إشكالية وهدف الدراسة البحثية:
اخترت التعرض لهذه المشكلة التي بالفعل تشكل صراعًا أيديولوجيًا دائمًا بين الشرق والغرب، ولقد كانت البداية منذ حوالي سبعة عشر عامًا وتحديدًا عام 2005 عندما نشرت إحدى الصحف الدنماركية (رسومات كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم)، وثار المسلمون في مختلف بلدان العالم، وبدأ الصراع الفكري والخلاف والاختلاف بين كلا الطرفين حول ما إذا كانت هذه الرسومات جزء من حرية الرأي والتعبير كما يرى الغرب، أم هي تجاوز للخط الأحمر لهذه الحرية كما يري المسلمون حول العالم.
وبتكرار نفس الفعل بفرنسا وتحديدًا من قبل جريدة (شارلي إبدو) عن طريق نشر رسومات مسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتجدد نفس رد الفعل من قبل العالم الإسلامي بثورة غضب ودعوات لمقاطعة المنتجات الفرنسية، وتبع ذلك رد الفعل من قبل إرهابيين ينتمون للدين الإسلامي قاموا بعمليات إرهابية شنيعة، معبرين عن غضبهم واعتراضهم على الرسومات بالقيام بعمليات ذبح وقطع للرؤوس. وحاليا وفي الفترة الاخيرة عاد وتكرر الغضب، ولكن هذه المرة كان تجاه دولة الهند، وقامت دعوات لمقاطعة المنتجات الهندية إثر تصريحات لمسؤولة الحزب الحاكم بالهند (بهاراتيا جاناتا ) السيدة (نوبور شاورما).
وعلى مستوى الوضع الداخلي للدول العربية فهذه المشكلة تثار أيضًا وتمثل صراعًا أيديولوجيًا بين المسلمين من أصحاب الفكر الحر؛ العلمانيون وغيرهم من غالبية المسلمين الآخرين، حول الخط الأحمر لتناول ما يتصل بالدين، والجنس، والجائز والممنوع تناوله في كل منهما.
وهدفي من هذه الدراسة: تناول هذا الموضوع بشكل مختلف من قبل باحث مسلم درس في الأزهر الشريف سبعة عشر عامًا، وفي ذات الوقت متخصص بالقانون الدولي، تناولاً بشكل موضوعي بعيدًا عن التحيز للمنطقة الجغرافية أو الدين الذي أنتمي إليه، إيمانًا بأهمية المبدأ الإنساني (مبدأ العيش المشترك)؛ خاصة ونحن في العصر الذي نعيشه الآن؛ عصر العولمة، ولم تعد الحواجز والفواصل بين الدول كما كانت من قبل، ورغبة أيضًا في وضع حد لهذه المشكلة وإنهاء للصراع القائم بين الطرفين كتبت هذه الدراسة البحثية.
الخط الأحمر لحق حرية الرأي والتعبير وفقا للقانون الدولي:
تنص المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 على:
"لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية".
ووفقا لنص المادة التاسعة عشرة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الصادر عام 1966، فإن حرية الرأي والتعبير حق من حقوق الإنسان الأساسية، ولكن يلزم ألا تتجاوز حرية الرأي والتعبير الخط الأحمر، وهذا الخط محدداته هي (سمعة الآخرين، الأمن العام، النظام العام، الصحة العامة، الأخلاق) وهذا القيود وضعتها أيضًا الفقرة الثانية من المادة التاسعة والعشرين من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وللحماية من الانحراف من قبل الإدارة بالسلطة التقديرية الممنوحة لها في وضع ما يحمي هذه الأمور (من القيود الواردة على حرية الرأي والتعبير)، اشترط العهد الدولي أن يكون الضابط في تحديد هذه الأمور هي الضرورة ونصوص القانون.
وبالتالي فيفهم من نص القانون الدولي في ذلك، أن القاعدة العامة هي حرية الرأي والتعبير كأحد حقوق الإنسان الأساسية التي لا تستطيع أي قوة أن تمنعه أو تحد من ممارسته بلا مبرر، ولا ينبغي لها ذلك، فحرية التعبير قيمة عليا لا تنفصل عنها الديمقراطية، وإنما تؤسس الدول على ضوئها مجتمعاتها.
أما القيد الذي يرد عليها وفق للمحددات السابقة؛ فهو الاستثناء من القاعدة العامة، والقاعدة التي تحكمه هي أن الاستثناء لا يقاس عليه ولا يتوسع في تفسيره.
وقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن حرية التعبير هي حق إنساني أساسي، وهي محك الاختبار لكل الحريات التي كرستها الأمم المتحدة، وأيضًا أكدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان على أن “حق حرية التعبير يشكل واحدًا من الأسس الجوهرية للمجتمع الديمقراطي وأحد الشروط الأساسية لتقدم وتنمية الإنسان“.
وتقول منظمة العفو الدولية: (إنه في الوقت الذي يمنح القانون الدولي ويؤكد على حرية الرأي والتعبير إلا أن هناك بعض الحالات التي يجوز أن يرد بها قيدا على هذا الحق بموجب القانون نفسه، ومن قبيل هذه الحالات تلك التي تدعو إلى الكراهية أو التمييز أو تحرض على العنف).
ما مدى احترام التمتع بحق الرأي والتعبير في العالم العربي؟
في الحقيقة الصراع قائم في الدول العربية حول كيفية التمتع بهذا الحق بين كل من التيار الحر أو العلماني والتيار الإسلامي، فبينما يرى أصحاب الاتجاه الأول إطلاق حرية الرأي والتعبير دون قيد إعلاء لقيم الحرية والانسانية والإبداع، ويرى أصحاب الاتجاه الثاني أن حرية التعبير لابد ألا تمس قدسية الأديان، وذلك مثل التعبيرات التي تمثل ازدراء للدين، أو تعتدي على قيم وأخلاقيات المجتمع، التعبيرات الجنسية التي لا تتناسب ومجتمعاتنا وطابعها المحافظ. وهنا سوف أعطي نموذجين من الدول العربية لبيان مدى احترام هذا الحق فيهما؛ النموذج الاول: سلطنة عمان، والنموذج الثاني: جمهورية مصر العربية.
النموذج الأول: سلطنة عمان:
في الحقيقة أنه من ناحية نصوص القانون وبعيدًا عن الواقع العملي، فإن سلطنة عمان تستحق كل الاحترام والإشادة على احترام حق حرية الرأي والتعبير، فلقد جاء النص على هذا الحق وقيده متوافقًا وأحكام القانون الدولي، حيث كفل النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (6 /2021) على حق حرية الرأي والتعبير عنه؛ إذ نصت المادة (35) بـ “حرية الرأي والتعبير عنه بالقول والكتابة وسائر وسائل التعبير مكفولة في حدود القانون“.
أما من الناحية العملية وتطبيق القانون، فعلى السلطنة كل اللوم والمناداة باحترام هذا الحق من قبل الحكومة العمانية، فلقد وصل الأمر إلى تضيق شديد وتعسف فيما يتعلق بممارسة هذا الحق، وأن الأمر يستلزم أن يتدخل السلطان هيثم بن طارق، الذي تعشم فيه العمانيون منذ وصوله للحكم بأن يفتح في عهده عصرًا جديدًا من الحرية واحترام حقوق الإنسان العماني وحمايتها، وكفالة حق التمتع بها، وهم ما زالوا آملين تحقيق ذلك في عهده، ووضع حد للتشدد والقيود غير العادية التي تكاد تخنق المواطن العماني وتعيقه عن ممارسة حق من حقوقه الأساسية.
ووفقا للقصة الصحفية التي نشرت هنا على موقع مواطن، بعنوان ( محاكم التفتيش الإلكترونية في عمان) بتاريخ 19/6 ذكر الآتي: (في السابع من يونيو الجاري، أصدرت محكمة الاستئناف بصحار حكمًا قضائيًا يفيد بحبس الشاب على بن مرهون لمدة خمس سنوات تحت تهمة التطاول على الذات الإلهية، وحبس الشابة مريم النعيمي لـثلاث سنوات تحت تهمة الإساءة للأديان السماوية. وورد في نص الحُكم القضائي بأن “مريم” نشرت عبارات أساءت فيها إلى الأديان السماوية في إحدى مجموعات برنامج التواصل الاجتماعي “واتساب“).
النموذج الثاني: جمهورية مصر العربية:
وفي الحقيقة أن ما يتعلق بالتاريخ القريب لحرية الرأي والتعبير في مصر فيما يتصل بالدين والجنس ، فيشكل هذا الموضوع صراعًا بين كلا التيارين الوطنيين بمصر، وهما الجانب العلماني أو أصحاب الفكر الحر، والجانب الآخر ما يمكن أن نسميه الجانب المحافظ أو أصحاب الفكر الديني، وهذا الصراع موجود عندما يتعلق الأمر بالحديث عما هو متعلق بالشريعة الإسلامية منذ كتابات عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، مرورا بـ رواية وليمة لأعشاب البحر التي كتبها الأديب السوري حيدر حيدر، الصادرة عام 1983، وكتابات الدكتور الشهيد فرج فودة،
ثم كتابات وفكر الدكتور نصر حامد أبو زيد، ومؤخرًا كانت قضايا ازدراء الأديان ضد كُتاب اعتبروا أنهم تجاوزوا الخط الأحمر لحرية الرأي والتعبير وإساءوا للدين؛ منهم الكاتبة فاطمة ناعوت التي تعرضت للمحاكمة بتهمة ازدراء الأديان بسبب تدوينة كانت قد كتبتها بخصوص الأضحية، والصحفي إسلام بحيري، ففكر وأعمال الأخير الذي كان يقدمه على شاشة التلفزيون نُظر إليه من قبل الأزهر والتيار المحافظ في المجتمع على أنه ازدراء للدين الإسلامي وتطاول وإساءة للإسلام، ووصل الأمر مع البعض في الحكم عليها بأنها أعمال تمثل خروجًا عن الدين الإسلامي وكفر به، كما حكم بذلك على الدكتور نصر حامد أبو زيد؛ فلقد ورد في حكم محكمة النقض الصادر في الخامس من أغسطس عام 1996 حيث، انتهى نص الحكم عليه بالقول بالآتي:
” وإذ أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة بالنسبة لأي مسلم لم ينل حظًا من التعليم أو الثقافة الدينية، فإنه يعد مرتدًا عن دين الإسلام لإظهار الكفر بعد الإيمان”.
أما فيما يتعلق بحرية الرأي والتعبير فيما يتعلق بالحديث عن الجنس؛ فأذكر مثالين:
الأول حيث كانت رواية (استخدام الحياة) لأحمد ناجي عام 2014، تلك الرواية التي حكم على صاحبها من محكمة ثاني درجة، بمعاقبته بالحبس عامين، على خلفية اتهامه بخدش الحياء، ونشر أخبار تنال من المجتمع، وما أحدث المشكلة كان تحديدًا في الفصل الخامس من الرواية، “حيث قال له القاضي إنك ذكرت ما أستحيي من ذكره لزوجتي“، كان ذلك في القضية المقيدة برقم 9292 لسنة 2015 جنح بولاق أبو العلا، والمستأنفة تحت رقم 321 لسنة 2016.
ومؤخرًا كانت الضجة الكبيرة التي حدثت وثورة الكلام والاعتراضات والبوستات بشأن فيلم ( أصحاب ولا أعز) الذي عرض على شبكة نيتفلكس، الذي اشتركت بالعمل فيه الممثلة المصرية منى زكي، ودارت الآراء والانقسامات حوله بين مؤيد ومعارض بشأن مشاهد تضمنها من حديث عن وجود أحد أفراد الفيلم مثلي الجنس، ومشاهد أخرى اعتبرت خادشة للحياء ولا تناسب المجتمع، هذا على الرغم من أنه عرض على شبكة عرض أفلام أجنبية وخاصة، ومشاهدة ما يعرض عليها باشتراك خاص، والمعتاد عرضه على هذه المنصة أجرأ بكثير من هذا الفيلم، ولكن كل الضجة التي حدثت تفسيرها أن ممثلة مصرية مسلمة شاركت في الفيلم!!
والسؤال هنا هو: ما رأي الدستور والقانون المصري في حدود هذه الحرية؟
جاء نص المادة 65 من دستور عام 2014 ينص على:(حرية الفكر والرأى مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه قولاً أو كتابة أو تصويرًا أو غير ذلك من وسائل النشر).
ولما كان الدستور هو المخول له وضع القواعد العامة فقط، ويأتي دور القانون للتفصيلات التي ترد فيها القيود والاستثناءات، ووفقًا للقانون المصري، فهناك قيود ترد على حرية الرأي والتعبير تتصل بحماية النظام العام في الدولة، والذي يعد جزءً منه أحكام الشريعة الإسلامية والآداب العامة، وإلا تخرج أطر هذه الحرية عن القيم والمبادئ المتأصلة بالمجتمع ما يسميها بالحرية المنضبطة.
تنص المادة 98 من قانون العقوبات المصري على الآتي: “يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر ولا تجاوز 5 سنوات أو بغرامة لا تقل عن 500 جنيه ولا تجاوز ألف جنيه لكل من استغل الدين في الترويج أو التحبيذ بالقول أو بالكتابة أ بأي وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو التحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الضرر بالوحدة الوطنية أو بالسلم الاجتماعي“.
ولقد نادي الكثيرون من المدافعين عن حقوق الإنسان وأصحاب الفكر الحر والمفكرين بإلغاء هذه المادة من القانون المصري انتصارًا لحق الرأي والتعبير، وإعلاءً لمبادئ الحرية، بينما يعترض بشدة على هذا الجانب الآخر من التيار الديني والسلفي أو المحافظ ويطالبون بالإبقاء على هذه المادة.
ما التقييم الموضوعي لرد فعل المسلمين عندما تشكل حرية الرأي والتعبير في الغرب المساس بالدين الإسلامي؛ مثل ما حدث بشأن الرسومات الكاريكاتيرية المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم؟
هل من حق المسلمين الغضب من ممارسة هذه الحرية بهذا الإطلاق و بالشكل الذي يسيء لدينهم؟
الإجابة بالقطع نعم؛ من حق المسلمين الغضب من هذه الرسومات المسيئة لنبيهم، وهذا أمر لابد وأن يكون مقبولًا ورد فعل منطقي، بل وعليهم أن يرفضوا هذه الرسومات أو التصريحات المسيئة لنبيهم، ويشمل هذا الحق أيضًا التعبير عن هذا الغضب والاعتراض بعمل آخر؛ سواء فني أو أدبي يوضح الصورة كما يرونها ويرد على التشويه بالتصحيح.
وهنا أتذكر عندما كتب الأستاذ إسماعيل أدهم كتاب (لماذا أنا ملحد؟)، فاعترض عليه الأستاذ محمد فريد وجدي الكاتب الإسلامي، ولكنه لم يأمر بقتله ولم يحرض عليه المجتمع ولم يسبه، وإنما رد عليه بكتاب اسمه (لماذا أنا مسلم؟)، وهذا التحضر الذي نريد أن نرجع إليه ونضبط به ردود أفعالنا.
هل يمكن أن تكون الأعمال الإرهابية رد فعل للإساءة للنبي؟
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتمثل رد الفعل على هذه الأعمال المسيئة للإسلام بالقيام بأعمال عنف أو إرهاب أو التخريب، متخذة من هذه الأعمال الفنية أو الأدبية أو غيرها من التصريحات مبررًا، مثلما حدث مع الأسف الشديد ممن قالوا بأنهم ينتسبون للدين الإسلامي، وعقب الرسومات المسيئة للنبي محمد قاموا بعمليات قطع رؤوس وذبح قائلين (ثأرنا لنبينا)، فأنا كمسلم ولدي معرفة مناسبة بالشريعة الإسلامية، لا أرى أن ذلك كان يفعله النبي نفسه ردًا على من أساء إليه؛ سواء إساءة لفظية أو بالفعل أو بأي شكل آخر،
وانما كان إذا ما أسيء إليه صلى الله عليه وسلم وأراد أحد من الصحابة الرد بعنف على صاحب الإساءة منعهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والوقائع من ذلك كثيرة تملأ كتب السيرة، ومن ثم فإن مثل هذه الأعمال هي أعمال إجرامية، وإذا اعتبر من قبيل ردة الفعل فهو رد فعل همجي عدائي لا يتناسب والفعل والمنطق والقانون والدين نفسه، فضلاً عن مبادئ الإنسانية.
ماذا عن دعوات المقاطعة لمنتجات الدول التي ينتمي إليها أصحاب الأعمال المسيئة للإسلام؟ هل يمكن أن تكون رد فعل مناسب على هذه الأعمال؟
هذه المقاطعات التي تمت قبل تجاه المنتجات الفرنسية، ومؤخرًا تجاه المنتجات الهندية، توصف بأنها ردة فعل غير مناسبة وغير عادلة ولا تليق، وتمثل ابتزازًا لأصحاب هذه الدول، ولا نقبل أن نُعامل بها إذا ما عكسنا الأمر، بمعنى أنه إذا ما اتخذت الدول الغربية هذا الموقف عندما يقوم عربي مثلاً بعمل إرهابي في هذه الدول.
ولكن أليس هذا قياسًا غير صحيح، فهذه الدول كفرنسا مثلاً نموذج حكوماتها تدعم هذه الرسومات بخلاف الدول العربية؛ فحكامها لا يدعمون الأعمال الإرهابية، لكن إذا كان حكومة هذه الدول لا توافق على مثل هذه الأعمال؛ فلماذا تقف مكتوفة الأيدي أمامها ولا تقوم بمنعها بالأمر المباشر؟
هنا غائب عن الأذهان إدراك أمر هام:
أولا: حكومات هذه الدول أبدًا لا تدعم هذه الرسومات، ولا تدافع عن صحتها فيما تتضمنه، إنما هي تدعم حرية الرأي والتعبير في العموم وتدافع عن هذه الحرية، ولو اتخذنا فرنسا نموذجًا؛ فلقد صرح الرئيس الفرنسي (إمانويل ماكرون) عقب ضجة الرسومات التي حدثت، بأنه لا يدعم هذه الرسومات، ولا يوافق عليها شخصيًا، وإنما هو يدافع عن حرية الرأي والتعبير وفقًا لما يراه الشعب الفرنسي، حتى ولو تعرض هو شخصيًا للنقد أو السخرية منه، وهنا أرى أن علينا استيعاب نظام الحرية أو سلطة الحاكم في هذه الدول الديمقراطية؛ فالحاكم لا يستطيع أن يقف ضد إرادة شعبه أو إرغامه على شيء ضد حريته والنظام الذي اختاره، كما هو الحال في البلدان التي سماها الشاعر نزار قباني (بلاد القهر والكبت).
لماذا لا يُسن قانون يجرم مثل هذه الأعمال قياسًا على وجود مثل هذا القانون لمن يعادي السامية مثلا؟ أليست مثل هذه الأعمال المسيئة للرسول ما هي إلا حملة ممنهجة وحرب مقصودة ضد الإسلام والمسلمين؟
بداية هذا قياس لا يصح؛ فمثل القوانين التي تجرم معاداة السامية هي واحدة من جملة قوانين تجرم وتكافح العنصرية، وتأتي في إطار الجهود الدولية للقضاء على جميع أشكال التميز العنصري، وفقًا لما تم في عام 1965؛ حيث اعتمد المجتمع الدَّوْليّ الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، التي التزم بموجبها القضاء على كافة أشكال التمييز العنصري وغيره من الجهود المبذولة في هذا الإطار، التي تجرم معاداة شعب بعينة أو التحريض ضده بأي شكل من الأشكال.
وهذا النوع من الحريات الذي نتج عنه هذه الرسومات المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ليست كما خُيل للبعض أو أراد أن يتخذها آخرون من أنها حرب ممنهجة ضد الإسلام والمسلمين؛ فهذا أمر عارٍ تمامًا من الصحة، فمثلاً المتتبع لإصدارات الجريدة التي أصدرت هذه الرسومات بفرنسا ( شارلي إبدو) يجد أنها بدأت بالسخرية من كثير من زعماء فرنسا، وتقريبًا السخرية من كل الديانات من اليهودية والمسيحية، حيث بدأت هذه الجريدة برسومات مسيئة لإله المسيحيين، ثم السخرية من الحاخامات من اليهود وصولاً بالسخرية من نبي الإسلام.
وربما يكون نوعًا من الحريات مزعجًا للبعض، ولكن في النهاية هذه الطريقة لممارسة الحرية هي جزء من قانون هذه الدول الذي وضعه شعوبهم، وهم لهم كامل الحرية والسيادة في وضع القوانين والقواعد التي تحكمهم على أرضهم.
وبالمناسبة؛ فهذه الدول بكل ما لديها هي الدول التي يحلم الكثير منا، ومنهم إسلاميون بالفرار من دولنا والعيش فيها، والتي نتغنى دومًا بتقدمها وتحضرها، وهذه الحريات جزء من هذا التقدم والتحضر الذي تهوي نفوسنا إليه.
الصراع حول مفهوم وحدود التعبير فيما يتعلق بالجنس؟
هو صراع قائم بين الشرق والغرب أيضًا في طريقة تناول هذا الجانب؛ سواء من خلال الأعمال الأدبية أو الفنية أو غيرها، ومن المشاكل التي نتجت عن ذلك هو التصور الخطأ للرجل الغربي على أنه لا يفعل شيئًا في حياته شيئًا سوى الجنس وشرب الخمر، وبالنسبة للمرأة أنها مستباحة ويمكن أن تمارس الجنس مع أي أحد، وهو استنتاج وتصور خاطئ تمامًا، وإنما تمارس الحرية في هذا الجانب كجزء من انفتاح المجتمع وكنوع من أنواع التمتع بالحريات.
وفي الفترة الأخير كان هناك جدل واسع بالدول العربية حول دعم شركة «ديزني» للمثلية الجنسية، وذلك بعدما صرحت المديرة التنفيذية للشركة بشكل واضح وصريح «أن هدف الشركة بنهاية العام الجاري أن يكون نصف الشخصيات الكرتونية من أتباع المثليين جنسيًا».
وعلى غرار ذلك التصريح وبعد حظر آخر أفلام ديزني من العرض في حوالي 14 دولة منها مصر والكويت والإمارات والسعودية، انتشرت حملات معارضة على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» بعنوان «#قاطع» أو «#مقاطعة»، وتستهدف تلك الحملات مقاطعة شركة ديزني نفسها، وليس ذلك فقط بل مقاطعة كل الشركات التي تدعم المثلية الجنسية.
ورأى في ذلك أن كلاً حر بوجهة نظره، بمعني أن من حق شركة ديزني أن تدمج المفاهيم التي تؤمن بها وتراها مناسبة في أعمالها، ومن حق من لا يوافق على نوعية الأفلام أو العمل الذي تعرضه أن يمنع أطفاله من مشاهدتها، وللدول المتحفظة أيضًا أن تنتج الأفلام التي تناسبها وثقافتها وقيمها. في الحقيقة أجد في هذا الأمر نوعًا من أنواع استسهال الآباء والأمهات في التربية، بمعنى أن البعض لا يريد أن يرهق نفسه في دوره في التربية من الرقابة والتوعية.
بخصوص موضوع المثلية الجنسية يدهشني كثيرًا عندما يأتي الحديث عنها، أن يتهم كل من يتفهم وجود هؤلاء الأشخاص بأنه مثلي الجنس، والخوف الدائم من عملية وجود لنماذج من هؤلاء في بعض الأعمال الفنية، وكان من يشاهد مثليًا يتحول إلى مثلي مثله، أيضًا كأن هؤلاء الأشخاص غير موجودين في كل المجتمعات. ويشكل صراعًا أيضًا في كيفية تناول هذا الجانب داخل دول الشرق بين التيار العلماني أو صاحب الفكر الحر والآخرين من أصحاب الفكر الديني أو المحافظ داخل المجتمعات العربية، وللأسف المغالاة تأتي من كلا الجانبين في أحيان كثيرة، فبينما يرى بعض من أن الحرية تمارس على الإطلاق في هذا الجانب دون مراعاة لما يسمى بالآداب والأخلاقيات العامة للمجتمع أو القيم،
وإن كل ما يعرض مهما كان وأيًا كان يمكن أن يسمى إبداعًا، وعلي الجانب الآخر يريد أصحاب الاتجاه الثاني أن يعيش المجتمع على طريقة العصور الجاهلية، أو بعنوان (الكبت العام) في المجتمع وأن أي شيء يمثل تعبيرًا في هذا الجانب فلا يجوز ولا يصح. والحقيقة هنا أن علينا أن نعيش أسوياء وفقًا لمفاهيم التحضر والأخلاق والرقي وندرك ونفهم مسألة الجنس في إطار كونه نوعًا من أنواع التعبير عن الحب، وهو أساس بقاء النوع الإنساني، وفعل في منتهى السمو، وليس عيبًا لا يجوز ولا يصح الحديث عنه، بل أرى وجوب الاهتمام والتثقيف به بالشكل المناسب، وإطلاق حرية التعبير عنه بالشكل المناسب للقيم والأخلاقيات والآداب العامة دون إفراط من هنا أو تفريط من هناك. فلا تناسب المجتمع الأعمال الإباحية ولا الأعمال الرجعية التي يحكمها كبت الحرية في التعبير عن هذا الجانب.
كيف يمكن حل هذا الصراع القائم؟
نتائج الدراسة البحثية:
- فيما يتعلق بالصراع القائم بين الشرق والغرب حول مفهوم وحدود حرية الرأي والتعبير، فعلينا أن نفهم وندرك حقيقة الأمر، وهو أنهم لديهم نظامهم المختلف عنا في نطاق وحدود هذه الحرية، وأنها أمر يصل احترامه في كثير من الدول إلى حد التقديس.
- وفيما يتعلق بالصراع القائم داخل حدود دولنا العربية حول بقاء أو إلغاء نصوص القانون التي تقيد هذه الحرية؛ مثل قانون ازدراء الأديان وغيرها، فعلينا أن نقر بأن الواجب في كل الأحوال من جميع الأطراف هو احترام نص القانون حتى يتم الغاؤه أو تعديله.
- والرجاء من السلطة القضائية في البلدان العربية أن تتذكر عند تطبيق النصوص الخاصة بالقيد على هذه الحرية أن الأصل والقاعدة العامة هي حرية الرأي والتعبير، والاستثناء هي القيود الواردة عليه، والاستثناء تحكمه قاعدتان؛ أنه لا يقاس عليه ولا يتوسع في تفسيره.
- ويكون الطريق لتعود المجتمع حول احترام حرية الرأي والتعبير في كل الأحوال، هو زيادة وعي أفراد المجتمع وتثقيفه حول أهمية ممارسة هذا الحق في حياة الشعوب، وأن المخاوف والمخاطر التي يتصورها البعض نتيجة إطلاق هذه الحرية، هي أقل بكثير من مخاطر المنع وتكميم الأفواه.
- ولجميع المنادين بضرورة المزيد من التقيد والتحجيم لممارسة هذا الحق حماية للأخلاق والدين أقول:
أولا: التدين يأتي من تطبيق قواعد الدين التي نؤمن بها على أنفسنا، وليس بإلزام الآخر بهذه القواعد الأحكام، وهذا من نصوص الدين نفسه.
ثانيا: إن الخوف من أن مثل هذه الأعمال المسيئة للإسلام تؤدي إلى الإضرار بالدين، فهذا لا يستقيم، وإيمانا بأن ديننا هو الحق، وأن الشخص الذي يتزعزع إيمانه أو يخرج من الدين بسبب رأي أو رسم فأفضل للدين وأتباعه خروج هذا الشخص منه، وأننا نعيش في عالم لم يعد أحد فيه يملك إمكانية الانعزال بثقافته أو دينه، ويكون بمنأى عن الآخرين، وأن الحل السلمي في كل الأحوال هو احترام حرية الرأي والتعبير.
وفي النهاية: يطيب لي أن أختم هذا البحث بكلمات ليست كغيرها من الكلمات، وإنما هي كلمات فولتير التي تزن بميزان أغلى من الذهب، لأنها تشكل طريقًا للخروج من ظلمات القهر والكبت إلى نور الحرية واحترام حقوق الإنسان.
يقول فولتير: إذا طرق الرقى باب أمة سأل أولًا: هل لديهم فكر حر؟ هل لديهم حرية؟ إذا أجابوه نعم؛ دخل وارتقت الأمة، وإذا أجابوه لا: ولى هاربًا وانحطت الأمة.
ولقد كان قبر فولتير بجوار قبر جان جاك روسو الذي قال له: أنا لا أؤمن بكلمة واحدة مما كتبت في «العقد الاجتماعي»، ولكني سأظل حتى الموت أدافع عن حريتك في أن تفكر وتكتب ما تشاء.
قائمة المراجع:
*كتاب قانون حقوق الإنسان –الدكتور الشافعي محمد بشير-الطبعة الخامسة-عام 2009-دار النشر منشأة المعارف بالإسكندرية.
*حدود سلطة المشرع في تنظيم الحقوق والحريات العامة والضمانات المقررة لممارستها، رسالة دكتوراه مقدمة إلى كلية الحقوق جامعة القاهرة، الدكتورة هالة محمد طريح، عام 2010، بدون دار نشر.
*الحماية الدستورية للحقوق والحريات العامة في ظل الظروف الاستثنائية، رسالة دكتوراه مقدمة إلى كلية الحقوق جامعة المنصورة، الدكتورة مني محمد العتريسي الدسوقي، عام 2019، بدون دار نشر.
*الحماية الدستورية لحرية الرأي في الفقه والقضاء الدستوري، دكتور عبد العزيز محمد سالمان، دار النهضة العربية، عام 2011.
*حرية الرأي والتعبير الأبعاد القانونية والإعلامية، دكتور حمدي شعبان، بحث منشور في مجلة مركز بحوث الشرق الشرطة، العدد 30، عام 2006.
* “حرية أنفي ” مقال للدكتور وسيم السيسى بجريدة المصري اليوم بتاريخ 25/8 2018.
* ( محاكم التفتيش الإلكتروني في عمان ) قصة صحافية نشرت على موقع منصة وشبكة مواطن الإعلامية “بتاريخ 19/6.
* نص الدستور المصري الصادر عام 2014.
* نص قانون العقوبات المصري.
* حكم محكمة النقض الصادر في 5 أغسطس عام 1996.
حديث الرئيس الفرنسي ايمانويل لقناة الجزيرة عام 2020، عقب أزمة الرسومات المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم الصادرة من جريدة ايمانويل ماكرون.
( الأمم المتحدة وقضايا العصر ) 12، 13 ضمن سلسلة مقالات عن الأمم المتحدة في جريدة زمان التركية الباحث / هيثم السحماوي.