لا يختلف اثنان من المسلمين على أن القرآن الكريم هو المصدر الأول للدين، فمنه تُؤخذ كافة الأحكام التشريعية والعقائدية، ومنه عرف المسلمون قصص الأنبياء السابقين وطريقة تصورهم لله والدين والدنيا، فتشكلت أول صورة ذهنية عن الله في عقل المسلم عن طريق آي القرآن، وعرف المسلمون عالم الغيب؛ من جنة ونار وحساب وقيامة من نفس الطريق، وتهذب المسلمون بخُلُق القرآن في حضه على حُسن التعامل والأخلاق الجيدة مع الآخر، واحترام عقائد المخالفين وعدم سب آلهة المنافسين، وأشياء كثيرة ضمّنها القرآن حتى يمكن القول بأن كتاب الله لم يترك ثابتًا من ثوابت الدين في العقائد والمعاملات إلا ووضعه لتكتمل الرسالة الإلهية بوضع كافة الأطر والأركان المؤسِسة.
ويصدق ذلك قوله تعالى “ونزلنا عليك الكتاب تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ” [النحل: 89] وكل شيء هنا -أي من الثوابت والأركان والأطر المؤسسة للعقيدة-، ليست كل شيء خارج هذا السياق، فلم يتحدث القرآن في علوم الطبيعة أو العقل والفلسفة والمنطق، إنما ترك هذه الأشياء وفقا لخيارات الباحثين والفقهاء في الوصول، إنما بلغة بسيطة سهلة وصلت آيات القرآن لأذكياء العرب وأغبيائهم ومحدوديهم في نفس التوقيت، فالقرآن شامل بالغ في الوصول، وعباراته أسهل من أن يجعلها البعض مجرد “شفرات وألغاز” بحاجة إلى “دجالين” يستخدمون طرقًا غير طبيعية لفك هذه الشفرات، إنما قال الله “تبيانا” لكل شيء أي توضيحا وتبسيطًا للثوابت والأركان، ويصدق ذلك قوله تعالى “ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر” [القمر: 17]، أي يسرنا وبسطنا آيات الله في هذا الكتاب حتى قامت الحجة على الجميع، فعلى كل مُعتَبِر أن يتعظ مما جاء فيه، علمًا بأن هذه الآية ذكرت في سورة القمر أربع مرات في الآيات (17- 22- 32- 40) وهو تكرار يفيد التأكيد.
يصدق ذلك أيضًا قوله تعالى “ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون” [الأنعام: 38] و” اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ” [المائدة: 3] والمعنى المتضمن من تكرار هذا التأكيد في القرآن هو رسالة مباشرة للنبي والصحابة وآل البيت وكل من تبعهم بالاعتماد فقط على القرآن في صياغة العقيدة وتصوراتهم نحو الدين، وما خلاف ذلك هو مجرد اجتهاد بشري يؤخذ منه ويرد وفقًا لمحكم القرآن وبدهيات العقل والصالح العام، وقد صنّف المرحوم الشيخ “محمود شلتوت” شيخ الأزهر الأسبق والمتوفي عام 1963م كتابا بعنوان “الإسلام عقيدة وشريعة” ذكر فيه هذا المعنى أن عقيدة الإسلام تؤخذ نصًا فقط من القرآن الكريم وآيات المحكمة بالخصوص، أما الشريعة فمصدرها الرأي والاجتهاد والحديث والفكر والبحث وكل ما يؤدي لصالح الناس جميعهم دون تفرقة.
وهذا الذي وصل إليه شيخ الأزهر يتفق مع الثورة المقاصدية التي أنشأها الإمامان “أبو المعالي الجويني” و”أبو إسحاق الشاطبي” في القرنين الحادي عشر والرابع عشر الميلاديين، الموافق الخامس والثامن من الهجرة، ومفاد هذه الثورة أن غايات الإسلام الكبرى تتحقق في خمسة مقاصد؛ هي ” حفظ الدين – وحفظ النفس – وحفظ النسل – وحفظ العقل – وحفظ المال”. وقد بدأت تلك الثورة على أيدي الجويني في كتابه “غياث الأمم في التياث الظلم” الشهير بالغياثي، وكان كتابًا سياسيًا يشرح فيه الجويني طريقة حكم الدولة الإسلامية والشريعة وفقا لتصوره، وأكمل ذلك الشاطبي في كتابيه “الموافقات” و”الاعتصام” فكان من نتيجة ذلك أن وصل الفقهاء لما يسمى “فقه المقاصد”؛ وهو نوع جديد من الفقه ووسيلة جديدة للفهم ظهرت لتحليل الشريعة وتوجيه نظر الفقهاء للعمل بالمصلحة والمقاصد والكليات العظمى للدين وتقديمها على الفروع، فتأسس هذا الفقه الجديد ليكون هو وسيلة فقهية عملية تساعد الفقهاء على فصل الأصول عن الفروع، كي لا تتحول الفروع إلى أصول فينشق المسلمون أكثر ويتحاربوا على الصغائر والتفاهات.
وهذا الذي وصل إليه شيخ الأزهر يتفق مع الثورة المقاصدية التي أنشأها الإمامان "أبو المعالي الجويني" و"أبو إسحاق الشاطبي" ومفاد هذه الثورة أن غايات الإسلام الكبرى تتحقق في خمسة مقاصد؛ هي " حفظ الدين – وحفظ النفس – وحفظ النسل – وحفظ العقل – وحفظ المال".
وكانت من إنجازات ثورة المقاصد أن توقف انشقاق المسلمين “عقائديًا وفقهيًا”، ثم تبينت أصول الدين الكُلية المجمع عليها بشكل كبير، وبرغم أن الفقهاء وقعوا لاحقًا في آفة تقليد القدماء، إلا أن توقف انشقاق المسلمين وظهور المذاهب الجديدة كان الثمرة الكبرى للثورة المقاصدية، وبدأت مرحلة جديدة هي جمع الأقوال المتعددة في الحُكم الواحد، ثم الترجيح دون الوصول لفقه جديد مبني على ثورة المقاصد، ولعل الشاطبي – في تقديري – لو رأى حال المسلمين الآن لثار على هذا الوضع أيضًا وخرج بثورة فقهية أخرى تعادل – أو تفوق – ثورته المقاصدية لإيقاظ الوعي والضمير؛ فالمسلمون ارتدوا قرونًا إلى الخلف وتركوا فقه المقاصد لصالح “فقه الظواهر الحرفي” الذي ثار عليه الشاطبي نفسه، وأهمل المسلمون النظر في القرآن ومعانيه وأسراره، وتركوا فضيلة التدبر والتفكير في آيات الله المكتوبة والمحسوسة، فتراجعت أخلاق المسلمين بشكل كبير حتى شاعت بينهم الحروب والكراهية والنزاعات التافهة على ما كان عليه الجاهليون في حروب داحس والغبراء.
ومما وصل إليه المسلمون الآن من انتكاسة فكرية قولهم بنسخ “القرآن بالسنة”؛ أي إذا تعارض القرآن مع الحديث وفقًا لتصورهم سيكون الحديث أولى من القرآن، ومعظم القائلين بهذا القول للأسف من الحنابلة والسلفيين الذين سيطروا على المجال الديني والشأن العام آخر خمسة عقود، أي منذ السبعينات يجري تقديم الحديث على القرآن بشكل فج، وأعاد الفقهاء فقه الظواهر المصاحب لهذا السلوك حتى أهملت المصالح تمامًا، فشاعت أزمات الفقر والجهل والحروب دون قدرة على حلّها؛ سواء من الحكومات والمفكرين أو من الفقهاء الذين تصدى بعضهم لهذه الحلول دون جدوى، فكانوا يطوفون حول أساس المشكلة دون أن يمتلكوا الجرأة على التصريح بأن ما حدث هو انتكاسة فكرية حصلت بفعل الخطاب الديني الرجعي الذي أعاد المسلمين لعصر ما قبل الجويني والشاطبي، وعزز التقليد الحرفي الظاهري الذي كان عليه الفقهاء في العصرين المملوكي والعباسي بفعل الجمود العقلي الذي صاحب صعود الصوفيين بالعصر المملوكي، وبدء مرحلة جديدة من تقديس البشر والتحول من مذهبية الفقه المتحركة والديناميكية بشكل دائم إلى مذهبية الطُرق الجامدة والحرفية التي صار فيها الوليّ الصوفي معادلاً للأنبياء.
حُجة القائلين بنسخ القرآن بالسنة أمران اثنان:
أولا: أن من نقل لنا القرآن نقل لنا السنة، فصار ثبوت القرآن ثبوتًا ضمنيًا للسنة، وبالتالي فمرتبة التشريع واحدة مع تقديم القرآن في الدرجة لا في الرتبة، لأن كليهما مصدر أساسي للتشريع.
ثانيا: أن السنة شارحة للكتاب وبالتالي فالكتاب / القرآن أحوج للسنة في البيان والوصول، لذا فتقديم السنة على القرآن حين التعارض لا ينفي القرآن ضمنيًا، لكنه يحل التعارض الشكلي بتقديم معنى القرآن المشروح في السنة.
والرد على النقطة الأولى: قولهم بأن من نقل لنا القرآن نقل لنا الحديث، وهذا غير صحيح؛ فالقرآن كتب في عهد الرسول وانتشر بعد موته في نسخ كثيرة للأمصار والبلاد، لذا فلم يختلف المسلمون بشأنه، ووصل للجميع بالتواتر اللفظي دون الحاجة لسند، أما الحديث فكُتِب بعد 200 عام بعد وفاة الرسول، فكان يلزمه السند المتصل بثقة العدل الضابط، ومن نقلوه تأثروا بالفتن الكبرى والحروب الأهلية، ولكثرة الخلاف فيه تحرز الفقهاء وعدوه ظني الثبوت للسيطرة على عمليات التكفير والانشقاقات التي حدثت بسببه.
مصدر القرآن واحد، أما الحديث فمصادره متعددة حسب كل مذهب، أما قول بعضهم بأن القراءات هي سند القرآن كما الحديث فهو غير صحيح أيضًا؛ إذ السند فقط للقراءة والأسلوب، لا للفظ القرآني الثابت، فتعدد القراءات ظني يمكن رده والاختلاف فيه، أما القرآن قطعي الثبوت يقينًا، وتنوع القراءات وحروفها السبعة فقط للتيسير ولا يصلح لأن يكون دليلاً على شيء.
أما النقطة الثانية: فأترك الإمام الشاطبي ليرد عليها في كتابه الموافقات، إذ قال “رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار والدليل على ذلك أمور؛ أحدها: أن الكتاب مقطوع به والسنة مظنونة، والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل، بخلاف الكتاب؛ فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل، والمقطوع به مقدم على المظنون؛ فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة” (الموافقات 4/ 294) ويضيف الشاطبي أيضًا “والثاني: أن السنة إما بيان للكتاب، أو زيادة على ذلك، فإن كان بيانا؛ فهو ثانٍ على المبين في الاعتبار؛ إذ يلزم من سقوط المبين سقوط البيان، ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين، وما شأنه هذا؛ فهو أولى في التقدم وإن لم يكن بيانًا؛ فلا يعتبر إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب، وذلك دليل على تقدم اعتبار الكتاب” (الموافقات 4/ 296).
هذا الكلام من الشاطبي ينسف معظم ما وصل إليه شيوخ هذا الزمان في تقديم السنة على الكتاب، ولعل ما وصل إليه الشاطبي بفضل ثورته المقاصدية والاعتبار فقط بمحكم القرآن في صياغة العقائد الإسلامية، ثم البحث والاجتهاد العقلي في تحرير الصالح العام، وقد وصل الإمام السيوطي في تفسير قوله تعالى “وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم” [يونس: 15] أن هذا دليل قرآني واضح بمنع تأخير القرآن على أي دليل آخر، وأنه رد صريح من الله على من يزعم نسخ القرآن بالسنة (الإكليل في استنباط التنزيل صـ 147).
مصدر القرآن واحد، أما الحديث فمصادره متعددة حسب كل مذهب، أما قول بعضهم بأن القراءات هي سند القرآن كما الحديث فهو غير صحيح أيضًا؛ إذ السند فقط للقراءة والأسلوب، لا للفظ القرآني الثابت، فتعدد القراءات ظني يمكن رده والاختلاف فيه، أما القرآن قطعي الثبوت يقينًا
والخلافات بين القرآن والحديث كثيرة جدًا يصعب ذكرها في هذا المقام، فمن جهاد الطلب وقتل المرتد والخلافة وحراسة الدين ورجم الزاني المحصن وعذاب القبر والدجال، وأشياء أخرى كثيرة، لكن أذكر منها أمورًا مفصلية ترسخ فقه التعامل مع الآخر، ومنها:
أولاً: حديث الصعب بن جثامة في الصحيحين عن رسول الله قوله في أطفال المشركين إنهم منهم (صحيح البخاري 3012) (صحيح مسلم 1745) وحديث الغلام اليهودي الذي كان يخدم رسول الله فمرض الغلام حتى جاءه الرسول ولقنه الشهادة، وبعد أن قالها الغلام قال النبي الحمد لله الذي أنقذه من النار (صحيح البخاري 1356)، وتلك الأحاديث مخالفة لصريح القرآن في عدم تكليف الصغار والأطفال وأنهم من أهل النجاة الذين ماتوا على الفطرة، كما في قوله تعالى “ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير” [فاطر: 18]، وقوله أيضًا “قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ” [الأنعام: 164]
ثانيًا: حديث عكرمة البربري في البخاري عن رسول الله: “من بدل دينه فاقتلوه” (صحيح البخاري 6922-3017) وقد اشتهر الحديث في كتب الروايات (مسند الطيالسي 2812) و (مصنف الصنعاني 18705) و(مصنف ابن أبي شيبة 29006- 32728- 33143- 36491- 28992) وغيره في مسند أحمد وسنن ابن ماجة وأبي داوود والترمذي والنسائي وصحيح ابن حبان وغيرهم، وبرغم شهرة هذا الحديث الواسعة فهو معارض بشكل صريح لقوله تعالى “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” [البقرة: 256] كذلك “ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ” [البقرة: 217] وكذلك “إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضآلون” [آل عمران: 90] و “إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا” [النساء: 137] وقوله تعالى أيضًا “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ” [الكهف: 29]
فلم يجعل الله أي عقوبة دنيوية للمرتد؛ بل حذر من فعل الردة بعقابه في الآخرة، وأثبت الإيمان للمرتد بعد رجوعه عن ردته كما في سورة النساء، فلا ردة مطلقة ولا توصيف مطلق؛ يستفاد منه أن قلوب العباد بين يدي الرحمن، وأحوال الناس متغيرة فيُمنع عقابهم على رأيهم السلمي ما داموا لا يشكلون خطرًا على الناس، فإذا شكلوا خطرًا كان عقابهم “سياسة” لا “دينًا” وهذا ما وصل إليه أحد أكبر أئمة السلف المتقدمين وهو “ابراهيم النخعي” بقوله إن المرتد يقتل سياسةً لا دينًا، فلا شيء على مرتد خرج عن الإسلام بقناعاته وظل مُسالما.
أما حكايات قتل المرتدين في صدر الإسلام فسياقها السياسي مشهور يثبت أن هذه الحوادث لقتل المرتدين ليس منشأها العقيدة بل السياسة، وفي ذلك يقول الشيخ رشيد رضا “كان المرتد من مشركي العرب، يعود إلى محاربة المسلمين وإيذائهم؛ فمشروعية قتله أظهر من مشروعية قتال جميع المشركين المحادين للإسلام. وكان بعض اليهود ينفر الناس من الإسلام بإظهار الدخول فيه، ثم بإظهار الارتداد عنه ليقول قوله بالطعن فيه؛ قال تعالى: { وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ( آل عمران: 72) فإذا هدد أمثال هؤلاء بقتل من يؤمن ثم يرتد، فإنهم يرجعون عن كيدهم هذا فالظاهر أن الأمر بقتل المرتد كان لمنع شر المشركين، وكيد الماكرين من اليهود فهو لأسباب قضت بها سياسة ذلك العصر، التي تسمى في عرف أهل عصر سياسة عرفية عسكرية، لا لاضطهاد الناس في دينهم. ألم تر أن بعض المسلمين أرادوا أن يُكرِهوا أولادهم المتهودين على الإسلام، فمنعهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بوحي من الله عن ذلك، حتى عند جلاء بني النضير، والإسلام في أوج قوته، وفي ذلك نزلت آية { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ( البقرة: 256 ) (مجلة المنار 10/ 285)
ويؤكد رشيد رضا في موضع آخر ” ليس في القرآن أمرٌ بقتل المرتد، بل فيه ما يدل على عدم قتل المرتدين المسالمين الذين لا يحاربون المسلمين، ولا يخرجون عن طاعة الحكومة، فقد جاء في تفسيرنا لقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } ( النساء: 90 ) من سورة النساء ما نصه: (وفي الآية من الأحكام – على قول مَن قالوا إنهم كانوا مسلمين أو مُظهرين للإسلام، ثم ارتدوا – أن المرتدين لا يُقتلون إذا كانوا مسالمين لا يقاتلون، ولا يوجد في القرآن نصٌّ بقتل المرتد، فيجعل ناسخًا لقوله: { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً..} ( النساء: 90 ) إلخ، (مجلة المنار 23/ 185)
القرآن يقر بحرية العقائد المطلقة وبعدم عقاب غير المكلفين في الدنيا والآخرة، وأن من يقولون بنسخ القرآن بالسنة سوف يفضي بهم القول إلى إنكار هذه الثوابت القرآنية والكليات الإسلامية التي لم ينفها نص قرآني آخر في سياق مختلف، وهنا حكمة عدم جواز نسخ القرآن بالحديث
ويكفينا في هذا المقام فتوى مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في دورته 38 بالجلسة رقم (1) المنعقدة يوم الثلاثاء الموافق 16/6/1422ه، الموافق 4/9/2001م بمبني مشيخة الأزهر الشريف أن المرتد (لا يُقتل)، وأن باب التوبة مفتوح للمرتد مدى الحياة، في انقلاب جذري على إجماعات السابقين بشأن قتل المرتد، وربما ما وصل إليه مجمع البحوث هنا يعيد النظر في قصة نسخ القرآن بالسنة التي كانت هي مصدر هذا الفعل الموروث والمشهور من أمراء وفقهاء المسلمين منذ العصر الأموي حتى وقت قريب،
الشاهد في هذه المسألة أن القرآن يقر بحرية العقائد المطلقة وبعدم عقاب غير المكلفين في الدنيا والآخرة، وأن من يقولون بنسخ القرآن بالسنة سوف يفضي بهم القول إلى إنكار هذه الثوابت القرآنية والكليات الإسلامية التي لم ينفها نص قرآني آخر في سياق مختلف، وهنا حكمة عدم جواز نسخ القرآن بالحديث أن ذلك النسخ في حال وقوعه يعني اعترافًا ضمنيًا بأن الحديث – ولو خبر واحد – هو أفضل من القرآن، نزولاً في معنى الدليل الذي يحتجون به على جواز النسخ، وهو قوله تعالى” “ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها” [البقرة: 106]، فيكون تصرفهم مبنيًا على اعتبار أن الحديث أفضل من القرآن، وهو خير منه بالعموم، أو أن الاثنين واحد في رتبة الدليل، وهذا يخالف ما أجمع عليه المسلمون قاطبة دون استثناء، أن القرآن هو المصدر الأول والدليل الأسمى والفقه الأعظم للتعرف على الدين، وهو الذي يصيغ عقائد الإسلام الكلية وينسج عباراته ويضع قواعده وثوابته وأركانه.
وخاتمة هذا البحث أنني لا أنكر ما للأحاديث والروايات من فوائد عظيمة على مستوى السلوك والعلم واللغة والتاريخ والأدب، لكن هذه الفوائد تظل في سياقها مجرد اجتهاد بشري عرفناه “بخبر الواحد” لا يجوز تقديمه على “الخبر القرآني المتواتر“، ولا تخصيص عموم القرآن بها، بل جميعها أخبار ظنية تتضمن اجتهادات وبحوث ظنية، وقد حذرنا الله من اتباع الظن بقوله تعالى: “وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون” [الأنعام: 116] وقوله أيضًا “وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون” [يونس: 66]، وهو تقرير إلهي حاسم بأن أكثر الناس يتبعون الظن لما في ذلك من سهولة في الحُكم والتقرير، وأنهم لا يُكلفون أنفسهم عناء البحث والتحقق، وأن هذا السلوك الافتراضي كان خصيصة للمشركين الذين لم يجتهدوا في بيان ومناقشة رسالة الإسلام والرد عليها عقليًا ومنطقيًا بما يكفي، حتى إنهم كانوا فاقدين للبرهان “ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه “[المؤمنون: 117] في إشارة إلى ضرورة البرهنة العقلية والحجية على الدين والعقائد، والتحذير من خطورة الميل والهوى في معرفة الدين.
فالثابت على المستوى الاجتماعي أن ميول الناس وأهواءهم تتعارض مع الحقيقة الواقعية في الغالب؛ مما جعل الأكثرية منهم يندفعون في صياغة حقائقهم بأنفسهم، وهذا الذي يخلق الصراعات والحروب من لا شيء، وأن الذي يجمع الناس؛ إما نصوص دينية مقدسة فوق مستواهم العقلي، يتبعوها بالتسليم والإيمان القلبي كما في “عالم الغيب”، أو حقائق مشتركة واضحة يذعن إليها العامة مثلما يتفقون على المصالح، ومن تلك الحقائق وصل الشاطبي لفقه المقاصد كما تقدم، فهي الطريق لجمع الناس ووقف صراعاتهم العبثية، فالقرآن المُحكم مع المصلحة العامة هي الطريق الآمن لتدبر العالم كما أمرنا الله في كتابه الكريم وحثنا على التفكر في آياته والانسجام مع الكون والتفاعل معه كما هو موجود ليس كما نريد نحن أن يكون.