قبله لم يحظ ضرير ببطولة عمل سينمائي إلا نادرا، ورغم ندرة الأفلام لكن أبطالها اشتركوا جميعا في أن إصابتهم بالعمى جاءت جراء حادثة عارضة، كأن أصحاب الأعمال السينمائية يعتذرون بذلك إلى الجمهور أن الأبطال ليسوا أصحاء بدنيا كما ينبغي أن يكون، وهو أمر خالفهم فيه عبد السيد فقدم بطله الشيخ حسني بـ”الكيت كات” في اعتزاز بنموذج متفرد.
أشهر من عرفناهم من أصحاب الإعاقة البصرية أحمد عاصم في “الشموع السوداء“، إلى جانب سهى في “شمس لا تغيب“، نادية في “رجل في حياتي“، إخلاص في “جسر الخالدين“، غير أن الأول تربطه علاقة قوية بالشيخ حسني، علاقة الضد، فرغم ثراء أحمد وشبابه لم يعفه ذلك من مأساة سيج بها نفسه بصورة محكمة في حين لم تحجز رقة حال الشيخ حسني وكهولته من الانخراط بالحياة في عنفوان ونهم، لا يكاد بطلنا يلمح أي فرصة للاستمتاع إلا وقبض عليها، أما احمد فكان ينتهز الفرص ليكثف من سياج مأساته.
يفترش الشيخ حسني الأرض ممسكا العود في أولى مشاهد الفيلم، يغني ثم يشرع في الحكاية مصطحبا جلسائه إلى عالم سحري يذكرك بعوالم ألف ليلة وليلة، يوقظه فيه الشيطان حتى يرى “إنسية” باهرة الجمال تتعرى أمامه فـ”تخطف قلبه ويتاخد زي المسحور”.
تطرب نفوس الصحبة بغناءه وتتعلق أنظارهم بحكاويه وتتمدد خفة ظله فتستحوذ عليهم، جاءت سيطرة الشيخ حسني تامة على الجميع، بينما تكشف تفوقه شيئا فشيئا مع تسارع أحداث الفيلم، لهذا استنكر محاولة أحدهم نغزه بنقصه، ليسأله “أنت عميت إزاي؟”: أنا أعمى يا حمار! كيف لمن يفوقهم أن يكون عاجزا بينما هم الأسوياء، معنى يؤكده على طول الفيلم، لكن هذا لا يمنعه من الحكي.
يربط الشيخ حسني بين فقده بصره صغيرا ورؤيته لامرأة جميلة عارية “كانت غلطتي اني بحلقت”، ربط يبدو غريبا، فهو حينها لا يعدو أن يكون طفلا لا وزر عليه، لكنه يعكس غلطته التي اعتاد الآخرون محاسبته عليها، رغبته في المتعة، لينتظم المشهد الأول بذلك ضمن ما يسميه المسرحيون لحظة التنبؤ أو التلميح، لحظة تختزل ما سيقع بالعمل المسرحي في جملة أو مشهد ثم يأتي بقية العمل تفصيلا له.
تفوق الشيخ حسني لم يقترن بالفاعلية، فاكتفى أن يكون شاهدا على خيانة روايح لسليمان، وعلى رغبة ابنه في السفر وعلى استدراج فاطمة له، وعلى عجزه معها، وعلى غضبه ومغادرته المنزل لدى معرفته ببيعه، لا يفسر هذه السلبية قطعا قلة الحيلة ولا تتفق وحيوية الشيخ حسني، لكنها ربما نبعت من رغبته العميقة في القيام بفعل حرم منه للأبد، فعل “المشاهدة”، وهو سبب حفاوته بالشيخ عبيد، فرصته أن يمارس هذا الفعل، ليصحب عبيد في الشوراع محذرا إياه من عمود نور أو “نؤرة” ويأخذه إلى السينما ليقص عليه مشاهد الفيلم وإلى القهوة ليصف له “ولية إنما ايه.. حتة مهلبية”.
الشيخ حسني غير متزوج، لا يليق به أن يكون متزوجا ولا أن يكون مقيدا بأي قيد، عاش حياته بصورة مستقلة، متحررا إلى حد بعيد من مسئوليته عن أمه وابنه رغم حبه لهما، وأبى نزوعه للحرية أن يحيا رهينا لأي محبس، عبارة تستدعي صورة ساخر وأعمى آخر، ربما الأشهر في تاريخنا، المعري الذي عاش “رهين المحبسين” إعاقته وبيته، لكن الشيخ حسني خلافا للنابغة المتشائم حرضته إعاقته لا على العزلة بل على حب جارف للحياة، لا يعترف حتى بهذه الإعاقة التي اجتزأت من حريته قسما ليس بالهين، فلم يقبل القسمة، ليركب “العجل” ويقود الموتوسيكلات ويشاهد السينما.
يرث الابن الشغف بالمتعة، تحذره جدته طفلا من العود الذي أفسد أبيه، في عودة إلى ميراث ألف ليلة وليلة من عقد الصلة بين العود والموسيقي عامة وبين أوجه الفساد (الخمر والنساء وانحلال الأخلاق)، ومن هذا العالم السحري أتت الجدة بصورة خوفت بها حفيدها “أوعى تمسك العود، لو مسكت العود، العود جواه عفريت، هيطلع ديله اللي عامل زي التعبان ويلفه حوالين رقبتي ويخنقني ويكتفني ويخطفني جواه، ستي قالت لي ان العفريت أكل عقل أبويا وخلاه خدامه..”، لكن رغم شغفه إلا أن يوسف كان عاجزا ـ على خلاف أبيه ـ عن الاستمتاع بحياته.
في نص إبراهيم أصلان يتوارى الشيخ حسني وراء يوسف الشاب المثقف المحبط، أفسح أصلان لشخصية الأخير الباهتة المساحة الأكبر في نصه، مع هذا أبت حيوية الشيخ حسني إلا أن تتحايل على ذلك، فتسلل عبر أحاديث أبطال الرواية، ليكون حاضرا على طولها، فتستدعي ذاكرة المعلم رمضان موقف طريف للشيخ حسني “تذكر أنهم كانوا يذهبون لصلاة الفجر في رمضان وهم مساطيل. كان الشيخ حسني هو إمام المصلى الذي على البحر، وعندما خرجوا من حارة “حوا” نظر عبد الخالق الحانوتي ورأى زين وهو يوشك أن يؤذن لصلاة الفجر وقال: “الحق يا شيخ حسني، الواد زين ناوي يأذن واحنا لسه مشربناش”، وصاح الشيخ حسني: “ياواد يا زين. استنى”.
تنبه عبد السيد إلى محاولات الشيخ حسني التملص من إطار محدود، لا يناسبه، حبسه داخله أصلان، ليفلته المخرج الكبير ويقدمه ـ في نصه ـ ويؤخر يوسف الشخصية المكرورة إلى حد الابتذال
ويلعنه الأسطى سيد بينه وبين نفسه في موضع آخر: كان الأسطى يعتبر أن الشيخ القذر هو الذي أضاعه أكثر من أي واحد غيره، لذلك توقف في مكانه… وبصق ولعن دين الشيخ حسني هو الآخر..”.
ويستهدفه حديث دار بين اثنين من أبناء الحارة: غمغم الأسطى قدري ببضع كلمات وقال إنه الشيخ حسني، فقال العم عمران إن ذلك هو ما حدث فعلا، وأن الذي وقع على أوراق البيع هو الشيخ حسني، كان مديونا له بثمنه: “أيوة. شرب بالبيت حشيش وأفيون”.
ويحسده القهوجي عبدالله على حب الزوجة المتوفاة: أحببت الشيخ لأنها كانت تحبه وتلبس له القميص على اللحم وهو يقسم لها على العود ويغني (لما انت ناوي) و(اللي انكتب)… الشيخ حسني الذي لا يرى رأى أحلى الأيام مع نور. ملعون أبوكي دنيا…
تنبه عبد السيد إلى محاولات الشيخ حسني التملص من إطار محدود، لا يناسبه، حبسه داخله أصلان، ليفلته المخرج الكبير ويقدمه ـ في نصه ـ ويؤخر يوسف الشخصية المكرورة إلى حد الابتذال، واضعا الأمور في نصابها، رغم أن بطل عبد السيد لا يلتزم بأي نصاب، لا يميل إلى هذا المنطق الخطي، نازعا إلى الفوضى، يثيرها كلما سنحت أمامه الفرصة، فهي تجعله أقرب إلى ذلك العالم السحري الذي بشرنا به في بداية الفيلم، حيث يسود الغريب واللاعتيادي واللامعقول .. الطبيعي والاعتيادي والمعقول يشعره أن “نفسه مقبوض وحاسس أنه هيتخنق”، لكن في العالم الآخر تزداد فرصة حدوث أن “يسوق موتوسيكل ويطير بيه”.
يحكي الشيخ حسني لواعج نفسه تلك لابنه في المشهد الأخير، لتكون المرة الأولى التي يدور فيها حديثا بينهما، لهذا السبب تنفتح شهية الشيخ حسني للكلام، يبادر يوسف: شوفت اللي حصل، فيجيبه: فضحت الناس كلها، يضحك الشيخ حسني باستخفاف: ليس على الأعمى حرج. للمرة الأولى أيضا يعترف بإعاقته، يعترف بها ليتخفف من حرج أو قيد يلزم البصير فقط، روحه الحرة لا تنفك تؤكد على تلك قيمة.
يتجاوز الاثنان بعدها الحديث عن الفضيحة، لا يقفان عند تفاصيلها رغم ما قد تسببه من مشكلات لكثيرين، خاصة لفاطمة، كأن الفضيحة وتوابعها من طبائع الأمور بالكيت كات، فهي معلقة دوما فوق تلك الحارة بتلاصق منازلها وضيق شوارعها، أسرار الحارة ظاهرة رغم خفائها حتى تأتي لحظة يرتفع فيها الخفاء بالتعرية والفضح، ولم تكن هناك لحظة أنسب من تلك التي وقع عليها الاختيار، لحظة الموت في رمزيتها، يُجْهِز فيها الشيخ حسني على أسرار الحارة، يميتها كأسرار ويحيلها إلى فضيحة، في حين جانب التوفيق مخرجنا الكبير في اختيار اللحظة الأنسب لكشف سر فيلمه عند اختياره اسم “عرايا في الزحام”، لكن الرقابة أقالت خطأه، وسترت “عريهم” ـ إلى حين ـ بـ”الكيت كات”.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.