السينما الواقعية لا تتنبأ، ولكنها ترصد الواقع حينًا، وتستشرفه أحيانًا، انطلاقًا من وقائع، فتضيء بهذا الجوانب التي نغفل عنها. من هذا المنطلق يصدر الفيلم البلجيكي “Young Ahmed” (الصغير أحمد) يوليو 2019، للأخوين البلجيكيين جان بيير داردين ولوك داردين، والذي يروي قصة مراهق مسلم، من أصول عربية يدعى أحمد، يخطط لقتل معلمته بتحريض من الإمام يوسف.
وقد سبق للأخوين البلجيكيين لوك داردين وجان بيير داردين عمل فيلم درامي في عام 1996م، بعنوان “الوعد” عن استغلال المهاجرين غير الشرعيين في بلجيكا ومعاملتهم بلا رحمة من قبل بعض أرباب العمل الذين يبحثون عن عمالة رخيصة وبلا حقوق.
سلَّم التطرف
يبدأ الفيلم برفض أحمد مصافحة معلمته، وسنعرف لاحقًا أن الإمام هو من حرضه على ذلك. يقول أحمد لمعلمته: “المسلم الحقيقي لا يصافح المرأة.” فتسأله المعلمة إيناس مُستنكرة: “وزملاؤك في الصف أليسوا مسلمين حقيقيين؟” يجيبها أحمد: “نعم.” وهي إجابة غير مباشرة يُكفِّر بها أحمد كل مسلم لا يوافق على أفكاره، فكيف بغير المسلمين! كما أنها إجابة تصف حالة التطرف التي وصل إليها هذا الفتى. وفي مشهد آخر تخبره المعلمة أن بإمكان أتباع جميع الأديان العيش جميعًا في سلام، فيرد عليها أحمد: “يقول القرآن إن اليهود والمسيحيين يعادوننا.”
ترد عليه المعلمة: “لا، هو (الإمام) من يقول ذلك.” وهي إجابة ذكية تُفرق بين جوهر الدين الحقيقي وبين الفكر الديني المتطرف. يرد أحمد: “لا، القرآن يقول ذلك في سورة البقرة 120”
والآية التي أشار إليها أحمد، ولم يذكرها، هي: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}. لم ترد هذه الآية لفظًا، لكن وردت آيات أخرى تحض على الجهاد، مثل آية: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}، ما يعني أن صناع الفيلم على وعي بخطاب التطرف الإسلامي، وهو الخطاب نفسه الذي يغسل به بعض الأئمة عقول النشء في أوروبا والعالم، وهم بذلك لا يشوهون الدين الإسلامي فحسب؛ بل يشوهون بقية المسلمين، وهو ما ينعكس سلبًا على حياتهم هناك، ويؤدي إلى تطرف مضاد كما رأينا في مجزرة نيوزيلاندا.
من يملأ الفراغ؟
على هذا النحو يدور الصراع على عقل أحمد المراهق بين الإمام يوسف الذي يُحبب أحمد في الجهاد، وبين الأستاذة إيناس التي تعي خطورة تعاليم الإمام، فتحاول أن تمنع أحمد من تلقي تعليمات الإمام المتطرفة. والدة أحمد من جهتها تحاول أن تعيد ابنها إلى ما كان عليه في السابق، لكن يبدو اهتمام المعلمة بأحمد أكبر من اهتمام والدته، ويعود السبب، -كما يلمح الفيلم- إلى إهمال الأم وغياب الأب.
المعلمة إيناس مسلمة، لكنها في نظر الإمام “زنديقة، عاهرة، مرتدة، تحارب القرآن بتعليم العربية من خلال الأغاني العربية التراثية.” هذا الشحن العاطفي المتطرف من جهة، في مقابل مديح الإمام لابن عم أحمد الذي جاهد وقُتل “في سبيل الله”، سيرسخ في عقل أحمد حبه للجهاد وللإمام، وسيحثه على الالتزام بالصلاة، وسيحل الإمام محل أبيه وأمه، وسيصبح هدف أحمد هو إرضاء الإمام وإرضاء الله، وباعتبار أن الجهاد هو أقصر الطرق لتحقيق هذا الهدف، يخطط أحمد لقتل معلمته، فيذهب إلى شقتها ويهاجمها بسكين كان يخفيها تحت ثيابه، لكن محاولته تفشل فيفر هاربًا.
عند هذه المرحلة نعرف أن المعلمة أخفقت في تخليص أحمد من تعاليم الإمام، وأن هذا قد انتصر، ومع أنه لم يحرض أحمد على قتلها بشكل مباشر، إلا أنه بث فيه روح الجهاد وكرَّهه في المعلمة، وبوصفها مرتدة يكون قد كفَّرها، وهذا في خطاب التطرف تحليل للدم وإذْنٌ غير مباشر بالقتل. والفيلم بهذا يشير إلى أن النصوص المحرضة على الجهاد في حد ذاتها قنبلة موقوتة ولو لم يتم استعمالها بشكل مباشر.
ولكي ينجو الإمام من تهمة التحريض ويتم ترحيله من بلجيكا، ويحث أحمد على تسليم نفسه للشرطة. يتم احتجاز أحمد في مركز تأهيل وإرشاد نفسي. ومن ضمن العلاج يؤخذ أحمد للعمل في مزرعة، واختيار المزرعة يمكن أن نفهم منه أنها محاولة لإعادة أحمد إلى الحياة الطبيعية، برفقة الأبقار والنباتات والحياة الريفية. سيحل مركز إعادة التأهيل محل الملعمة إيناس في محاولة محو غسيل الدماغ الذي أجراه الإمام يوسف على عقل أحمد وزميله رشيد، وفي المركز سيدور الصراع النفسي في عقل أحمد بين تعاليم الإمام وبين الحياة الطبيعية الجديدة. فمن سينتصر؟
في المزرعة يلتقي أحمد بفتاة من عمره تدعى لويز، تصارحه الفتاة باهتمامها به وبرغبتها في تقبيله، ويبدو أن أحمد يبادلها المشاعر نفسها، لكن تعاليم الإمام تحُول بينه وبين مبادلة الفتاة المشاعر الطبيعية التي يمر بها كل مراهق، وبدلًا من التصريح بحبه لها نجده مهتمًا بدعوتها للإسلام، ويربط قبوله بها باعتناقها الإسلام، وهو ما ترفضه الفتاة لأنه بذلك يقدم دينه عليها.
في عبارة دالة يخبر أحمد والدته أنه لا يحب الذهاب إلى المزرعة؛ لأن القائمين عليها لطفاء؛ وهو يحب السيئين. لكن هذا اللطف سيسهم في تخفيف تطرفه تدريجيًا، دون أن ينتهي بإعادته تمامًا إلى جادة الصواب.
الخطر الحقيقي
يعتقد أحمد أن لعاب الكلب نجس عندما لعقه كلب في المزرعة، كما أنه منشغل تمامًا بالصلاة ويقدمها على أي عمل، في المقابل نجد علاقته بأمه متوترة، فهو لا يحسن معاملتها ويصفها بالسكيرة، وهذه التصرفات تشير إلى مدى تغلغل التدين الشكلي على عقل أحمد، وهو تدين يسم الفكر المتطرف عادةً. وفي المركز سنجد أحمد مهتمًا بالخروج من المركز لإعادة محاولة طعن المعلمة، لكن الطبيبة النفسية تجد أنه لم يتغير، وأنه غير مستعد بعد للخروج.
يطلب أحمد مقابلة المعلمة إيناس ويجهز لطعنها فرشاة أسنان كان قد شحذ طرفها في الأيام السابقة، لكن المعلمة تنهار باكية لحظة رؤيتها لأحمد فتلغَى المقابلة. كان أحمد قد كتب رسالة لأمه يخبرها بأنه سيقْدِم على عمل تفخر به، ويقصد طعن الأستاذة، وهو بهذا يقلد كل خطوات الجهاديين. والفيلم بهذا يحذر من خطورة أئمة المساجد، ومن خطورة المواقع التي تُمجِّد الإرهاب من باب الجهاد، ورغم أن القصة تركز في الظاهر على أحمد، فإن الخطر الحقيقي يكمن فيمن يغسل عقله وعقول غيره من الناشئة.
في مشهد الاجتماع بولاة الأمور، سنرى وجهًا للتطرف متمثلا في بعض ولاة الأمور، كما أن رشيد، وهو زميل أحمد في المدرسة، يشارك أحمد الأفكار المتطرفة نفسها، وهذا يشير إلى أن مشكلة التطرف في بلجيكا ليست فردية، متمثلة في أحمد فحسب، ولكنها مشكلة متفاقمة. في المقابل ظهر في الفيلم مسلمون آخرون معتدلون، ومنهم من اندمج مع الحياة البلجيكية مثل الأم واثنين من ابنيها؛ أخت أحمد الكبرى وأخيه الأكبر.
ما يعني أن الفيلم في هدفه الأخير لا يحرض ضد الدين الإسلامي، ولكنه ينبه من خطر التطرف ويشير إلى مصادره. وكون هذا التطرف قد وصل إلى معالجته سينمائيًا فهذا يعني أن السلطات هناك على وعي بما يدور في المجتمع البلجيكي، وطعن المعلم الفرنسي على يد الشاب الشيشاني هو نتيجة لهذا التطرف المستشري هناك، والذي يأخذ حريته في نشر التطرف من باب الحرية التي تكفلها الدساتير الأوربية.
اهتم صناع الفيلم بالتفاصيل المتعلقة بخطاب التطرف وأدبياته، فاستعانوا بممثلين من أصول عربية، حيث قام إيدير بن عدي بدور أحمد أبوصلاح ومريم أخديو بدور المعلمة إيناس، وعثمان مؤمن بدور الإمام يوسف، وأمين حميدو بدور رشيد، وهناك أدوار ثانوية؛ كدور المستشار الفلسفي، وقام به كريم شهاب.
ينتهي الفيلم بهروب أحمد من المركز والعودة إلى منزل معلمته في محاولة ثانية لقتلها، بسيخ حديد كان قد انتزعه من حديقة منزلها، لكنه يسقط أرضًا وهو يتسلق المنزل ويصاب ولا يجد أحدًا ينقذه سوى معلمته. ينتهي الفيلم بأحمد وهو يطلب منها أن تسامحه، وهي نهاية شبه مفتوحة تفيد بإمكانية إعادة أحمد إلى الطريق الصحيح، ويبقى تحريض الأئمة هو المشكلة الأخطر.
والفيلم أشبه بدراما وثائقية، قصة ترصد حالة المجتمع دراميًا أو توثيق درامي لحالة واقعية، وبالتالي يغلب فيها الموضوع الإرشادي على القيمة الفنية، والفيلم بهذه الصيغة أشبه بناقوس يعلن عن الخطر قبل وقوعه، لكنه يظل ناقوسًا فنيًا أشبه بالأذان في مالطا، إن لم يجد آذانًا صاغية ومتجاوبة معه في الواقع.