مارس/ 2015، كان اندلاع الحرب في اليمن نقطة تحولٍ فارقة في حياة ذي يزن، فنان الشارع الذي كان ينتظر أن تكون مرحلة ما بعد الربيع العربي كأحد شبابها حاملاً لأحلامه، ليواجه تحديًا فعليًا للبقاء والتعبير بحرية.
ينطلق من المساحة الرمادية للألوان، كشاهد يقف على الضفة الأخرى من المعركة التي تلاحقه، لتلك المساحة التي يصنع فيها الفنان عوالمه داخل إطاراتٍ أربعة لجدارياتٍ تفر لفضاءٍ أوسع، الشاهد على المعركة، الموت، الحب والحرب، فضاء الشارع.
يظهر إله الحرب كائنًا يخرج للشارع محتلًا شوارع صنعاء كاستدعاءٍ ميثولوجي لوجود ما ورائي يتحرر كل يوم مع فائض الموت في الشارع. هي كائنات أعماله؛ الشريرة والمحبة، التي تنشد الحرية كخالقها، وترفض أن تطوق في إطار صورة كرتونية، تتحول تلك اللوحات لصورٍ وجودية تلعب على الثنائية الزرادشتية لنيتشه، وجهان للحب والحرب، للموت والحياة، للخير والشر.
وصمة عار
تمر على الحرب سبع سنواتٍ سقط فيها حوالي 400 ألف قتيلٍ وفق إحصائيات أممية، يشكل النساء والأطفال الجزء الأكبر منهم. تصف الأمم المتحدة الوضع في اليمن بأسوأ أزمة إنسانية في العالم؛ حيث يحتاج ما يقارب العشرين مليون إنسان، للمساعدة العاجلة للنجاة من خطر الموت من الجوع. في ذات السياق تنقل وسائل إعلامٍ عالمية تقارير مصورة عن الوضع المعيشي الذي يعيشه اليمنيون كتداعيات، مأساوية للحرب.
يقول يزن لمواطن: ” هذه وصمة عار، نحن نموت دون أفقٍ واضح لانتهاء هذه المعاناة، هذه اللوحات التي أرسمها وأشاركها على مواقع التواصل والشارع، هي سردية واحدةٌ متصلة، تنتظر نهاية غير معروفة للمعاناة التي يعيشها اليمنيون، قصةٌ لم أرى نهايتها بعد”.
وصمة عار؛ مجموعة من اللوحات الفنية التي عرضها الفنان ذو يزن في سنوات الحرب، يذهب لجمع أرقام الضحايا التي خلفتها الحرب، في رموز إحصاءات التكرار كسجين يعد فيه أيامًا يدفعها اليمنيون كعقوبة بانتظار خروجهم منه، لكنهم ليسوا أيامًا، هم بشر يسقطون في الحرب.
وفي سلسلة وصمة العار التي تمثلها أعضاء المرأة والرموز الجنسانية في أيديولوجيا أطراف الحرب ليست العار؛ فالعار في أعداد الضحايا التي يصمها على هذه الأعضاء. يقول يزن: “أنا هنا في صنعاء أنقل صورة الوجع المنسي الذي نعيشه، الضحايا التي لا تنتهي قرابين لإله الحرب، وصمة العار في وجه العالم”.
يضيف يزن في حديثه لمواطن: “جميع الشعوب والثقافات حول العالم تعرف فداحة الحرب وشناعتها، لكن على الرغم من ذلك لا زالت الحرب موجودة في عالمنا، ولا زال العالم يصنع حروبًا جديدة. هذه هي أزمتي معها، والرسالة التي أقدمها هي رسالة الضحية”.
لا حرية هنا
"أنا أعيش بحرية في صنعاء.. في الخفاء"
ذي يزن Tweet
مع نشوء وتضخم قوى ذات خلفيات طائفية متناقضة في مناطق الصراع طوال الحرب اليمنية التي لم تضع أوزارها بعد، ازدادت قبضة الرقابة الدينية المتطرفة، هذه الرقابة انعكست بدورها على القطاع الفني والأدبي والإعلامي، ويمكن للوحة أو مقالٍ أو تحقيقٍ صحفي أن يكلف صاحبه حياته. ذو يزن العلوي هنا واحد من الفنانين الناشطين ضد الحرب، لا يخرج من دائرة مخاوف الاستهداف؛ مخاوف تجبره على التواري خلف الرمزيات في رسوم الشارع، وبحذر شديد وشجاعة أشد.
يتعمد ذو يزن استخدام الكثير من الصور والرموز الجنسانية في لوحاته كاتجاهٍ داديٍ مناهض للحرب، لكن هذه الرسوم تبقى في إطاراتها الكرتونية ولا تخرج للشارع. فعلى الرغم من المخاطر اليومية التي يواجهها يزن في الشارع وإصراره على رسم الجدران، تبقى الرموز الجنسانية للوحاته محتجزةً في قوالبها الكرتونية، تنتظر اليوم الذي تخرج فيه للشارع. يقول يزن: “أنا حتى لا أترك توقيعي على لوحاتي الجدارية!”.
يصنف منتدى الاقتصاد العالمي اليمن على مدى سنوات الحرب ضمن أخطر عشر دول في العالم، فيما صنفته مراسلون بلا حدود كثالث أخطر بلدٍ على الصحفيين في العالم؛ حيث يواجهون خطر الاستهداف والمحاكمة القضائية التي قد تنتهي بالإعدام. الأمر سيان بالنسبة للفنانين والكتاب الذين لا يخضعون لمعايير سلطات الصراع ورقابتهم.
رسالة فن الشارع
الميوثولوجيا والجنس، رسالة الضحية
يقول ذي يزن إن أزمته الحقيقية هي مع الحرب، ويرى نفسه فنانًا مناهضًا للحرب. فنان شارعٍ يعرّف فن الشارع بأنه فن الضحايا الذين يحاول أن يصور أوجاعهم في جداريات عاصمةٍ تضيق به، يخلدهم كجمادات وأزهار ميتة تملأ تفاصيل لوحاته كما يقول.
ويتحدث ذو يزن مع مواطن حول الأسلوب الذي يستخدمه في لوحاته، من الرموز الجنسانية والكائنات الميثولوجية لإرسال رسالته للعالم: “أنا بالتأكيد أحتاج لمتهم، لأشير للفاعل والمجرم خلف هذه الضحايا، وما دمت لا أستطيع التصريح بذلك؛ فالكائن الميثولوجي كإله الحرب هو من أشير إليه رمزيًا هنا، ومع ذلك لا تقل الخطورة”.
يضيف موضحاً بأن الكائن الميثولوجي الذي يستخدمه هو رمز تفهمه مختلف الشعوب، ووسيلةٌ يستطيع أن يجعل رسالته عبره مفهومةً لمن يشاهد هذا العمل الفني، بغض النظر عن الخلفية الثقافية والجغرافية للمتلقي الذي يشاهد عمله. يقول يزن: “ما أفعله هو تحفيز للذاكرة على المستوى المحلي والعالمي، أستعيد ذاكرة الحرب والمعاناة في مخيلتهم، وأقول لهم نحن نعيش هذه المعاناة؛ فالحرب واحدة؛ هي حرب، سواءً في أوروبا أو اليمن أو أي مكان من العالم”.
أطلقوا سراح كائنات يزن
يواجه ذي يزن وأصدقاؤه الفنانون في اليمن الكثير من المشاكل، والحاجة لتصاريح وتراخيص تسمح لهم بالرسم في الشارع؛ مشاكل تبدأ بالتعقيدات الرقابية ولا تنتهي بعدها، لذلك يتوخى ذي يزن الحذر في نوع الرسومات التي ينقشها في الشارع اليمني، أو يفضل أن لا يترك توقيعه عليها كما يقول، أما تلك التي قد تضايق المعايير الأخلاقية والسياسية للسلطات فتبقى محصورةً في إطاراتها الكرتونية، لكن ذي يزن كان يسعى دائمًا أن يجد فضاءً أكثر حرية يمكنه من خلاله التعبير وإيصال رسالته لجمهور أوسع وأكثر تنوعًا وتأثيرًا.
في العام 2020، كان تواصل ذي يزن مع الفنان البريطاني “لوك وارنغ”؛ جزءً من هذه المساعي في خلق فضاءات أكثر حرية وقدرة لإيصال رسالة ضحايا الحرب، قام الفنان لوك وارنغ بالتعاون مع ذي يزن وصديقتهم مورغان كرونن بإطلاق مشروع رسائل من اليمن الذي يعرض لوحات ذي يزن في شوارع العاصمة البريطانية لندن.
تقول مورغان كرونن منسقة المشروع في حديثها مع مواطن:” نهدف في مشروع رسائل من اليمن إلى تمكين وتثقيف الجمهور البريطاني حول ما يحدث في اليمن -كثير من الناس لم يسمعوا عن هذا البلد- من خلال حملة فنية في الشوارع باستخدام لوحات وأشعار الفنان ذي يزن. تم إنشاء المشروع بعد محادثات بين الفنان البريطاني لوك وارنج وذي يزن أثناء فترة الحجر الصحي لوباء كورونا”.
وعلى الرغم من عدم اشتراكهم في اللغة، كانت الرسالة الفنية المناهضة للحرب التي يمثلها العمل الفني لذي يزن هي نقطة التقاء الفنانين، وشروعهم في هذا العمل وإيصال صوت الضحايا في لوحات ذي يزن للشارع البريطاني، تصف مورغان الأمر لمواطن بهذه الكلمات: “لا يتحدث الاثنان لغة مشتركة، لذلك ترجمت كلمات ذي يزن باستخدام ترجمة جوجل، مما خلق الخشونة والبساطة التي أحببناها. استخدمنا “انستغرام” لإنشاء حملة على وسائل التواصل الاجتماعي، وقمنا بعمل فيديو وثائقي كجزء من المشروع. في المستقبل؛ نريد وضع المزيد من الملصقات في جميع أنحاء لندن، والحصول على مزيد من الاهتمام الإعلامي وإنشاء معرض لعرض الفنانين اليمنيين في لندن”.
إله الحرب في شوارع لندن
تقول مورغان لمواطن: " كان أحد الأهداف الرئيسية لهذا المشروع هو إعطاء صوت لـ ذي يزن لأن حريته في التعبير مقيدة بشدة في مسقط رأسه ، صنعاء. ليس من الآمن بالنسبة له الرسم في الشوارع بعد الآن. "هدفي كفنان شارع جعل شوارع العالم متحفًا ومعرضًا دائمًا. أردنا تحقيق هدف ذي يزن هذا".
شعورٌ تقول مورغان بأن “لوك” وهي حملاه تجاه ذي يزن، كفنان شارع في حربٍ منسية في الطرف الآخر من العالم، هو منحه صوتًا للتعبير وبمدى أوسع من المضايقات التي يعاني منها. وشعورٌ آخر تجاه دور المملكة المتحدة المهم في هذه الحرب كطرفٍ سياسيٍ مؤثر وفاعل فيها وموردٍ هام للسلاح المستخدم فيها: “تلعب حكومة المملكة المتحدة دورًا مهمًا في تأجيج الصراع في اليمن ولذا أردنا أن نجلب صوت ذي يزن مباشرة إلى شوارع لندن، حيث يمكن أن يكون لهم تأثير”.
بمحادثات في فترة الحجر الصحي لوباء كورونا، بدأ الفنان البريطاني لوك وارنج وذي يزن العلوي التنسيق لمشروع رسائل من اليمن، والذي بدأوا فيه إلى جانب مجموعة من الناشطين البريطانيين والأكاديميين في محاولة إيصال صوت ذي يزن للعالم في المملكة المتحدة. وفي نفس الوقت، تقول مورغان عن ذي يزن بأنه على الرغم من معاناته في اليمن التي يعرفون إلى حدٍ كبير مدى سوء الوضع فيها: “بدأنا التحدث مع ذي يزن في فترة الحجر الصحي في بريطانيا. أنا نفسي كنت أعاني من أعراض طويلة الأمد لفيروس كورونا، بينما كان لوك يواجه تحدياته الشخصية. لقد ألهمنا ذي يزن للاستمرار خلال كفاحنا. وآمل أن نكون قادرين على تشجيعه في بعض الأحيان على الاستمرار في الرسم. لقد كوّنا صداقةً حميمة مع ذي يزن ونأمل أن نلتقي به يومًا ما شخصيًا”.
جائزة حرية التعبير
مؤخرًا، تم ترشيح يزن ضمن القائمة القصيرة لجائزة حرية التعبير لفئة الفنون في مؤشر الرقابة العالمي، وتقدم للأفراد الذين كان لهم دورٌ كبير في مواجهة الرقابة في أي مكان في العالم، والتي ستعلن نتائجها في أكتوبر المقبل 2022. خطوةٌ يرى ذي يزن كما في حديثه لمواطن بأنها توصل أصوات الضحايا في حربٍ طالت كثيرًا لشحذ التضامن الإنساني معها وفرصة لقول الحقيقة.
يعد ذي يزن أن رسالته الفنية ستستمر مهما كانت المخاطر التي قد يواجهها، ويقول: "حين تصمت الصحف، على الجدران أن تتكلم".