علقت بذاكرتي منذ أيام كلمات بأحد المهرجانات الشعبية حين قام المؤدي بتهديد نظرائه وأعدائه بـ “هولوكست” جديدة، فتوقفت وانزعجت، برهة، لأعود وأحدث نفسي بعاميٍة مصرية تستطيع إنهاء الموقف: “يا سيدي انت هتقف على دي؟!”.
بعدها بأيام يحضرني الموقف ذاته، لأقوم بالرجوع بالذاكرة إلى الوراء أكثر، وأتذكر كلمات مهرجان لا يوجد أحد إلا ولا يعرف كلماته، ضمنهم كاتب المقالة، وأحد الجُمَل داخل المهرجان يقوم فيها شاب بمعايرة صديقه أنه استولى على حبيبته، ليستطرد في كلمات المهرجان ويحكي له عما تقوم به محبوبته الجديدة -ومحبوبة صديقه القديمة- بفعله من أجل إرضائه وإسعاده!
أعود بالذاكرة بتسارع زمني أكبر يليق بعصر السرعة إلى الجامعة، ومحاضرة اللغة الروسية مع أستاذة موريدوفا، التي كانت مُكلَفة بتدريس مبادئ اللغة الروسية لفرقتنا في السنة الأولى، لتقوم -كنوع من أنواع التواصل والتقارب- بسؤال كُل مِنا عن اسم والدته، ليتعرق الغالبية، ويرفض البعض أن يدلي باسم والدته باللغة الروسية، واختلق البعض الآخر أسماءً وهمية، وآخرون لم يجرؤوا على المواجهة، فانتقلوا في خِلسة وخِفة في نفس الوقت، إلى الصفوف التي انتهت من الإجابة؛ ليقوا أنفسهم شر ووخز آلام الوصم الاجتماعي بمجرد المشاركة في مهمة ميرودوفا.
تبحر ذاكرتي أكثر وتستدعي مشهد صديقي “ماجد جيد” الذي لم يغِب عن الذاكرة منذ الطفولة، الذي أصر على قراءة السورة القرآنية المقررة في منهج اللغة العربية -بأحد صفوف الابتدائية- بـ “باسم الله القويّ”، بدلًا من “بسم الله الرحمن الرحيم” التي يقولها المسلمون، ليتبعه ضحك بصوتٍ مدوٍ من أستاذة سامية طه مُعلمة اللغة العربية، لتآمره بتكرار المحاولة باستخدام البسملة الشرعية التي يُقرها أبناء الوطن “الواحد”، ليقوم ماجد، ولكن بالطريقة التي اختارها عقله كالمرة الأولى، لتُكلل المحاولة في المرة الثالثة بنجاح مساعي المُعلمة وهزيمة ماجد، وشهادتي على أولى وبدايات حادثات التمرُد الذي رفض نتائجه ونهايته عقلي وقلبي.
وينتهي الفخ الذي تآمرتا في وضعه الذاكرة قصيرة المدى والأخرى الأكثر طولًا، بتذكر صديقي الصدوق الذي لم نتحدث قطّ، والذي قابلته مرة واحدة، وصداقته هُنا رغم أنني لم أحادثه إلا مرة واحدة، وكان محتوى حديثنا بضع كلمات من النوع التي يستخدمها الغُرباء للتغلُب على الوقت المنتظر لقضاء حاجاتهم بإحدى المصالح الحكومية، وتلك الصداقة المزعومة على غِرار ما قاله الأديب البرازيلي باولو كويلو حينما ذهب إلى إيران: قابلت أصدقاءً رأيتهم لأول مرة، أتذكره في الجلسة شبه اليومية لحفظ القرآن وهو يتلعثم ويقول “وكواكو أترابًا”، بدلًا من “وكواعب أترابًا”، وما تلاه من ضحك المتحلقين بالجلسة وكذا قهقات المُحفِظ، الذي أصر على تكراره للآية خمس أو ست مرات رغم فشل صديقي؛ رغبًة منه في عدم الوقوع بذنب النطق الخطأ للقرآن، وربما وجدها فرصة للتندُر والتسلية تجعله يستمرئ بعض لحظات اليوم الممل والمُتعِب في عمله بعدة جلسات تحفيظ للقرآن، في حين أنني كنت أرى صديقي في الجلسة الترفيهية التابعة لجلسة الحفظ؛ حيث ممارسة إحدى ألعاب الكمبيوتر وتسديد الرميّ والنيران تجاه الطائرات، فكان صديقي أمهرنا، وأثقبنا نظرًة، وأقدرنا على التعامل مع تقنيات الحاسوب، وبقية قصة صديقي على يقين من أن الجميع يعرفها عن ظهر قلب.
أترك المواقف السابقة التي وجدتها خير احتمال لاستهلال المقالة، وربما هي خير لبعض الأفهام من المقاربات والطروحات والتنظيرات ونتائج الأبحاث وتوصيات الدراسات، وأزيد على ذلك أنه يمكنك التوقف كقارئ عند هذا السطر وهذه الكلمات، وأبشرك بأنك قد جنيت فكرة المقالة، وفهمت وأدركت ما أريد أن أقوله عن "المواطنة"، وأثر غيابها من انحرافاتٍ سلوكية.
وأعود إلى العقود القليلة الماضية، والتي كانت تشهد اهتمامًا عالميًا متزايدًا بموضوع مشاركة الشباب في النطاق السياسي والاجتماعي والثقافي، ويُعزى ذلك إلى القلق العام المتزايد بشأن “عجز مشاركة الشباب” واستياء الشباب في المجتمعات العالمية عموما، ونرى الخطاب المعاصر يقوم بموضعة هذه الإشكالية وفق نقص المشاركة الشبابية في العمليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي بدورها يُنظر إليها على أنها تهديد لأساس الديمقراطية ذاته، ولسلم المجتمع ذاته أمنيًا وقيميًا. وفي السنوات الأخيرة جادل العديد من الباحثين حول قضية “المواطنة وتأثُرها بالانحرافات السلوكية لدى الشباب“؛ مؤسسين لعدة طروحات ومقاربات -خلاف السائد- حول أن هناك حاجة ملحة لتحليل مشاركة الشباب المجتمعية، ونصيب المواطنة من إسهاماتهم ورؤاهم وفق تشكُلات النظام الهيكلي والوصول غير المتكافئ إلى الموارد، والذي يخلق الانقسامات الرمزية بين الفئات المختلفة داخل دائرة “الشباب”، وداخل دائرة المجتمع ككل.
وحينما يتم النظر إلى الشباب وسلوكيات الشباب ومشاركتهم وإنتاجاتهم وتفاعلاتهم مع المجتمع ومع البيئة المحيطة، فنحن هنا في معرض النظر داخل إطار نظرية المواطنة، ومن خلال منظور الإقصاء الاجتماعي وما يتبعه من انزواء وعُزلة ثقافية وسياسية واقتصادية، ومن هُنا تنتُج ثنائية “المُهدِد” و “المُهدَد” داخل لا وعي الشباب، ويجدر بنا أيضًا فهم القضية داخل علاقات القوى غير المتكافئة، والتنازُع على تشكيل فرضيات وتصورات لدى كل فرد/مجموعة/ جيل؛ لفرص الحياة التي تعتبر ضرورية للبقاء والسيطرة وفرض مفاهيم القيم والتصورات بشكل يضمن مصالح كل فئة دون النظر إلى الصالح العام والاستقرار والسلم المجتمعي، وهنا أم المشكلة وأساس القضية.
وبدءً نتجه إلى تعريف المواطنة، الذي يحوي في ذاته المفهوم والمشكلة والحل؛ فتشير المواطنة بالدرجة الأولى إلى انتماء الإنسان إلى الدائرة الكبرى؛ وهي الدولة التي ولد فيها أو هاجر إليها، والدائرة الأوسط؛ أي المجموعة (المجتمع) التي ينتمي إليه، والدائرة الصغرى؛ والتي تُعد حلقات وتروس الآلة الكبرى والوسيطة، وهي علاقة الفرد ببقية أفراد مجتمعه، أو مع “الآخر”، الذي لا يحل فردًا أو عضوًا في دوائره الأصلية. وبالطبع تُحكم الدوائر هذه بخضوع المواطن الشاب للقوانين الصادرة عن الدولة، والتي تعتمد في المقام الأول بتمتعه بالتساوي مع بقية المواطنين في الحقوق والتزامه بأداء الواجبات، وهناك من الباحثين من تناول المواطنة في إطار فكرة الانتماء على أنها مفهوم يشمل عدة أبعاد؛ سياسية، ومدنية، واجتماعية، وبيئيـة؛ حيـث عبر الباحث الاقتصادي الإنجليزي “توماس مارشال” عن هذه الرؤية في دراسـته التـي حملت عنـوان “المواطنة والطبقة الاجتماعية“؛ حيث قام بتعريف المواطنة بأنها المكانـة الممنوحـة للذين يتمتعون بالعضوية الكاملة في الجماعة، وأن جميع من يتمتعون بهذه المكانـة هم متساوون من ناحية الحقوق والواجبات.
وفكرة “المواطنة الشبابية” أو العلاقة بين قيم المواطنة وبين السلوك الحياتي والاجتماعي والمعيشي لدى الشباب من الموضوعات الهامة التي شغلت، وما تزال تشغل العديد من علماء الاجتماع والسياسة، ومما ساعد على المزيد من الاهتمام بها ما يشهده العـالم من اهتمام بمسألة نشر الديمقراطية في دول العالم، والدعوة إلى العولمة من جهـة، ومن جهة أخرى الدعوة إلى مناهضة موجات العنف والصراعات الدموية التي اجتاحت كثيرًا مـن دول العالم، والقائمة على أساس التفرقة العنصرية والعرقية أو المذهبية بين أبناء الـوطن الواحد، مما حدا بالمنظمة الدولية لحقوق الإنسان إلى العمل علـى إحـلال السـلام والتأكيد والتركيز الدائم على قيم المواطنة وحقوق الإنسان.
تشير المواطنة بالدرجة الأولى إلى انتماء الإنسان إلى الدائرة الكبرى؛ وهي الدولة التي ولد فيها أو هاجر إليها، والدائرة الأوسط؛ أي المجموعة (المجتمع) التي ينتمي إليه، والدائرة الصغرى؛ والتي تُعد حلقات وتروس الآلة الكبرى والوسيطة، وهي علاقة الفرد ببقية أفراد مجتمعه، أو مع "الآخر"، الذي لا يحل فردًا أو عضوًا في دوائره الأصلية.
وفي دراسة مهمة أعدها الباحثان الجزائريان سعد الدين بوطوبال وفوزي ميهوبي، والتي ارتكزت على الشباب الجامعي وحملت عنوان “اتجاهات الشباب الجامعي نحو قيم المواطنة في الجزائر“، وقد نُشِرت عام 2004؛ فقد أكدت أن قيم المواطنة مطلب أساسي لبناء الدولـة المنفتحـة والمتطـورة لتحقيـق مرتكزات المواطنة، والتي من أهمها: الوعي السياسي والاجتماعي والتربية الوطنية والمشاركة السياسية؛ وذلك لبناء أفراد في المجتمع قادرين على الدفاع عن الـوطن وأمنه؛ فقيم المواطنة ترتبط بالمواطنة الصالحة، والتي لا بد من توافرها حتى تكون المواطنة حقيقية نابعة من داخل الأفراد.
وهنا الدراسة التي ارتكزت على العديد من الأبحاث والمصادر العربية، حددت شرطًا هامًا للمواطنة السليمة والمُجدية للمجتمع؛ وهو صلاح المواطنة ذاتها؛ أي بتهيئة الظروف لتحققها، وبالطبع تختلف تلك الظروف بين الاجتماعي والعام والسياسي والثقافي والقانوني.
والمتوقع بالطبع من تهيئة مثل الظروف لزرع المواطنة الصالحة داخل المواطن والطفل والشاب، هو إبراز قيمة الانتماء السلوكي، والتفاعل مـع جميع أفراد المجتمع على اختلاف اعتقاداتهم وتطلعاتهم بشكل إيجابي متفهم للخلافات والاختلافات بين الجميع والالتزام بمساحة الحرية والفردانية لدى المجموع، بغض النظر عن تنوع وتشكُلات ثقافاته وطبقاته.
وسلوك الانتماء هُنا يرمي إلى معنى واحد من حيث العطاء والارتقاء والخدمة الخالصة للوطن والشعب. ويمثل الانتمـاء شعور داخلي يجعل الشاب يعمل بحماس وإخلاص للارتقاء بمجتمعه سلوكيًا وإنسانيًا، لتكون ثقافة التسامح هي لُب نجاح قيمة المواطنة فيه، وتصبح مفاهيم قبول الآخر والتآلف بين المجموع وعدم الانزعاج من الحرية بكافة أنواعها التي تضمن حقوق وحرية الفرد دون التعرض لحريات المجموع، نافذًة على المستوى العملي والتطبيقي، لا أن يُكتفى بالترويج لها فقط في الخطابات والنصوص والتنظيرات، وتصبح ثقافة احترام حقوق الإنسان والانتهاء عن إيذاء الغير والقيام بأفعال؛ مثل السرقة والتحرش والتعدي على ممتلكات الغير، من منطلق قيمي أولًا قبل أن يكون خوفًا من تحقق العقوبة ونفاذ أدوات الردع.
ومن مقتضيات الشعور بالانتماء لدى الشباب هُنا، أن يفتخر الفرد أو الشاب بمجتمعه المنحاز لقيم بعينها فوق التمسك بالموروث والسائد والقانوني الجامد المنتصر لعقلية الأوحد، أو لسرديات ومصالح النظم التوتاليتارية؛ فالانتماء لدى الشاب وفق خط المواطنة هو قبل أي شيء إحساس إيجـابي تجـاه الـوطن والمجتمع ولمؤسسـات المجتمع المدني، ويتعلق سلوك المواطن الشباب تجاه المواطنة بالرغبة في تقمص عضوية ما وبالمشاركة، وبالإحساس بمسؤوليته تجاه الآخرين، أي الشعور بالارتباط بالجماعة السياسية والثقافية وغيرها وتمثل أهدافها، والفخر بحقيقـة أن الفرد جزء منها.
وثمة تساؤلٌ يتبدى هُنا إلى الذهن، حينما نتحدث عن سلوك الشباب والأجيال الجديدة وأهما جيل الألفية وتعاطيهم مع فكرة ممارسة المواطنة؛ هل هي ممارسة واعية حقًا تنِم عن فهم أبجديات المواطنة والانتماء؟ أم توجد بعض المتغيرات والظروف العالمية المتسارعة التي جعلت هذه القيم تُمارس بشكلٍ لا إراديّ؟ وهل هذه الممارسة موجودة بالفعل في وطننا العربي؟
وقبل الإجابة عن هذه التساؤلات وهي لُب مقالتنا، حريّ بِنا أن نشير بصراحة إلى أن منظومات الحكم ومنصات اتخاذ القرارات العربية، هي أول من أخل -في ظننا- بفهم هذه القيم بصورة صحيحة، وقد ساعدت بكل أسف في تمترس هذه القيم داخل الوعي الجماهيري بصورة مجتزأة ومسلوبة عن الجوهر الحقيقي لأضلاع فكرة المواطنة، وأهمها أن المواطنة تُعد مفتاحًا لفهم الديمقراطية، ويتمظهر المدخل الديمقراطي للمواطنة من خلال احترام الحكومات لحقوق الآخـرين، واحترام السُلطة لعقول الأفراد، وألا تنفرد سرديات مثل الحكومة التي تفهم نيابة عن الجميع، والكِبار والمفكرين والقوى الناعمة التي تفكر بالنيابة عن المواطنين وضمنهم الشباب.
وهنا نشير إلى أهمية أن يمارس المواطنون حقوقهم بحريـة، ويـرى أستاذ الاجتماع الأمريكي ج. باتريـك في كتابه “مفهوم المواطنة” أن ممارسة الحقوق التي تُفضي إلى مشاعية المواطنة كثقافة قبل أن تكون فكرة ومفهومًا، تتمثل في المهارات التفاعلية التي تشـمل مهـارات الاتصـال والتعاون التي يحتاجها الفرد لممارسة العمل المدني والسياسي ومهارات المراقبـة، وأخيرًا مهارات التأثير والتي تتضمن المهارات التي يحتاجها الفرد للتأثير في نتائج المهددات الأمنية لقيم المواطنة وعلاقتها بالانحراف السلوكي.
وبالطبع حينما نتحدث عن مهددات المواطنة يمكننا العودة مرة أخرى إلى استهلال المقالة والمواقف الخطيرة والأكواد المجتمعية التي تتلبس ذهن المسيطرين على العقول، والمتصدرين لمنصات الحكم وإطلاق موجات التأثير التي يستقبلها جمهور الشباب، لتصبح سلوكًا حياتيًا وأساس ممارسة القيم وطُرُق التفاعل بين الشباب وأقرانه الذين يكافئونه عُمرًا، أو المقاربين له في السن، ومع “الآخر” عمومًا. ومناط الحديث هنا هو الواقع الاجتماعي العربي، الذي يشهد مشكلات شبابية تتمثل بوضوح في تزايد ألـوان الانحـراف، وانتشار صور من السلوك العدائي والتمييزي، والتي لم تكن مألوفة من قبل ممـا يهـدد الأمـن والاسـتقرار الاجتماعي، والتي انبثقت من التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسـية، وبالطبع تتفاوت من مجتمع عربيّ لآخر، إلا أنها في الأخير تزعزع قيم المواطنة والتعايش بين أفراد المجتمع، وهنا تشوب ممارسة عملية المواطنة الانحرافات السلوكية.
تُعد المواطنة مفتاحًا لفهم الديمقراطية، ويتمظهر المدخل الديمقراطي للمواطنة من خلال احترام الحكومات لحقوق الآخـرين، واحترام السُلطة لعقول الأفراد، وألا تنفرد سرديات مثل الحكومة التي تفهم نيابة عن الجميع، والكِبار والمفكرين والقوى الناعمة التي تفكر بالنيابة عن المواطنين وضمنهم الشباب.
وتتضح العلاقة بين قيم المواطنة والسلوك المنحرف لدى الشباب في كون القيم تهيئ اختيارات معينة للأفراد، فهي تحدد السلوك الصادر عنهم، وتحدد شكل الاستجابات، وكذلك تـؤدي دورًا في تشكيل الشخصية الفردية، وتحديد أهدافها في إطار معياري صحيح، فعلى سبيل المثال عندما تحدثنا سلفًا حول ضرورة إحساس الشاب بإيجابية الفعل والمشاركة والاندماج، فكذلك لابُد من شعور الشباب في المجتمع بالإحساس بالأمان الذي يزداد كلما كانت ممارستهم للمواطنة بصورة صحيحة، وتعطي لهم الفرصة فـي التعبير عن أنفسهم، بل وتساعدهم على فهم العالم المحـيط بهـم، وتوسـع إطـارهم المرجعي، وتوجههم نحو الخير والسلوك الحسن.
وللقيم دور مهم في توجيه ميول الشباب واهتماماته نحو أيديولوجية سياسية أو دينية أو اجتماعية أو اقتصـادية معينـة؛ فهـي الوسيلة التي من خلالها يعبر الأفراد عن أنفسهم، وهي التي تساعدهم على الابتعاد عن السلوكيات والاعتقادات والاتجاهات والتصورات المُشبعة بالتنمُر والتمييز ونبذ الآخر واضطهاده وعدم قبوله.
لقد استخدمت بعض المجتمعات وسائل تقليدية متنوعة للوقاية مـن الانحـراف السلوكي لدى الشباب؛ أبرزها القوانين الجزائية والعقوبات والتدخل الأمني والقضائي والإصلاح العقابي، ومع أهميتها إلا أنها لم تحُل دون انتشار ظاهرة الانحراف السلوكي والحيد عن قيم المواطنة، وبالطبع فالمأخذ عليها معروف، ومتعارض مع جوهر وفلسفة المواطنة؛ حيث اعتمدت على المفعول الرادع للعقوبات، وعلى تدابير ناتجة عـن قرارات رسمية، وليس عن دراسة الواقع واحتواء الشباب ومساعي إقصائهم، ولا تشكل سياسة اجتماعية عامة ذات بُعد أمني واجتماعي شامل.
ونتيجة للسياسات الخاطئة للوعي بتعقيد فكرة المواطنة، خصوصًا على مستوى الممارسة والتطبيق؛ يتجه الشباب إلى تشكيل صورهم الخاصة عن العالم المحيط وبمكوناته من مفردات بشرية وحسية ومادية، وبإنتاج تصوراتهم التي تتماس مع اتجاهات الفردية والتمرد على كل ما يمط بالصلة بالأسري والحكوماتي واللاهوتي والديني في بعض الأحيان، وهنا يفتقد الشباب المعيارية في النظر إلى القيم التي تُشكِل مقومات المواطنة، لتضل فكرة “الفردانية” مسعاها في احترام “حق” و “حرية” و “تفرُد” الآخر، إلى أن تصبح هذه الفردية حق الجور على حق الآخر، وتجاوُز عقل الفرد والشاب لفكرة المجموع إلى أهمية التعبير عن ذاته وعن نفسه متجاوزًا الآخرين، والاتجاه لكل منتج فكري/ثقافي/فني يُعاضد هذه المفاهيم التي يضمُرها في لا وعيه.
وهنا تتحول قيم المجتمع والمواطنة رهن السوق وتحت إمرة رأس المال، ليفقد المجتمع وشبابه البوصلة وتسود القيم المادية والاستهلاكية، وظهور نموذج الشاب “اللامنتمي” والمنتشر لدى جيل الألفينيات، الجيل المتمرد بصورة مقيتة تفتقد لأدوات ومعايير المتمرد الذي لديه رسالة ومبادئ، والتي تبغى -فقط- ترسيخ ثقافة “حرية الاعتداء على حرية وثقافة واختلاف الآخر”، فتظهر الألوان الفنية الفاقدة للمعايير؛ مثل المهرجانات الشعبية والكتابات الأدبية المتحررة من القوالب والمضامين التي يتزعمها المتثاقفين وأنصاف الموهوبين، وتحول القيمة فيما أنتجته العولمة وتطورات ما بعد الحداثة؛ خصوصًا في الميدان التقني وآليات التواصل الاجتماعي، ليتحول الظهور والحصول على الإعجابات وسيادة المقارنات غير المتوازنة بين الناس والشباب في عالم يفتقد القيمة والموضوع والتمترس حول المبادئ والقيم التي يجب أن تعلو فوق سقف ما تنتجه ألوان الفنون والثقافات واستحداثات منصات التواصل.
ونعم، تتميز جميعها بـ "العفوية" التي تنتمي في ظاهرها إلى شكل من أشكال التعبير عن الذات والوعي بممارسة أريحية، إلا أن مضمونها يحمل انحرافًا عن القيمة وعن الوعي بقيمة "الجمعنة" والشعور بالآخر، وإخضاع السلوك والقول والإنتاجات الفنية والثقافية لفلتر القيمة والمعيارية والصوابية.
ويعتبر الانفجار المعرفي المتسارع، والثورة التقنية التي تستمد استقرارها من جديدها اليوميّ، وما أحدثتـه من وسائل وعلاقات جديدة، وطرق ووسائل للتواصل والتفاعل بين الناس بصورة لم تعرفها البشرية مـن قبـل، ومـا فرضته ثورة الاتصالات من سرعة بالغة وسعة المعلومات وتشابكها، وإلغاء الأبعاد وترابطها ونقلها بسرعة فائقة، أشكالاً ونماذج متعددة من الأفكـار والثقافـات مـن مجتمع لآخر، وكلها أدت إلى أشكال مختلفة من التغيـرات فـي الحيـاة الفكريـة والاجتماعية والثقافية، ومظاهر العادات والقيم الاجتماعية والتي تتمثل في صراع الأجيال وتزاوج الأفكار والثقافات عبر ميكانيزمات “الترند”؛ سواء كانت لحظية يومية، أو تتميز أحيانًا باستمراريتها لتقوم بإحداث التغيير وإلقاء ما سبقه. ولاحظنا هنا الكثير من الدراسات في السنوات الأخيرة التي تقول بأن ثورة المعلومات عملت كهجمة ثقافية على جيل الشباب وهو في بداية تطلعه لتراثه المحلي والقومي، فقد خطفته إلى فضاء واسع فضفاض، في صراع دائم معه وهو يسعى في مجاراته، فضاع جيل الشباب ثقافيًا، وبات فقيرًا في فهم تراثه ونقده بالصورة العلمية والمنهجية الصحيحة، فأصبح غريبًا ثقافيًا عن مجتمعه، وغير قادر على الانصهار في ثقافة مجتمعه، لأنهم يحلمون فقط في الحصـول والتمتع على إنجازات العلم والتكنولوجيا؛ ولكن بصورة متناقضة ومنفصلة عن النظام القيمي الذي سمح بتطويرها، وهنا تتجلى نظرية “الدوافع والرغبات” التي تحدث فيها البروفيسور الأمريكي ستيفن ريس عن أن الانحراف السلوكي لدى الشباب تجاه تعاطيه مع فكرة المواطنة هو نتيجـة ومُحصلة لضـعف أو فشل الضوابط الاجتماعية في جعل السلوك أو الفعل متماثلًا مـع القـيم والمعايير.
ويرى إميل دوركايم أن القيمة والسلوك المجتمعي للفرد لا توجد في الموضوع نفسه؛ بل فيما يحققه هذا الشيء من آثار تنشأ عنه حسب تقدير الذات، وهذه الذات ليست الذات الفردية؛ بـل الـذات الجماعية.
ويتحدث الفيلسوف رالف بيري فيما أسماه “النظرية العامة للقيمة” عن مفهوم الاهتمام الذي يُعد في رأيه يُعد أبرز مقومات تفسير القيم، ومؤدى هذا الاتجاه أن أي اهتمام بأي شيء يجعل لهـذا الشـيء قيمة، أي أن القيمة تنبع من الاهتمام والرغبة، ولا ينبع الاهتمام والرغبة مـن القيمة.
وهُنا يدور الحديث حول أهمية عدم الاكتفاء بالبعد التشريعي والقانوني لقيم المواطنة، أو إخضاعها للبعد الديني أو المنطلق من الأعراف والتقاليد المجتمعية، والتي تتورط السُلطة السياسية في أحيان كثيرة في حمايتها والإصرار في فرضها على المجتمع. إلا أن هذه القيم لا بُد أن تتميز بعدد من الخصائص، لعل من أهمهـا؛ الإنسـانية؛ كونهـا مرتبطـة بالإنسان، لا أن تكون كذلك هرمية، فبعض القيم على سبيل المثال تهيمن على غيرها وتخضعها لها، لأن كل فرد يحـاول أن يخضع القيم الأقل قبولاً عند الناس للقيم الأكثر قبولاً. ولابد لمؤسسات التربية والمعرفة والثقافة من تنشئة الشباب على أن القـيم بمجملها متعلمة ومكتسبة يتعلمها الفرد، ونسبية؛ حيث تختلف من مجتمع لآخر تبعًا لاخـتلاف المكـان والزمـان والثقافـة وعوامل أخرى عدة. فالمسلم في المملكة السعودية كان من الممكن أن يكون بوذيًا إذا وُلد ونشأ في الهند ومِثليّ الجنس، كان من الممكن أن يكون مُغايرًا لو توفرت بعض العوامل الوراثية والجينية عن غيرها السائد بجسده، وأسود البشرة، من الممكن أن يكون أبيض الوجه لو نشأ في سهول أوروبا، فاختلافات وتغييرات البشر تتعلق بتغيير وطبيعة العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجغرافية والثقافية، وهي نتاج لها.
أكد جوردون ألبرت وفيليب فيرنون في دراسة شهيرة حول المعتقدات والمواطنة القيمية، أن القيمة عمومًا هي المعتقد الذي يسلك الإنسان بمقتضاه السلوك الذي يفضله، فقام العالمان بعمل مقياس للقيم على عينـة تكونت من 1163 رجلاً و 1592 امرأة، وأكدت نتائج دراستهما علـى أن هنـاك تأثيرًا واضحًا للمجتمع والجنس وطبيعة المهنة في فهم القيمة والتمسك بالسلوك الدال عليها، وأن هناك فروقًا دالة إحصائيًا بين النساء والرجال في النمط القيمي السـائد بينهما؛ حيث ترتفع القيم الاجتماعية والدينية عند النساء، وتنخفض هذه القـيم لـدى الرجال، بينما ترتفع لدى الرجال القيم الاقتصادية والسياسية. وهنا مفاد الدراسة في ضرورة الانتقال في فهم العلاقة بين قيم المواطنة والسلوك إلى مفهومي “النسق القيمـي” و”التوجيه القيمي“؛ حيث يشير مفهوم النسق القيمي إلى المعايير التي يتبناهـا أفـراد المجتمع كموجهات لسلوكهم، أو هي مجموعة المبادئ التي تساعد الفرد والأفعـال المجتمعية في إطار التقاليد على الارتباط بهوية المجتمع، والتي تقوم بدور أساسـي في تنظيم العلاقات بين الأفراد بطريقة تتضمن التوازن والوحدة، كما أنهـا تحقـق التماسك وتمنح الفعل الاجتماعي شكلاً وتعطيه معنى ضمن إطار المجتمـع.
ولذا فضرورة تثبيت قيم المواطنة كنسق اجتماعي وثقافي يتم تداوله داخل أوساط التربية والتنشئة والقانون بصورة تطبيقية وخاضعة للممارسة ولخطاب تفاعلي بين الدولة والحكومة والمجتمع وشباب المجتمع، وتكون هي العماد في بناء حياة الفرد وتشكيل شخصيته، وتحديد غاياته وأهدافـه ووسـائل تحقيق هذه الغايات، فالمواطنة وما تتضمنه من نبذ خطابات العنف والعداء المجتمعي والكراهية والنبذ والتنمر، لا بد أن تكون إطارًا مرجعيًا يحكم تصرفات الأفراد في حيـاتهم العامـة والخاصة؛ بحيث يمكن التعرف على ما يمتلكه الفرد من هذه القيم مـن خـلال مـا يصدر عنه من أقوال أو أفعال في كل موقف، وحينها ستمثل المواطنة كسلوكيات وأحكام معيارية يعتمدها الفـرد فـي تقيـيم سـلوكياته وسلوكيات الآخرين، وفي الحكم علي الأفكار والأشخاص والأعمال والمواقـف من حيث إنها مرغوبة وإيجابية أو غير مرغوبة سلبية. بالإضافة إلى دورها في وقاية الشباب من الانحراف السلوكي المتعمد للنظر إلى المختلف عنه وقولبته في صورة “الآخر” و “المختلف”.