عاشت المرأة السعودية في الماضي نصف حياة، قيدتها العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية القاسية، وانتقصت من حقوقها، كان عليها الالتزام بالعباءة السوداء (ملابس الاحتشام) ، عاشت حبيسة في بيت والدها لا تخرج منه إلا عند الزواج، إلى أن تأسست مدرسة نظامية للفتيات عام 1955م، (مدرسة دار الحنان)، ومن هنا بدأت محاولات المرأة السعودية لتغيير واقعها وتمكين نفسها ذاتيًا واجتماعيًا.
آلام كثيرة مرت بها المرأة السعودية، وزحام شديد من التجارب البائسة من أجل الرغبة في العيش، ولا يوجد مساحة أفضل لتصوير تاريخ من التحدي والمعاناة، أفضل من مساحة الفن التشكيلي. فكيف عبر الفن التشكيلي السعودي عن قضايا المرأة في المملكة؟ وكيف عبرت الفنانات السعوديات عن قضاياهن وواقعهن ومستقبلهن أيضا؟
الفن التشكيلي، هو فن من الفنون التي تستخدم مفردات الشكل كالمساحة واللون والخط والكتلة في التعبير عن انفعال أو موضوع، يعرف من خلال الرؤية أو اللمس.
عرفت المملكة العربية السعودية الفن التشكيلي في عام 1928م؛ حينما تم اعتماد مادة التربية الفنية ضمن مواد التدريس التعليمية، وعرف السعوديون الرسم باستخدام الفحم والباستيل والرصاص، ومن هنا أخذت الفنون التشكيلية تنمو ببطء عن طريق الرسامين الهواة.
في عام 1929م، بدأ تدشين المعارض الفنية المدرسية في السعودية، حصلت هذه الحركة الفنية التعليمية على دعم من قبل الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود، الذي افتتح أول معرض فني مدرسي بالرياض؛ ليضم آنذاك جميع المراحل التعليمية.
دخلت المرأة السعودية عالم الفن التشكيلي في عام 1968م، عندما برزت جهود رائدات الحركة النسائية التشكيلية في المملكة على يد الفنانة التشكيلية صفية بن زقر، التي تلقت تعليمها في مصر وكانت أول امرأة سعودية تدرس الفنون، وأول من أقامت معرضًا فنيًا لأعمالها.
وفي دراسة بعنوان مشاركة المرأة السعودية في معارض الفنون البصرية الرسمية، للباحثة حنان بنت سعود الهزاع، نشرت في مجلة الأكاديمي العدد 99 لعام 2021م، فإن الفنانات بدرية الناصر وخديجة مقدم، وفائزة فيرق، نشطن الحركة النسائية التشكيلية في المنطقة الشرقية في السعودية، مما دفع الكثيرات من الفنانات التشكيليات في المنطقة الغربية السعودية على المشاركة في المعارض الفنية كنوع من التنافس، ومن أبرز هذه المعارض معرض الفن السعودي المعاصر الذي بدأت أولى دوراته عام 1979م.
ومع هذا التاريخ ظلت المشاركة الفنية للمرأة السعودية في الأعمال الفنية التشكيلية محدودة، “لكن مع رؤية 2030 في المملكة حدثت قفزة هائلة على مستوى الفكر والوعي واتساع الرؤية التعبيرية، مما فتح الأبواب للفنانات للتعبير عن رؤية وتطلعات المرأة بشكل يحقق ذاتها ويشع بروحها” حسبما علق محمد آل صبيح، رئيس الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون بجدة، في تصريحاته لمواطن
"في أبريل 2016م، أعلنت المملكة عن رؤية 2030، وتستهدف تنفيذ ما يصل إلى 80 مشروع حكومي قائم على قاعدة اقتصادية بتكلفة 3.7 ريال سعودي، كما تهدف الرؤية إلى تمكين المرأة السعودية فيما يحقق لها المساواة مع شريكها الرجل في المجتمع السعودي، في جميع المجالات بما يضمن لها الحصول على كافة حقوقها".
المرأة السعودية كرمز للجمال في أعمال الفنان التشكيلي السعودي
إن المتأمل في المشهد التشكيلي يجد أن حضور المرأة في الأعمال المعروضة على امتداد خارطة الممارسين التشكيليين بشكل عام، كان يأتي من خلال كونها موضوعًا للفنان التشكيلي الذي يعبر عن رؤيته للمرأة من خلال كونها رمزًا للجمال، ويؤكد صبيح أن الحضور للمرأة عبر الأعمال التي أنتجها الفنان الرجل ظلت قاصرة عن سبر أغوار روح الأنثى الجامحة.
وإن كان الرجل استخدم المرأة للتعبير عن الجمال في أعماله الفنية التشكيلية، فإن تعبير المرأة عن نفسها يختلف بكثير، وقد ظهر ذلك في مسابقة “ضياء عزيز” التي نظمتها الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، بعنوان: “المرأة السعودية الحضور الإبداعي للمرأة الفنانة” واستطاعت الفنانة السعودية أن تعبر عن ذاتها وأحاسيسها ومشاعرها بالفرشاة والألوان.
"تعد مسابقة ضياء عزيز المسابقة الفنية الأبرز في السعودية بشكل خاص، وعلى مستوى الشرق الأوسط بشكل عام، وتم تدشينها تقديرًا للفنان التشكيلي السعودي ضياء عزيز، أحد رواد الفن التشكيلي بالمملكة، وتهدف المسابقة إلى دعم النهوض بالحركة الفنية في المملكة العربية السعودية".
ومع خطة التحديث في المملكة، أصبحت الجمعيات الفنية السعودية تستهدف أعمال المبدعين من الجنسين على حد السواء، ويقول صبيح، بصفته مديرًا لإحدى هذه الجمعيات: “نحن نؤمن أن المبدع الحقيقي يجب أن تفتح له الأبواب، سواء رجلاً كان أو امرأة”.
ملابس المرأة السعودية في الأعمال الفنية التشكيلية
في لوحة مميزة للفنان التشكيلي سعد بن مرعي، مدير نادي سعودي آرت للفنون البصرية، يظهر جمع من النساء يرتدين الأسود المظلم، لا يظهر وجه إحداهن في الصورة، وفيها يشير إلى المبالغة في الاحتشام والمعاناة التي كانت تعيشها النساء.
وحول تجسيده لقضايا المرأة السعودية في أعماله، يؤكد مرعي لمواطن “لقد جعلت المرأة رمزًا من رموز أعمالي الفنية، لأنها ملهمة وناجحة في هذا العصر، وستدفعنا للتفوق والريادة والوصول لرؤية السعودية 2030 بسلام، وكثير من أعمالي يحكي عن هموم المرأة السعودية وحكاية نجاحها”.
إن كانت العباءات السوداء قيدت حرية ارتداء الألوان بالنسبة لنساء المملكة سابقًا؛ فإن الفن التشكيلي يعبر عن المظهر الجديد للمرأة السعودية؛ إذ يضيف بن مرعي “ظهرت المرأة ترتدي العباءات السعودية الحديثة، عبر نقوش القط العسيري والسدو وعدم الاكتفاء بجعلها معتمة بدون زخارف فنية”.
بالفعل كان المجتمع السعودي، يقيد حرية المرأة في اختيار ملابسها من خلال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي تم إيقافها في وقت سابق، ويؤكد بن مرعي أن اللباس هو القضية الأولى للمرأة السعودية، وأصبحت حرة في اختيار ملابسها، وتجولها بالمعارض الفنية الدولية والمحلية مشاركة مع الفنانين دون استقصاء ونظرة دونية.
كيف عبر الفنان التشكيلي عن قضايا المرأة السعودية بين الماضي والحاضر؟
عانت المرأة السعودية كثيرًا حتى تحصل على حقوقها، فلم يكن لديها حق الانتخاب لم يسمح لها إلا مؤخرًا بقيادة السيارة، لم يسمح لها القانون بالتصرف في أموالها وإدارتها بشكل شخصي، لم يكن لديها حق تقديم دعوى قضائية بدون ولاية، أو حتى السفر بنفسها منفردة، كل هذه المعاناة تخلصت منها المرأة السعودية فقط لأنها تستحق أن تعيش مثل شريكها الرجل في وطنها.
عكس الفنان التشكيلي السعودي هذا التغيير الكبير في واقع المرأة السعودية بين الماضي والحاضر، يقول بن مرعي: إن الفنان التشكيلي السعودي المعاصر يمتلك الحرية الفنية بريشته اليوم، ويعبر عن قضايا المرأة فيجسدها في لوحته بالرائدة في مجتمعها والمبدعة عبر زيها السعودي الحديث، ووجودها في مراكز الفنون كفنانة محترفة وظاهرة لعالمها.
ويضيف بن مرعي قائلًا: اليوم عكس الماضي الذي عانت فيه الفنانة التشكيلية السعودية كثيرًا من عدم الظهور الإعلامي كفنانة تشكيلية، فيحكي (الفن) تحررها من قيود العادات والتقاليد الغير موافقة لأحكام الدين الإسلامي المعتدل.
إن نهضة أي مجتمع لا يمكن أن تحدث إلا بوجود العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين ذكورًا وإناثًا في الحقوق والواجبات، وهذا ما دفع المملكة العربية السعودية إلى السير نحو تمكين المرأة اجتماعيًا.
ذلك ما أعطى للفنانة التشكيلية علياء العلياني، الأمل في مستقبل المرأة السعودية، وكانت حرية المرأة بشكل عام هي القضية الأساسية التي استعرضتها في أعمالها الفنية وتضيف، في تصريحاتها لمواطن ” قضية المرأة التي تشغلني هي العنف ضد المرأة بتزويجها دون أخذ إذنها وعدم إعطاء المرأة الرأي في كثير من المجتمعات القبلية، والحرية تجدونها في أعمالي الفنية من خلال حرية اللباس الخارجة عن المألوف القبلي”.
إن العيش في مجتمع يفرض قوانين عرفية قاهرة للنساء بالتأكيد يكون له مردود نفسي سيئ عليهن، وهذا ما عبرت عنه الفنانة التشكيلية أريج عبيد، التي حضرت المرأة السعودية في أعمالها الفنية رمزًا للسلام النفسي، والمشاعر المتراكمة داخلها التي يحيطها الخوف من كل جانب، وتقول لمواطن “استخدمت المرأة في إحدى لوحاتي وكأنها تستمع إلى عصفور يغرد لها ويمدها بالقوة لتواجه صعوبات الحياة”، وبحكم تخصصها في مجال علم النفس، فاستطاعت أن تجسد الخوف في أعمالها بكل أنواعه.
الزي التراثي للنساء السعوديات في الأعمال الفنية
احتل الزي التراثي للمرأة السعودية مكانة بالغة لدى الفنانين التشكيليين بالمملكة، ونجد في لوحة الفنانة أسماء العمري، فتاة تجلس في نافذة منزل قديم مبني من الحجر، ترتدي الزي الشعبي القديم الخاص بمنطقة عسير جنوب المملكة ولازال يلبس حتى اليوم في المناسبات.
وهو عبارة عن ثوب عسيري مطرز بالخيوط الملونة والمنديل الأصفر على الرأس، بالإضافة للغراز وهو نبات الريحان يوضع لرائحته الجميلة، بالإضافة للحناء باليدين والأقدام، وبجوار المنزل القديم نبتة البرشوم التي تتميز بها المنطقة الجنوبية، وتقول العمري في تصريحاتها لمواطن، “ركزت على الزي التراثي للنساء السعوديات؛ مثل ثياب العروس قديمًا في المنطقة الجنوبية؛ وهو عبارة عن الثوب العسيري والحلي الفضة والمنديل الأصفر، وأضفت نقوش القط العسيري في الخلف”.
كما ظهر في إحدى لوحاتها البرقع النجدي الذي كان يلبس قديمًا، ولازالت بعض القبائل محافظة عليه حتى الآن، وأضافت لغطاء الرأس نقوش السدو النجدي باللون البنفسجي بعد اعتماد اللون البنفسجي لاستقبال زوار المملكة، والذي يرمز لنبتة الخزامى المنتشرة في منطقة نجد.
المرأة السعودية في المناسبات الاجتماعية
في الأفراح السعودية يعلو صوت “الطار” وتتحفز النساء للرقص الذي يعتمد على تحريك الرأس من الجهتين ونسف الشعر الطويل بقوة، وكلما كان الشعر غزيرًا وطويلاً نالت الفتاة إعجاب وتصفيق الحاضرات بحماس؛ خاصة إذا كانت المغنية تشيد باسم الفتاة وعائلتها تلهب حماس كل القبيلة، فتكاد تهتز الأرض من تزاحم الراقصات اللاتي صبغن وجوههن بالمكياج وأبرزوا مفاتنهن التي تسحر الناظرين.
ولهذا عبرت الفنانة التشكيلية أسماء السليمان، في أعمالها الفنية عن المناسبات الاجتماعية التي تشارك فيها النساء السعوديات كيف يظهرن وكيف يشاركن، حتى أنها جسدت صورة واقعية للمرأة السعودية وهي تتزين للمشاركة في مثل هذه المناسبات؛ مثل استعداد العروس للزفاف. وتقول في تصريحاتها لمواطن، “في إحدى لوحاتي تستعد العروس وتتهيأ لدخول العريس بحياء، لابد أن يعبق البخور كل جنباتها وتضع المساعدة المبخرة تحت ساقيها وترفع أطراف ثوبها ثم تغلقه على المبخرة التي بين ساقي العروس ليتشرب البخور كل جزء في جسدها، وقد تذرف الدموع رغم صوت الطبول وأهازيج الفرح”.
نقلت السليمان، في أعمالها الفنية العديد من التقاليد والعادات الاجتماعية التي تقوم بها المرأة داخل البيت السعودي، كلوحة لامرأة تضع عطرًا سائلاً في قمع ذهبي مزين ومرصع بالجواهر المقلدة، ثم يتدفق العطر عبر الأنبوب المثقب من رأس القمع، فتفوح الرائحة العطرة داخل المنزل استقبالًا للضيوف.
استعرض الفنانون التشكيليون نساءً ورجالاً قضايا ومعاناة المرأة السعودية، وظهر في هذه الأعمال الأثر النفسي الذي ظهر على المرأة، نتيجة ما تحملته من أعباء اجتماعية وضغوط، وبالرغم من قسوة ذلك الماضي المعتم؛ إلا أن هناك الكثير من التطلعات في تغيير مستقبل نساء المملكة، فقدم الفن التشكيلي السعودي وفنانوه مظاهر من حياة المرأة وتراثها الثقافي الشعبي، وطرق استقبالها لضيوفها وزينتها عند الزفاف، والمشاعر المختلطة بداخلها بين الحرية والخوف، كما عبر بصدق عن مرحلتين هامتين في حياة المرأة وتاريخ المملكة؛ الأولى: كان على المرأة فيها ارتداء السواد، والثانية: تمكنت فيها من التزين بالألوان.