"قرابة نصف مجموع حالات الحمل التي تحدث كل عام عبارة عن حمل غير مقصود".
نتيجة كارثية لكنها واقعية ومستمرة وفقًا لمنظمة الصحة العالمية التي أشارت إلى أن 60% من حالات الحمل غير المقصود تنتهي بالإجهاض المتعمد، والذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى مضاعفات صحية خطيرة لإجرائه غالبًا بشكل غير آمن.
يتصل هذا الوضع السيء بشكل مباشر بعدم حصول جميع سكان العالم على تثقيف جنسي كاف، بما في ذلك المعلومات والخدمات الخاصة بتنظيم الأسرة، ففي كثير من الأحيان لا تكون وسائل منع الحمل متاحة، وذلك ما تؤكده تقديرات منظمة الأمم المتحدة التي تؤكد وجود 257 مليون امرأة في العالم ترغب في تجنب الحمل، لكنهن لا يستخدمن وسائل منع حمل آمنة وحديثة.
يمكننا مشاهدة الأرقام السابقة تتحول إلى حالات شخصية؛ وذلك بجولة بسيطة بين مجموعات التواصل النسائية على منصات التواصل الاجتماعي، فالكثير من الاستشارات موضوعها طلب حل سريع بعد حدوث حمل غير مقصود، ولأن مجيء طفل إلى العالم ليس بالأمر الهين، نستعرض سويًا كل ما تود معرفته عن موانع الحمل.
البداية: روث تماسيح ورصاص
رغم أن حبوب منع الحمل والواقي الذكري اختراعات حديثة نسبيًا؛ إلا أن ذلك لا يمنع وجود وسائل منع الحمل منذ آلاف السنين؛ فقد عثر الباحثون على لفائف ورق بردي تعود إلى حضارة مصر القديمة تتضمن توجيهات لتنظيم النسل، كان منها استخدام العسل وأوراق السنط والوبر لتغطية عنق الرحم؛ بهدف منع الحيوانات المنوية من المرور ومن ثم حدوث الحمل.
لم تكن هذه الوسيلة الوحيدة في عصر مصر القديمة لمنع الحمل؛ فقد وجد خليط شديد الغرابة للهدف نفسه، وهو عبارة عن روث التماسيح مخلوطًا بالعجين المخمر، وتقوم النساء برش الخليط على المهبل من الخارج والداخل حتى تمنع الحيوانات المنوية من الوصول للرحم.
لكن لم يتفق العلماء على فاعلية هذا الاختراع؛ فالبعض منهم يرون أن الطبيعة القلوية للبراز يمكن أن تقتل الحيوانات المنوية، بينما يشير البعض الآخر منهم إلى أن ذلك حل سيؤدي إلى نتيجة عكسية؛ لأن زيادة القلوية مفيدة للحيوانات المنوية.
في كل الأحوال لا نعتقد أن هناك أحدًا اليوم على استعداد للخضوع إلى تجربة علمية تقضي على هذا الخلاف.
من مصر القديمة نذهب إلى روما القديمة، لنطالع ما كتبه سورانوس أهم أطباء هذا العصر بخصوص وسائل منع الحمل، والتي تمثلت في حل غير متوقع، وهو أنه عندما يقذف الرجل تقوم المرأة بحبس أنفاسها وتنهض فورًا وتجلس القرفصاء وتحاول العطس قدر ما استطاعت، وفي الوقت نفسه تمسح المهبل من أي سوائل، ورغم أن سورانوس لم يتطرق إلى كيفية حدوث العطس عمدًا إلا أنه أكد على أن الهدف من وراء تلك الطريقة طرد السائل المنوي من جسد المرأة.
وفيما يبدو أن الإنسان القديم كان يهوى التجربة حتى وإن ترافق معها خطورة عالية، فقد شربت النساء في الصين القديمة الرصاص والزئبق والزرنيخ، وأحيانًا كن يخلطن الثلاثة مكونات معًا بهدف منع الحمل، إلا أن هذه الطريقة يمكن وصفها بالمميتة؛ فقد أدت لآثار شديدة الخطورة؛ بدأت من الفشل الكلوي إلى تلف الدماغ وانتهت بالموت أحيانًا.
لكن حتى نفهم الأمر بصورة أكثر عمقًا؛ فالنساء كن يستخدمن ما يتاح لهن من مواد على سبيل التجربة بهدف منع الحمل، وذلك ما دفع النساء الهنديات في القرن الأول الميلادي إلى الاستعانة بالقطن بعد غمسه في مزيج من السمن والعسل ومن ثم وضعه في المهبل، بالإضافة إلى استخدامهن أيضًا الملح الصخري بعد طحنه لإبادة الحيوانات المنوية.
الاكتشاف الثوري: حبوب منع الحمل بين الضرر والمنفعة
تطورت موانع الحمل بمرور الزمن؛ فظهرت بعد ذلك الواقيات الأنثوية والرغاوي القاتلة للحيوانات المنوية، ومن ثم كان الحل الذي قلب موازين المعادلة؛ وهو حبوب منع الحمل، لكن الطريق إلى هذا الحل لم يكن ممهدًا، فأول من استخدمت عبارة تنظيم النسل أو بالإنجليزية “Birth Control” هي الممرضة الأمريكية مارغريت سانغر، التي تعتبر من الرائدات في مجال التربية الجنسية وتنظيم الأسرة، فقد كتبت العديد من المقالات في هذا المجال، ثم افتتحت أول عيادة لتنظيم النسل في الولايات المتحدة عام 1916 ما أدى لاعتقالها وصدور حكم بالسجن ضدها.
لكن ذلك لم يمنع “سانغر” من إكمال المسير؛ كيف لا وهي قد ولدت بين أحد عشر طفلًا لأسرة فقيرة من الطبقة العاملة، وتعرضت والدتها لخطر الإجهاض سبع مرات ما أدى لوفاتها في الخمسين من عمرها؛ نتيجة عدم القدرة على السيطرة على حملها المتكرر، وربما يجعلنا ذلك نفهم ما الذي أدى بها إلى السير في هذا الطريق بكل عزيمة وإصرار.
فقد رأت بأم عينها على مدار عقود كيف أثر عدم توافر وسائل منع الحمل سلبًا على النساء وأضر بصحتهن، خصوصًا اللواتي عانين منهن من الفقر والحرمان، فكان حلمها الوصول إلى وسيلة منع حمل رخيصة وآمنة تستطيع أي امرأة في العالم استخدامها بكل سهولة.
وكان بداية الأمل بحصول سانغر على منحة من صديقتها الثرية ناشطة حقوق المرأة كاثرين دكستر ماكورميك لتمويل أبحاث تهدف إلى ابتكار وسيلة منع حمل هرمونية، وقد أعطت سانغر المنحة لفريق بحثي يقوده عالم الأحياء التجريبية غريغوري بنكاس الذي انطلق على الفور في تطوير حبة تحتوي على هرمون البروجيستين الاصطناعي، على سبيل محاكاة هرمون البروجسترون الذي ينتجه جسم المرأة عقب عملية الإباضة.
واستعان بنكاس بطيب أمراض النساء جون روك لإجراء دراسة إكلينيكية صغيرة على مريضاته اللواتي لا يستطعن الإنجاب لمعرفة ما إذا كانت تلك الحبة ستتسبب لهن في حمل كاذب أو لا، واضطر بنكاس وروك إلى إجراء تجاربهما بشكل غير معلن، لأن توزيع وسائل منع الحمل وإجراء أبحاث عليها كان مجرّمًا آنذاك، وفي الوقت نفسه فإن إدارة الغذاء والدواء الأمريكية لم تكن لتوافق على استخدام تلك الأقراص إلا بعد نجاح التجارب الإكلينيكية.
وبالفعل نجحت التجارب الإكلينيكية، ومن ثم وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية في 9 مايو عام 1960 على طرح حبوب منع الحمل بشكل تجاري، وتم إلغاء القوانين التي تحظر استخدام وسائل منع الحمل، لكن نهاية القصة لم تكن سعيدة بهذا الشكل للأسف، فمنذ طرح حبوب منع الحمل في الصيدليات وحتى اليوم يترافق استخدام النساء لها بالكثير من القلق؛ نتيجة الخوف من الإصابة بأحد أعراضها الجانبية.
ويأتي الاكتئاب في مقدمة تلك الأعراض الجانبية، فبحسب دراسة دنماركية حديثة فحص الباحثون السجل الطبي لأكثر من مليون امرأة ليس لهن تاريخ سابق مع الاكتئاب، وتتراوح أعمارهن بين 15 إلى 34 عامًا، وتوصلوا إلى أنه بالمقارنة مع غير المستخدمات لحبوب منع الحمل فإن المستخدمات لها كن أكثر عرضة لتلقي وصفة طبية مضادة للاكتئاب في مرحلة لاحقة، أو تشخيص إصابتهن بالاكتئاب في أحد المستشفيات.
بالإضافة إلى الاكتئاب؛ هناك خطر الإصابة بنوع من تجلط الدم قد يؤدي إلى الوفاة بمقدار الضعف وفقًا لتحذير اللجنة البريطانية لسلامة الدواء عام 1995، إلا أن الدكتورة سارة هاردمان المتخصصة في الصحة الجنسية والإنجابية ترى أن ذلك الخطر تم تضخيمه، فبحسب وجهة نظرها سيكون دقيقًا القول بأن عددًا قليلًا ربما من خمسة إلى 12 امرأة من كل عشرة آلاف امرأة سيصبن بتجلط الدم، لكن ليس كل هؤلاء النسوة سيتوفين.
يوجه الاتهام إلى حبوب منع الحمل أيضًا بأنها تتسبب في زيادة وزن اللواتي يستخدمنها، لكن هذا الاتهام بشكل عام ما زال غير متفق عليه علميًا حتى اليوم، وبحسب الطبيبة ماريا غالو المتخصصة في علم الغدد الصماء بجامعة ولاية أوهايو الأمريكية؛ فإن محاولة إيجاد صلة بين حبوب منع الحمل وزيادة الوزن أشبه بمحاولة إيجاد الصلة بين الأشياء غير المرتبطة ببعضها بعضًا لمجرد وقوعها عدة مرات على سبيل المصادفة، خصوصًا إذا وضعنا في الحسبان أن الشخص العادي يزداد وزنه بواقع نصف كيلو غرام كل سنة بعد البلوغ، وهي الفترة التي تبدأ فيها أغلب النساء في استخدام وسائل منع الحمل.
لكن الصورة ليس بهذا السواد؛ فهناك آراء علمية على الجهة الأخرى تشير إلى فوائد محتملة لحبوب منع الحمل، ومن ذلك تقليلها سرطان الرحم وسرطان المبيض، فقد أثبتت دراسة نشرتها الجمعية الأوروبية لطب الأورام عام 2016 أن حبوب منع الحمل توفر حماية طويلة المدى ضد سرطان المبيض بصورة تنخفض معها معدلات الوفاة الناجمة عن هذا النوع من السرطان.
يوجد بعد آخر لفوائد حبوب منع الحمل لا يحظى بتسليط الضوء عليه بشكل كافٍ؛ ألا وهو البعد الاقتصادي، فبعد إتاحتها في الصيدليات بدأت ثورة اقتصادية نسائية بدخول النساء مجالات دراسية مثل: القانون والطب وطب الأسنان وإدارة الأعمال، والتي كانت في السابق حكرًا على الذكور بدرجة كبيرة.
ففي عام 1970 كان الذكور يمثلون أكثر من 90% ممن يدرسون الطب، وأكثر من 95% من دارسي القانون وإدارة الأعمال و99% من دارسي طب الأسنان، لكن هذا النسب انخفضت بمرور السنين نتيجة استخدام حبوب منع الحمل، التي سمحت للنساء بالتحكم في خصوبتهن والتركيز على حياتهن التعليمية والمهنية.
الرجال يدخلون على الخط
وفقًا لاستطلاع رأي أجري في بريطانيا؛ فإن ثمانية من كل عشرة أشخاص يرون بأن وسائل منع الحمل يجب أن تكون مسؤولية مشتركة بين الرجل والمرأة، لكن الواقع يسير عكس ذلك فمجال العلوم الإنجابية يركز بشكل أساسي على جسم المرأة ويهمل الرجل، والدليل هو انتشار أطباء أمراض النساء، بينما لا يحظى أطباء أمراض الذكورة بنفس الدرجة من الانتشار.
بالإضافة إلى أن الأبحاث المتعلقة بحبوب منع الحمل للرجال لم تتأخر فحسب، بل أنها توقفت لاحقًا نتيجة نقص التمويل، ويرتبط ذلك بأن شركات الأدوية والرجال أنفسهم لا يتقبلون بشكل كبير الآثار الجانبية المحتملة.
لذا يعد الواقي الذكري حتى اليوم الوسيلة الأساسية لمنع الحمل بالنسبة للرجال، بالإضافة إلى منع الإصابة بالأمراض المنقولة جنسيًا، ويرجع أول توثيق في التاريخ للواقي الذكري إلى عام 3000 ق. م في الحضارة اليونانية؛ إذ استخدم الملك مينوس مثانة الماعز أثناء ممارسة الجنس مع زوجته، وذلك بعد انتشار شائعة تشير إلى موت إحدى عشيقاته بعد جماعه لها.
أما في حضارة قدماء المصريين، فقد استخدم الكتان في صناعة الواقي الذكري، ويبدو أن كل حضارة استخدمت العنصر الأكثر وفرة لديها، فعندما فكر الصينيون القدماء في واقٍ ذكري عملي صنعوه من الحرير، وقد تطور الواقي مع مجيء عصر النهضة الأوروبية؛ فصُنع آنذاك من أمعاء الضأن والماعز.
وظلت الحلول البدائية سائدة حتى جاء المخترع الأمريكي تشارلز جوديير ليغير ملامح صناعة الواقي الذكري بعد دمجه الكبريت بالمطاط الطبيعي، لتكون النتيجة مادة جديدة مرنة وتتحمل الشد، فظهرت الواقيات الذكرية المصنعة من المطاط بأحجام مختلفة.
ثم بعد ذلك في عشرينيات القرن الماضي اخترعت مادة اللاتكس التي حولت الواقي الذكري إلى شكله الحالي؛ فهي تتميز بقوتها على تحمل الشد، وبمرور الوقت أضيفت بعض التحسينات للواقي مثل دمجه بمبيد الحيوانات المنوية وتعدد نكهاته لزيادة المتعة في الجنس الفموي، وأصبح الواقي الذكري جزءً محوريًا في الحياة الجنسية للكثيرين، فعدد الواقيات التي استخدمت في عام 2015 على سبيل المثال تقدر ب 18 مليار واقي.
أما مؤخرًا فقد ظهر اختراع عبقري للرجال تحت الدراسة سيمكنهم من منع حدوث الحمل دون آثار جانبية تذكر حتى الآن، ويتمثل في حقن مادة من الجيل في القناة المنوية لإقامة حاجز يمنع مرور الحيوانات المنوية من الخصيتين إلى مجرى البول، ومن المثير للإعجاب أن مفعول الحقنة المانعة الذي يمتد إلى عامين يمكن أن ينتهي بحقنة ثانية تذيب الحاجز الهلامي.
السؤال المحير: كيف يحدث الحمل رغم استخدام الموانع؟
يتساءل الكثيرون عن كيفية حدوث الحمل مع بعض الأشخاص الذين يستخدمون موانعه، ولأن الإجابة لا يمكن تبسيطها سنعود إلى دراسة أجراها معهد غوتماشر وجد فيها أن 38% من النساء اللواتي يستخدمن حبوب منع الحمل تناولن حبة واحدة أو أكثر خلال فترة ثلاثة أشهر، بالإضافة إلى أن 61% من النساء اللواتي اعتمدن على شريكهن في منع الحمل ذكرن أنه لم يستخدم الواقي الذكري في كل عملية جماع، أو في أحسن الأحوال استخدمه مرة واحدة على الأقل خلال فترة ثلاثة أشهر.
تعكس لنا النسب السابقة بوضوح مدى شيوع الاستخدام غير المنتظم لموانع الحمل، وذلك ما يؤدي بالطبع إلى حالات لا نهائية من الحمل غير المقصود، فالأرقام التي تنشرها شركات الأدوية بخصوص فاعلية موانع الحمل ترتبط بالاستخدام المثالي وليس المتقطع.
بالإضافة إلى ما سبق هناك بعض العوامل التي تقلل من فاعلية موانع الحمل، مثل: تناول المضادات الحيوية التي تقلل من تأثير حبوب منع الحمل، أو زيادة الوزن فبعض الأبحاث تشير إلى أن حبوب منع الحمل يقل تأثيرها عند النساء اللواتي يعانين من السمنة.
هناك أيضًا حالات الإسهال والمعاناة من القيء، فحين حدوث الأعراض الصحية السابقة تقل بشكل متوازٍ فاعلية حبوب منع الحمل، نضيف إلى ما سبق احتمالية تزحزح اللولب من مكانه بمرور الوقت، أو تمزق الواقي الذكري نتيجة عدم استخدامه بشكل صحيح، أو فتح عبوته بطريقة تجعله يتمزق بالخطأ.