رغم أن المشهد الأول كان ليوسف أثناء استيقاظه من النوم، لكن الأحداث تتابعت على هيئة حلم لا يحكمه منطق اليقظة، الغفلة عن هذا المعنى ترفعه، لتشاهد فيلمًا سخيفًا يليق بسخافة قراءات تأولته عبر حديث عن السلطة والفساد!، لكن التقاطك لعبارة ألقاها بطل العمل في مشهد الحديقة العامة: “أول ما دخلت الجنينة حسيت أني فرحان قوي كأني بحلم”، يدخلك تجربة سينمائية فريدة عنونها صاحبها بـ “البحث عن سيد مرزوق“.
من الحديقة إلى الشارع حيث يلتقي يوسف شارلي شابلن، وبعد محادثة قصيرة ينصرف إلى لقاء الساحر، فيشتركان في فقرة طريفة يبتهج لها بطلنا، وخلال وجوده بالكازينو يلمح امرأة جميلة تُعجبه، عندها يظهر سيد مرزوق، ليتعرف عليه يوسف بسهولة، كأن الأول نجم سينمائي، صفة تلاحقه مع أنه ليس أكثر من “مقاول مهندس”.
يتمثل الرجل الثري معاني أبعد، فيتعجب الضابط عمر حين يخبره يوسف أنه سأل عن مرزوق لكن لم يره أحد، “شيء مش طبيعي خصوصًا مع سيد، سيد مرزوق لو دخل مكان أو حتى مر بشارع بتلاقي حد عارفه وفاكره، سيد مرزوق ده عالم، اللي يدخله مش من السهل يخرج منه”.
في ذات اللحظة تصور الكاميرا اندفاع السيارة إلى نفق مظلم، ليستكمل ضابط المباحث: “أول ما تعرفه تقعد تفكر فيه، بعد كدة تكتشف إن كل اللي تعرفهم يعرفوه، بس كان الجزء ده عندهم مستخبي عنك؛ لأنك بره عالم سيد مرزوق، لما تدخل العالم ده كأن فيه حاجة مش عادية، كأن فيه شيء سحري، أحيانا بتيهيئلي أن سيد ده عنده قوة غير عادية”.
تنتقل الكاميرا إلى وجه يوسف لتلمح اضطرابًا وتشتتًا، مع ذلك تجده يردد "أنا بحب سيد مرزوق"، فتثير حالة الغموض والحفاوة فضول المشاهد أكثر، من يكون سيد مرزوق؟
إذا عالجت الحكاية بوصفها حلمًا، وبأدوات أصحاب مدرسة التحليل النفسي؛ فإن سيد مرزوق لن يرمز إلا للهو أو عالم الرغبة الذي تضمه علاقة وثيقة بالحلم، فالأحلام تتشكل ـ مثلما أخبرنا فرويد ـ من أجل تحقيق الرغبات المكبوتة.
في حلم يوسف اقترن ظهور مرزوق أول مرة (كرمز للهو المسؤول عن الرغبات) بإطلالة سيدة جميلة أعجبت الرجل الأربعيني، ليُشعل مرزوق خيال بطلنا حولها، وإلى عالم جديد عليه يصطحبه مرزوق، عالم لا يلتفت فيه المرء إلا للاستمتاع بالحياة وتلبية غرائزه، لهذا كل شيء مباح، والمبدأ الحاكم هو مبدأ اللذة.
يتخلل ذلك لقطات سحرية (لاواقعية)، بوابة المقابر التي تُفتح على مصراعيها لدى وصول مرزوق ويوسف، فتاة ترتدي ملابس الجواري تبرز من الصحراء وتتقدم نحوهما، الأميرة رضا التي هي نجوى وعبلة وسهير ومنى، صعود يوسف إلى أحد المراكب النيلية، ليردد: أنا عايز سيد مرزوق، ثم يسقط فيما يشبه الإغماءة، ويستيقظ (أو يحلم) ليجد نفسه في عالم مرزوق: سيدة جميلة تغني، يلتف حولها مجموعة من العازفين، ليرتفع صوت الغناء والموسيقى بينما تدور الخمرة على الجميع.
اقترن الحديث عن هذا العالم بمرور السيارة من نفق معتم (في رمزية لتلك المنطقة المظلمة “اللاوعي”؛ حيث يقبع الــ هو) نعرف خلال ذلك أنه ليس من الطبيعي أن يجهل أحد مرزوق، فـ”كل اللي تعرفهم يعرفوه، بس كان الجزء ده عندهم مستخبي عنك” لأنك بره عالم سيد مرزوق”، الجميع تتملكه رغبة لشيء ما، لهذا ما من أحد إلا ويعرف مرزوق، يحتفي به الكل مثل يوسف، رغم حالة اضطراب يثيرها في نفوسهم، فالطاقة والحيوية التي تضخها الرغبة في أجسادهم تشعرهم بالحياة، ولا تكاد تهدأ إلا لتتجدد “بيتهيئلي أن سيد ده عنده قوة غير عادية”، وفي هذا العالم لا فرق بين الأميرة رضا ونجوى وعبلة وسهير ومنى، فالرغبة لا تتوقف عند امرأة بعينها.
يرمز سيد مرزوق إذن لعالم الرغبة (الـ هو) الذي يعمل تبعا لمبدأ اللذة ولا يكترث للواقع أو الأخلاق، وكان لابد حتى تكتمل الصورة في رمزيتها من حضور شخصية تمثل الأنا الأعلى في عقلانيتها وتحفظها ومراعاتها للقيم المجتمعية والأخلاقية؛ فجاءت شخصية عمر ضابط المباحث، ليبتعد في سلوكه وتهذيبه عن نموذج الضابط” ويقترب في عقلانيته وتحفظه من رمزيته للأنا الأعلى” وإن كان في الحالين علامة على الكبت والقمع.
أراد عمر (الأنا الأعلى) كبح جماح يوسف، فطارده في إصرار، ليغضب مرزوق (الــ هو)، محاولاً كف ضابط المباحث عن إخافة يوسف، وحين تُلقي الشرطة القبض على بطلنا نتفاجأ بوجود سيد مرزوق في مديرية الأمن دون سبب منطقي، بينما تسيطر على يوسف حالة اضطراب عنيفة لا تتناسب ووضعه كشخص لم يرتكب أي جريمة وليس متهما بأي تهمة، إنما بدا كشخص أنهكته معركة دائرة داخله بين الهو وأناه الأعلى.
تبدى الاثنان؛ عمر ومرزوق، أثناء ذلك كأنهما في حالة صراع على يوسف أو بالأحرى داخله، ولا يتأخر تصوير تلك المعركة العنيفة؛ حيث يصطحب ضابط المباحث يوسف إلى مهمة خطيرة، وبعد انتهاء المعركة لا أحد يصاب إلا شخص وحيد؛ يوسف في تأكيد على رمزية أن المعركة تخصه وحده.
ينصرف يوسف قبلها مع عمر من أمام مديرية الأمن مخلفًا وراءه مرزوق، في إشارة إلى تردد الأول بين عالم الرغبة وما يهبه من لذة تحرض عليها (الــ هو)، وبين قيود ومحاذير فرضها المجتمع وأصلت لها ثقافة تنافح عنها الأنا الأعلى، خلال ذلك لا يكترث ضابط المباحث لقيد أو “كلابشات” قيد بها يوسف، وحين يرفعها عنه أخيرًا يندهش يوسف لسهولة نزعها، كأنها كانت قيدًا وهميًا (ذهنيا أكثر منه واقعيًا).
يصر يوسف على استكمال مغامرته في عالم الرغبة، لذلك تستمر المطاردة، لكنه يذعن في النهاية لإملاء عمر (الأنا الأعلى)، أن يكتفي بهذا القدر ويركن للراحة، عندها يأبى سيد مرزوق (الهو) ، فيظهر ليأمر يوسف بارتداء ملابسه، ويغضب مرزوق حين يمتنع بطلنا في البداية امتثالاً لعمر إلا أن يوسف يرضخ نهاية تحت إلحاح مرزوق، وتكون عقبى الانجراف وراءه مقتل مهرج صادفه بطلنا في أول اليوم، إشارة إلى بداية المغامرة بينما جاء مقتل المهرج إيذانا بانتهائها.
في أول اليوم أيضًا يهبط يوسف على السلم مهرولاً، تصادفه جارته العجوز (علامة على انقضاء أي رغبة) فتسأله متعجبة “مستعجل ليه يا أستاذ يوسف؟”، يجيبها “أصلي اتأخرت”. اصطدم يوسف بسن الأربعين من غير أن يحيا، (ولم يتبق إلا القليل حتى يبلغ حاجز العجوز). ضن عليه الواقع بتحقيق رغباته، فهرب إلى الحلم حيث تحقيقها متاح في عالم تشكل من أجلها، لا يحول بين بطلنا وبينها إلا جرس منبه لم يرن.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.