماعية، خوفًا من التورط العفوي في الحوادث أو المشاكل ذات العلاقة بالصراع العشائري.
وتؤكد في حديثها لـ”مواطن“، إن هذا الأمر زعزع من استقرار المجتمع، ومهّد لاستقواء أبناء العشائر القوية على العشائر الأخرى الأضعف، وتزداد حدة الأزمة نتيجة ضعف الأجهزة الأمنية عن أداء واجباتها، وتاليًا عزوف الناس عن المطالبة بحقوقهم لدى الجهات المختصة خوفًا من الابتزاز أو التهديد العشائري.
وعن الضرر الحاصل نتيجة لهذه الأمور، تلفت سجى خالد أنها تؤدي الى الكبت الاجتماعي، والذي ينفجر أخيرًا على شكل العنف الأسري أو الانتحار، وهو ما يشهده المجتمع في الوقت الحالي من ارتفاع عدد حالات الطلاق والانتحار.
ويعتمد الحل بحسب شيخ قبيلة السادة المواشط عبد الهادي الملا خليل، في إشاعة ثقافة التآخي والتسامح بين العشائر والمكونات المختلفة، من خلال الندوات التثقيفية، وتنشئة الشباب بصورة حسنة تبدأ من داخل بيوتهم، إضافة إلى تفعيل دور القضاء ودعمه عشائريًا وشعبيًا من أجل إنهاء تلك الظواهر السلبية.
قصص أخرى يرويها ضحايا الأزمات العشائرية لـ”مواطن” تبين مدى سوء ما وصل إليه الحال، المواطن أبو علاء “50 عامًا من محافظة بغداد”، يؤكد خوفه من تقديم شكوى ضد جيرانه، بعد تجاوزه بالبناء ضمن مساحة داره، بسبب انتمائه لعشيرة نافذة.
أن يدهس مواطن في حادث سير، قد يعني دفعه لمبلغ 10 ملايين دينار، 8000 دولار تقريبًا، لمن دهسه، بسبب قوة عشيرة السائق وتضرر سيارته، وهي قصة حقيقة يسردها الضحية خلدون سعد “30 عامًا من بغداد”.
مثل هذه القصص أصبحت شائعة في البلاد تحمل بين طياتها تفاصيل غريبة توحي بأن استمرارها سَيُلحقُ البلد بكارثة حقيقية، وسط خطوات حكومية خجولة لا تدل على اهتمامها، في ظل “ديمقراطية ما بعد عام 2003”.