صارت تجذب انتباهنا علب المنتجات التي تحمل على أغلفتها إشارات تؤكد لنا أن المنُتج بيئي بامتياز، فصرنا نحس بأننا أدينا واجبنا تُجاه البيئة ما إن قررنا أن نشتري هذا المُنتَج الذي وصل إلى أيدينا دون أن يضر بكوكبنا الأرض خلال مراحل إنتاجه، لكن غالبًا ما تكون هذه المنتجات لشركات أجنبية، بينما يبدو أن شركاتنا الوطنية لم تأخذ المسألة البيئية على محمل الجد بعد، بالرغم من كل الكوارث البيئية التي تحدث من حولنا، وكان آخرها موجات الجفاف التي ضربت نهاية العام الماضي بعض دول شمال أفريقيا كتونس والمغرب. فمتى ستُدرج الشركات العربية البعد البيئي ضمن خططها؟
قد يبدو مصطلح المسؤولية البيئية مصطلحًا مستجدًا عند البعض، لأن الحديث عنه لا يزال خافتًا في البلدان العربية، رغم أن هذه البلدان أدركت أنها مُلزمة بمسؤولية اجتماعية تُجاه مجتمعاتها، لكن تحمّل الشق البيئي من هذه المسؤولية ما يزال خطوة متعثرة، فلماذا؟
الوعي البيئي عالميا: الأشخاص، الكوكب والأرباح
ترجع بدايات مشاركة الشركات في المسؤولية البيئية إلى الحركة البيئية التي انطلقت في الستينات عندما رفض الأمريكيون ضريبة تلويث البيئة مقابل تحقيق النمو الاقتصادي، فانفجر غضب عارم بسبب الدور المباشر للشركات من خلال أنشطتها الصناعية والتجارية في تدهور البيئة. ومع نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، كان العالم على وعي تام بالمخاطر البيئية التي يواجهها، وصار إيجاد صيغة للحد من هذا التدهور حتميًا، فاجتمع قادة العالم في مؤتمر ستوكهولم سنة 1972، الذي كان أول مؤتمر عالمي تكون البيئة قضيته الرئيسية وقد خلُص المؤتمر إلى وضع إعلان ستوكهولم العالمي بشأن حماية وحفظ البيئة البشرية.
بدأت حركة التوجه البيئي للشركات في التسعينات كظاهرة عالمية؛ إذ طورت الشركات قوانين ذاتية التنظيم وسياسات استراتيجية بشأن الإدارة البيئية، وبرامج الشهادات البيئية، وممارسات المراقبة الذاتية، فضلًا عن المشاركة التطوعية في المراقبة من قبل مدققين مستقلين. وظهر مفهوم الخط السفلي الثلاثي (الأشخاص والكوكب والأرباح) ونظرية أصحاب المصلحة وأنظمة الإدارة البيئية (EMS) وتقييمات دورة الحياة (LCA) والمحاكاة الحيوية، وقد سعت هذه المفاهيم إلى تغيير ثقافة الشركة وممارسات الإدارة من خلال إعطاء أهمية جديدة للبيئة، لكن وضوح النشاط البيئي للشركات في الاتحاد الأوروبي كان أكثر مما هو عليه في الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ إن غالبية الشركات التي حققت معايير ISO-14001 التي تتطلب أنظمة إدارة بيئية صارمة تقع في الاتحاد الأوروبي، كما تنتشر بأوروبا أيضًا المنظمات غير الحكومية التي تروج لفكرة المسؤولية البيئية للشركات.
الوعي البيئي عربيًا: تحديات البيئة والنمو الاقتصادي
عرف الوعي البيئي في المنطقة العربية- نموًا في الآونة الأخيرة، ولقياس وعي هذه الشعوب قام المنتدى العربي للبيئة والتنمية باستطلاع رأي في بلدان جامعة الدول العربية في النصف الأول من عام 2017 بعد أن وقعت معظم بلدان الجامعة الاثنتين والعشرين على اتفاقية باريس للمناخ، كشف الاستطلاع أن 93٪ يُقرون أن المناخ يتغير بسبب الأنشطة البشرية، و90٪ يعتقدون أنه يشكل تحديًا خطيرًا لبلدانهم. وهذا يمثل زيادة بنسبة 6٪ على مدى عشر سنوات، ويعتقد 75٪ أن الحكومة لم تفعل ما يكفي للتعامل مع تغير المناخ، بينما يقول 83٪ أنهم يعرفون ما هي أهداف التنمية المستدامة، ويعتقد 98٪ أن تغيير أنماط الاستهلاك يمكن أن يؤثر على البيئة، ويظن 95٪ أن حماية البيئة تساعد على النمو الاقتصادي. من هذه النتائج يبدو واضحًا أن هذه الشعوب صارت تعي جيدًا ارتباط الأضرار البيئية بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية.
في حديثه لـ “مواطن” يشير الدكتور صابر عثمان، مدير إدارة التغيرات المناخية بوزارة البيئة المصرية إلى: “أن الشركات المتواجدة بالشرق الأوسط وأفريقيا أغلبها ذات أصول أجنبية، يصعب على الدول السيطرة عليها وفرض نظام قوي لمواجهة تأثيراتها البيئية، لوجود موانع وحماية أجنبية لها من الدول المتقدمة؛ ما يزيد من تفاقم المشكلات البيئية بأنواعها المختلفة؛ سواء كانت متسببة في التلوث المحلي؛ مثل تلوث الهواء والمياه والتربة، أو ما يتسبب منها في تفاقم ظاهرة الاحترار العالمي وزيادة الانبعاثات الكربونية”.
لكن ماذا عن الشركات ذات الأصول العربية؟ هل بدأت بإدراج المسؤولية البيئية ضمن مخططات عملها بالفعل؟
تجيب المهندسة الأردنية رُبى الزعبي، خبيرة في السياسات البيئية والحوكمة والتخطيط في مجال التنمية المستدامة في حديثها لـ “مواطن”: “تمنيت لو أجيبك بنعم، لكن لا زالت اهتمامات الشركات في المنطقة العربية بالمسؤولية البيئية اهتمامات متواضعة وليست بالمستوى الإستراتيجي الكافي. ربما التعود على عدم اعتبارنا البيئة أولوية بالمنطقة سببًا أساسيًا؛ فمعظم الشركات التي بدأت تتناوله فعلت ضمن مفهوم المسؤولية المجتمعية، الذي تطور ليصير أكثر شمولية بجعل البيئة والمجتمع والحوكمة من الأساسيات التي صارت تُقَيم عليها نجاح الشركات وغايات الاستثمار فيها، والشركات العربية التي تتبنى هذا المفهوم في شموليته عددها لا يتجاوز أصابع اليد، وهي شركات كبرى، نطاق عملها خارج حدود المنطقة العربية، وتتبع معايير دولية في طريقة عملها، وتركز على السوق الدولي الذي تسوق منتوجاتها فيه، أما بالنسبة لغالبية الشركات العربية التي هي شركات صغرى، ومثالاً الشركات في الأردن تتناول المنظور البيئي بشكل محدود نوعًا ما يسبب تحديًا رئيسيًا؛ هو الوعي بالتأثير الإيجابي والسلبي للبيئة على سير الشركة وعملها”.
أما رميثاء البوسعيدي الناشطة البيئية العُمانية ومدير المشاريع والشؤون البيئية لدى الشركة العمانية لتنمية الثروة السمكية، تُعرف في حديثها لـ “مواطن” المسؤولية البيئية للشركات: “بأنها الطريقة التي تُمكنها من دمج القضايا البيئية في عملها من أجل هدف أسمى؛ هو تقليل النفايات والانبعاثات، وزيادة كفاءة وانتاجية الموارد بغاية القضاء على التأثير السلبي للشركات على البيئة“. وتضيف رميثاء: “إن الحافز الذي يحفز الشركات لتبني المسؤولية البيئية هو حافز مادي بالأساس، يتعلق بإدارة استخدام الموارد الطبيعية بشكل عام. تعتمد الشركات في عملها لإنتاج المنتجات أو توفير خدمات معينة على استغلال واستخدام موارد طبيعية، والبحث عن الطرق الفعالة للاستفادة من هذه الموارد، يعني التقليل من التكاليف المالية، وبالتالي التقليل من الآثار البيئية نظرًا لاستخدام كمية أقل من الموارد”.
الاقتصاد الأخضر في الدول العربية
شهدت السنوات العشر الأخيرة انتقالاً هامًا للدول العربية نحو الأخضر، فمن “صفر” دولة تتبنى الاقتصاد الأخضر إلى “سبع” دول، منها الأردن وتونس والمغرب والإمارات العربية المتحدة، استطاعت أن تطور استراتيجيات وعناصر الاستدامة وتبنت الاقتصاد الأخضر. هذه الاستراتيجيات شكلت حافزًا للقطاع الخاص لزيادة استثماراته في قطاعات الاقتصاد الأخضر، وهناك تحول واسع نحو التكنولوجيات الحديثة منخفضة الانبعاثات الكربونية. “وعلى الرغم من أهمية التحول في نمط التنمية، إلا أن هذا النمط أيضًا غير صديق للبيئة “حسب الدكتور صابر”؛ فدوارات الرياح تؤثر على هجرة الطيور، ومحطات الطاقة الشمسية تدمر التربة وتخلق كميات كبيرة من المخلفات الخطرة الناتجة عن البطاريات والمحولات والكابلات والخلايا الشمسية بعد انتهاء عمرها الافتراضي، وكذا بطاريات المركبات الكهربائية بالتكنولوجيا الحالية من مادة الليثيوم الناضبة تمثل جرس إنذار، وإن كان هناك بوادر أمل بالتوصل لتكنولوجيات أحدث من ألواح الكربون”.
وتضيف رميثاء لـ “مواطن“: “أن الشركات العربية وعت بمسؤوليتها المجتمعية، لكن البيئة تبقى شقًا مهمًا منها للحفاظ على بقائنا”. وتصف مكانة المسؤولية البيئية في المنطقة العربية: “إن تبني أولوية الاستدامة لدى الشركات العربية بطيء حتى في فهمها لمفهوم المسؤولية البيئية، لكن التحديات البيئية التي تطرحها خصوصية المنطقة العربية المتعلقة بالتغير المناخي، تطرح أهمية تعجّل تحمل هذه المسؤولية، وتعهدها بها ستكون بمثابة رسالة ترسلها هذه الشركات للمستهلك تخبره فيها: إننا واعون، ولن نُفْرط في استعمال الموارد، ولن ننتج نفايات سامة، أو انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وسنقلل من مساهمتنا في ظاهرة الاحتباس الحراري، وسنقلل قدر الإمكان من عملية استغلال الموارد الطبيعية التي تؤثر على النظم البيئية كالمحيطات والأنهار والغابات”. وتكمل رميثاء: “تبقى المسؤولية البيئية مرتبطة بالقيادة الأخلاقية، والقيادة لا تعني فقط الاهتمام فقط بالإنسان، بل بالمنظومة البيئية ككل لخلق الفارق، حتى نشجع العلامات التجارية على تبني المسؤولية البيئية. ففي دراسة من مركز الشباب العربي، تقول بأن ستة من أصل عشرة شباب يفضلون العلامات التجارية التي تلتزم بالمسؤولية البيئية. وللأسف مازالت الوتيرة في العالم العربي بطيئة، ومن المهم تحفيز الشركات الالتزام بمسؤوليتها البيئية، لتكتسب ميزة تنافسية تقلل من تكاليف إنتاجها وتشجع على إعادة التدوير وتحسن سمعتها بين العملاء والمستهلكين.
القوانين البيئية في البلدان العربية
وعن القوانين البيئية في البلدان العربية، وهل هي كافية لإلزام الشركات بالامتثال لها، تقول المهندسة ربى: “أعتقد أن القوانين المُشرعة هي قوانين جيدة نسبيًا، فيها مجال للمزيد من الصرامة في العقوبات والمخالفات، لكن تنفيذ وتطبيق هذه القوانين هو ما لا يتم بالشكل المطلوب، فافتقارها للكثير من الحوافز وإلى الكثير من الأدوات التي تشجع القطاعات الاقتصادية المختلفة والقطاع الخاص والشركات على تبني؛ ليس فقط الحد الأدنى من المعايير والمواصفات البيئية؛ بل الذهاب باتجاه الاستدامة والنمو الأخضر والتعامل مع التغير المناخي بجدية أكبر”.
وحول تبني الشركات في المنطقة العربية لأسس التنمية المستدامة بالنظر لخصوصيتها البيئية، يقول الدكتور صابر عثمان لـ”مواطن”: “لا يمكن للشركات تبني أسس الاستدامة إلا إذا كانت هناك قناعة حقيقية بأهمية مبادئ الاستدامة، وإذا وُجدت هذه القناعة فسوف يتمكن طاقم عمل أي شركة بداية من اتباع أساليب الاستدامة على المستوى الشخصي داخل العمل وخارجه، هو ما سينعكس على كافة قراراتهم في العمل، فعلى سبيل المثال؛ إذا كان فريق المشتريات بالشركة مقتنعًا تمام الاقتناع بأهمية الاستدامة، فإن قراراتهم في شراء احتياجات الشركة من أجهزة ومعدات سوف يميل للتكنولوجيات الخضراء صديقة البيئة، نفس الأمر إذا كانت الإدارة العليا تمتلك هذه القناعة؛ فإنها سوف تساعد إدارة المشتريات على تنفيذ قراراتها حتى لو كانت هناك كلفة إضافية لمثل هذه القرارات. إن دمج مفاهيم الاستدامة سيمكن الشركات من الاستفادة من الميزات الموجودة حاليًا؛ مثل الحصول على قروض منخفضة الفوائد في حالة تنفيذ مشروعات تحقق الاستدامة منخفضة الانبعاثات الكربونية؛ مثل مشروعات إعادة تدوير المخلفات، وكذا الاستفادة من السندات الخضراء التي توفر تمويل منخفض التكلفة للمشروعات البيئية الهادف للربح”.
وأخيرا بالنسبة لمستقبل المسؤولية البيئية للشركات في المنطقة تقول المهندسة ربى: ” البيئة اليوم صارت تزيد وتعزز من تنافسية الشركات، وتفتح أسواقًا جديدة أيضًا، لذا فالشركات التي تنظر للمستقبل بشكل فعلي وتسعى إلى استدامة عملها فعليًا على المدى البعيد، هي الشركات التي تضع البيئة ضمن استراتيجيتها، وفي جوهر عملها، وليس فقط بشكل سطحي باستغلال هذه النقطة للتسويق، وهو ما يُطلق عليه تسمية ‘ظاهرة الغسل الأخضر’، فالشركات الصناعية تعلم جيدًا أن مدخلات الإنتاج في ظل شح الموارد، كالمياه وارتفاع أسعار الطاقات تزيد من كلفة إنتاجيتها، وبالتالي استخدام التكنولوجيات والحلول التي تعزز من كفاءة موارد طبيعية، لابد أن يكون من أولى أولوياتها، وهذا يرتبط بشكل أو بآخر بالمسؤولية المجتمعية لهذه الشركات لتعزيز تنافسية الشركات؛ إذ يجب النظر إلى المسألة بمنظور شمولي”.
يبدو أننا نقترب في المنطقة العربية من استدامة اقتصاداتنا ولو بدونا بعيدين، فموجة الجفاف القاحلة ودرجات الحرارة الخانقة وإفراغ موارد المياه وأزمة الغذاء التي صارت على الأبواب كلها أسباب قد تجعل اقتصادات المنطقة تستدرك ما فوتته على نفسها لو انتبهت إلى أنها استنزفت البيئة أكثر مما ينبغي.