في إحدى حلقات الإعلامي المصري “باسم يوسف” الساخرة ضد الإخوان المسلمين عام 2013م عَرَض مقطعًا لمؤتمر انتخابي نسائي لتنظيم الإخوان تقول فيه المتُحدثة بلغة حماسية ونبرة صوت عالية: “إن محمد مرسي من قدر الله” وهي تقصد بهذه الجمُلة أنه “مُختار من الله” لمصر وشعبها، وبالتالي فعلى كل معارضيه ومؤيديه أن يفطنوا لحقيقة سلطة مرسي أنها مؤيدة من الله بوصفها مُختارَة من السماء
لكن الإعلامي بحِسّه الساخر عَرَض هذا المقطع في سياق آخر مُضحك، وهو أن الثقافة المصرية تُكثر من كلمة “فلان قدر” بمعنى أنه ضيفًا ثقيلاً يحمل المتاعب و”هذا الشيء قدر “بمعنى أنه مؤذٍ، بالتالي صار المعنى أن محمد مرسي هو ضيف ثقيل يحمل المتاعب والأذى للمصريين، فأصبحنا أمام مشهدين يمثلان ثقافتين مختلفتين، الأولى منها تمثيل للبُعد الديني الأيدولوجي والسياسي الذي يحكم الجماعات الأصولية ويصفون به السلطة السياسية، فيما اصطلح عليه لديهم بالحاكمية. فكل حاكم إسلامي لم يختره الشعب في الحقيقة؛ لكنه مختار من الله بوصفه الحارس على العقيدة والدين، وتلك هي الصورة للإمام القائم على الشريعة الإسلامية في عُرف الجماعات، رغم أن الإسلام والقرآن بريئان مما يسمى “حراسة الدين”، وقد عرضت على موقعي في اليوتيوب محاضرتين لتبرئة الإسلام من هذا المعتقد وهما؛ “كشف أكاذيب حراس العقيدة بالدليل” و”أكذوبة حراسة الدين وموقف القرآن منها”، وفي كلتا المحاضرتين عرضنا عشرات الآيات القرآنية التي تنسف هذا المعنى وتُبرئ الإسلام منه، بوصفه خصيصة للمستبدين والكاذبين ومُدعي الفضيلة والوصاية.
ما حدث من القيادية الإخوانية بوصف محمد مرسي أنه من قدر الله هو ما يُعرف في الفكر الإسلامي (بالمذهب الجبري) ويعني المعتقدين بهذا الفكر أن الإنسان ليس مُخيّرا في هذه الدنيا، فكل فعل أو قول من الإنسان هو مجبور عليه بوصفه ليس الفاعل الحقيقي أو المُريد الحقيقي؛ بل الفاعل والمُريد الحقيقي هو الله، وقد ظهر هذا الاعتقاد في التاريخ الإسلامي لتفسير بعض آيات القرآن، وفقًا لسياق سياسي اجتماعي عسكري مثل قوله تعالى: ” فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى” [الأنفال: 17] و” الله خلقكم وما تعملون” [الصافات: 96] والآية الأخيرة كانت سببًا في حدوث انشقاق فكري إسلامي كبير في القرون الثلاثة الأولى بين مذهبين، الأول يقول بأن أفعال الناس مخلوقة من الله، والثاني يقول إن أفعال الناس خصيصة لهم وصفة أساسية ليستحقوا عليها الوعد والوعيد، وخلصت جماهير السنة والجماعة على تبني المذهب الأول، بينما المذهب الثاني صار حكرًا على المعتزلة.
فالمشكلة الرئيسية بين المعتزلة والسنة ليست قضية خلق القرآن كما هو مشهور؛ إنما قضية خلق أفعال العباد، والسبب أن الأولى عقائدية لا يترتب عليها مصالح دنيوية، أما الثانية فهي سياسية تتعلق بمصالح أهل السنة بالخصوص، كونهم ملوك المجتمع العربي برواية الحديث.
ولاحقًا في عصر المتوكل ملوك السياسة؛ فالسنة قالوا إن الله يخلق أفعال العباد خيرًا أو شرا؛ بينما المعتزلة قالوا إنه لا يجوز ذلك كون الله لا يفعل إلا حُسنًا؛ مصداقًا لقوله تعالى ” ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك” [النساء: 79] و” ما بكم من نعمة فمن الله” [النحل: 53] ويضيف المعتزلة أن عدل الله يستحيل أن يظلم العباد شيئًا، وأن هذا الظلم صدر من الإنسان لنفسه في الحقيقة، وبالتالي فالصحيح هنا في مسألة خلق أفعال العباد (أن الله يخلق القدرة على الفعل في نفس الفاعل لا الفعل نفسه) ثم اتهموا السنة بالجبر.
وللتوضيح أكثر؛ فخلق أفعال العباد عند الحاكم يعني أن أفعال السلطة صارت مقدسة، وهو مقصد السيدة الإخوانية لقطع الطريق دينيًا على محاسبة محمد مرسي، ونسب أفعال حكومته إلى السماء، فكل بطش لها وظلم وسرقة هي من قدر الله ومراده في الدنيا، ولا راد لقضاء الله وقدره؛ بينما قال المعتزلة إن هذا جبر، ورفضه الحسن البصري بقوله ” إن مقادير الله لا تجري بالشر”، واتهم من يزعم ذلك أنه عدوّ لله وكذاب يستحق الطرد من مجتمعات المسلمين، ذلك لأن الفكرة الأساسية للجبر هنا هي التي صنعت السلطة الدينية المقدسة في التاريخ، فكل ظلم وتوحش إنساني ينسبونه إلى السماء فورًا، وكل معارضة للحاكم والمسؤولين تعني كُفرًا بائنًا وخروجًا على الدين يستوجب العقاب.
وحين يتحدثون في السياسة يعنون بها أننا لا نملك حرية اختيار الحاكم، لأن وجوده كحاكم هو قرار تاريخي جبري يتحكم بمصائرنا، وبذلك يصبح وجود هذا الحاكم في ذاته هو حكم القضاء والقدر الإلهي، مصداقًا لقوله تعالى: ” ليقضي الله أمرًا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور” [الأنفال: 44]، وبالتالي فقضاء الله في الحاضر هو مصداقًا لحُكمه وإرادته في الماضي، كان مفعولاً؛ أي كان مُرادًا من الله في الواقع حتى قبل وقوعه، فيكون انتخاب “محمد مرسي” رئيسا لمصر مصداقًا لحكم الله وإرادته في الماضي، وعليه يصبح الخروج على محمد مرسي خروجًا عن حكم الله، والتمرد عليه أو الثورة هو تمرد وثورة على الله نفسه، وكلا العملين يعنيان كُفرًا عقائديًا يستوجب العقاب بموجب حد الردة؛ لذا فالبعض يربط بين ظهور جريمة “قتل المرتد” في التاريخ وبين المذهب الجبري من ناحية الإقرار بأن الخروج أو معارضة الحاكم والمسؤولين والأمراء، كان يعني في هذا الزمان هو الكُفر والجحود؛ ومن ثم فقتل هؤلاء المعارضين الخارجين واجب لحماية الدين والمجتمع الإسلامي.
علما بأن مذهب الجبر منقسم لفريقين؛ الأول: جبر كُلّي؛ وهؤلاء هم الذين ينفون مسؤولية الإنسان عن فعله مطلقًا، وينسبون أعماله كاملة لله، والفريق الثاني: جبر جزئي، وهم الذين يقولون بمسؤولية الإنسان جزئيًا عن أفعاله، لكن هذه المسؤولية تظل غير مؤثرة في عجز الإنسان عن الاختيار، والفريق الثاني اشتهر بنظرية الكسب التي تعد أحد العقائد الأشعرية في الفكر السني، وقد اتهمهم الخصوم بالجبر بناء على تلك النظرية، وملخص تلك النظرية الأشعرية أن الله يخلق الفعل في نفس العبد، ثم إذا أراد الإنسان خيرًا أو شرًا يكسبه بيده، وهذا تفسير قوله تعالى “ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون” [البقرة: 281] وللوهلة الأولى؛ فالناظر لا يفهم شيئًا منها، لأن الكسب القرآني يعني العمل، قال تعالى “ليجزي الله كل نفس ما كسبت ” [إبراهيم: 51] يعني سيحاسب الله كل نفس على ما فعلت، وهنا الأشعرية يفرقون بين العمل والكسب، وعلى ما يبدو أن الفعل لديهم مقدمة والكسب نتيجة، وهذا رد على عدم ذكر الفعل محل الكسب.
لكن هذا التفسير عليه إشكالات، فخلق الله المقدمة يطرح سؤالاً، ماذا لو كانت المقدمة من فعل الإنسان؟ أفلا يكون حرًا في اختياره؟ بمعنى أن لا ضرورة للكسب عقليًا؛ فهي كما أراد أن يفسر الماء بالماء، ومجمل ما حدث أن الأشاعرة أرادوا حل معضلة الجبر، فأضافوا صورة أخرى للجبر؛ هي ما وصفوها بالجبر الجزئي، ورأيي أن الأشاعرة ما كان لهم أن يقولوا بالكسب لولا تورط أسلافهم في ذم القدرية والمعتزلة واستعدائهم بشتى الطرق، فعندما أرادوا نفي رؤية الاختيار للمعتزلة تورطوا في الجبر، وهذه من مثالب الفكر في استعداء الآخرين وبناء صور وهمية عنهم لا علاقة لها بالواقع، فالردود على المخالفين في الغالب تخرج بشكل عكسي، ولو حرص أتباعها على التوسط، وهذا حدث في كتب الرد على الجهمية، فالبعض ممن تورطوا في الرد على المُعطّلة، وصنّف فيهم كتبًا ومؤلفات وقع في التجسيم، والبعض أيضًا ممن تورطوا في الرد على الشيعة وقع في النصب أي في احتقار وازدراء أئمة آل البيت والعكس صحيح.
لم ينتبه الأشاعرة وغيرهم أن تفسيرهم للقدر هو المعضلة الكبرى، فالقدر باختصار هو “قانون الكون” مثلما قال “ابن رشد” (إن القدر هو الأسباب، والأسباب هي قوانين الكون)؛ فالحرية هنا ليست تمردًا على القدر؛ بل هي فعلاً يوافق قانون الطبيعة، والمعنى أنه إذا قفزت من الطائرة ستقع على الأرض وتموت، وإذا ضربت نفسك بالرصاص ستموت أيضًا، وإذا عملت كثيرًا تربح الأموال، وإذا لم تعمل تخسر، فالفاعل هنا هو الإنسان لا يعني أنه خلق فعله ليتساوى في الإيجاد من العدم مع الله، فعلى ما يبدو أن مفهوم الخلق أيضًا معضلة عند الأشعرية، فليس كل خلق هو إيجاد من العدم، بل هناك تعبيرات نفسية لا إرادية؛ كالفرح والحزن، هل معنى فرح الإنسان أنه (خلق سعادته)؟ كذلك هناك تعبيرات إرادية كعبوس الوجه وانبساطه؛ فهل معنى أن يعبس إنسان في وجه آخر أنه خلق عبوسه؟ وماذا تسمون عبس النبي في وجه ابن أم مكتوم؟
وفي رأيي أن الكسب الحقيقي المذكور في سورتيّ “البقرة وإبراهيم” هو كسب الأفعال لا النوايا مثلما يقول الأشاعرة؛ فحسب قولهم بأن الله يخلق الأفعال؛ بينما الإنسان يكسبها حين يريد، والسؤال ماذا لو أراد الإنسان ولم يفعل؟ وهل الوعد والوعيد على الأفعال أم مجرد النوايا؟ الأمر الثاني أن الإنسان الفاعل الكاسب بقوة مقدورة من الله، والتقدير قوة إلهية جعلته يكسب، والجعل خلق، وعلى ذلك فحسب قولهم إن الله هو الذي يكسب لسبق تقديره لأفعال الإنسان، أما الإصرار والتوكيد على أن الله يخلق أفعال العباد جعل من إرادة الإنسان تحصيلاً حاصلاً، وأنها في النهاية تصب فيما لا يعلمه فيُسلّم لذلك جبرًا، والدليل على ذلك أن الكسب لم يُعالج بيئة الإنسان ومجتمعه في صناعة عقائده، والحاصل أن الإنسان منزوع الإرادة فيما يختار، وأن المجتمع هو الذي يختار فيما اصطلح عليه اجتماعيًا أن “الإنسان هو ابن بيئته”، والأمر الأخير أن الأشاعرة هنا خلطوا بين الفعل الذاتي والفعل الخارجي، فالأول هو فعل الإنسان(كسبه) ، والثاني هو ما فعله الآخر للإنسان مثل اختيار اسمه وعائلته ونَسبه ودينه وغناه وفقره، وفي تقديري أن هذا الخلط نَجَم عن عدم (أو سوء) تحرير علاقة المجتمع بالفرد ضمن إطار نظرية الكسب، وهو جهد فلسفي اجتماعي لم ينخرط فيه زعماء الأشاعرة الأوائل.
أما المعتزلة فقد رأوا أن حل معضلة الجبر في الاختيار الحر كما قلنا، وقد تطور هذا المذهب الفكري في الليبرالية المعاصرة، ومعنى ذلك أن الليبرالية هي الوجه الحداثي للاعتزال القديم، ولكي يشرح المعتزلة قولهم ذلك فلسفيًا؛ قالوا إن الله يخلق (القدرة في نفس الفاعل) وليس الفعل نفسه، أي يعطيك القدرة على العمل، فإذا فعلت شرًا أو خيرًا وجب حسابك وفقًا لأصول دينية لديهم كالعدل والوعد والوعيد.
وعن الذين نشروا هذا المذهب الجبري بين المسلمين؛ فقد ذكرهم الدكتور “إمام عبد الفتاح” رحمه الله في كتاب “الطاغية” الذي هو نسخة أخرى من طبائع الاستبداد للكواكبي، لكن بشكل فلسفي وعلماني أعمق من الرؤية الاجتماعية للكواكبي، وكان مما أثبته الدكتور في هذا الكتاب أن الأمويين هم من أشاعوا المذهب الجبري المرتبط بالخلافة لتمديد فترة حكمهم والقضاء تمامًا على آل البيت، ثم ورثنا هذه الرؤية الأموية في تصورنا النهائي للسياسة في كُتب ما تسمى (السياسة الشرعية) التي ظهرت خصيصًا في العصر العباسي لتبرير سلطة الخليفة آنذاك من وجهة نظر دينية، وأنهم استعانوا بالكهنة والمثقفين لتبرير مُلكهم دينيًا وسياسيًا، ولم يستثن من ذلك شعراء؛ كالأخطل وجرير والفرزدق، وأيضًا ممن حمّلوا ظهور هذا الفكر للأمويين هو الدكتور “محمد عابد الجابري” في كتابه “نقد العقل العربي”، وبطريقة الدكتور إمام فقد ساق هذه الرؤية بوجهة نظر فلسفية إضافة للجانب الروائي الخبري كتوثيق.
على الوجه الآخر يمثل مذهب الاختيار أعتى خصوم الجبريين، ويعني هذا المذهب أن الإنسان مُخير في الدنيا، وأن الشرع الإسلامي والعقل لا يقبلان مطلقًا أن يُجبر الله مجموعة من الناس على عمل ثم يعاقبهم عليه؛ فالجبرية هنا تقول إنه لا معنى للثواب والعقاب، أو الجنة والنار، لأن الحساب الإلهي في الآخرة يسقط لعدم وجود صحيفة أعمال لسبق القول بجبرية المُكلّف، وهذه تعتبر أوضح أدلة العقل ضد الجبريين، والتي تقول بوضوح بأن الجبرية ضد الإسلام قولاً واحدًا؛ بل هي ضد الأديان جميعها ومصلحة البشر والتفكير والمنطق البدهي بالعموم.
والسبب في تعارض هذا القول الجبري مع الأديان، أن الدين ظهر بفكرة حساب الناس على أعمالهم في الدنيا بطرق وأشكال مختلفة؛ فالأديان الإبراهيمية تقول إن هذا الحساب في الدنيا والآخرة، بينما الهندوسية تقول بأن الحساب يحدث بالكارما، وفي رحلة التناسخ، أي أن مجرد القول بالجبر يعني هدم الأديان ونسف الفكرة التي قامت عليها بعقاب المخطئين وثواب المُحسنين.
علما بأن مذهب الاختيار هذا منقسم أيضًا إلى فريقين؛ الأول اختيار مطلق وهؤلاء المعتزلة، والثاني اختيار جزئي، وعلى ذلك مذهبا الشيعة والسنة، وقد اشتهر عند الشيعة مبدأ (لا جبر ولا تفويض)؛ فهم يرفضون الجبر بنسخته الأموية التي شرحها د. إمام عبد الفتاح ومحمد عابد الجابري، ويرفضون أيضًا التفويض المعتزلي؛ فهم يسمون مذهب الاختيار الحر بالتفويض، ويقول في ذلك آية الله مكارم الشيرازي “هناك اعتقاد آخر باسم «التفويض»، ويقع في جانب «التفريط». يرى الذين يعتقدون بالتفويض أنَّ الله قد خلقنا وترك كل شيء بيدنا، فلا دخل له في أعمالنا وأفعالنا، وبناء على ذلك يكون لنا الحرية كاملة والاستقلال التام فيما نفعل بلا منازع!
ولاشك في أنَّ هذا المعنى لا يتفق ومبدأ التوحيد، إذ إنَّ التوحيد قد علمنا أنَّ كل شيء ملك لله، وما من شيء يخرج عن نطاق حكمه، بما في ذلك أعمالنا التي نقوم بها مختارين وبملء حرية إرادتنا، و إلاّ فإنَّه شرك، وبعبارة أوضح: ليس بالإمكان القول بوجود إلهين، أحدهما هو الإله الكبير، خالق الكون، والآخر الإله الصغير، أي الانسان الذي يعمل مستقلًا وبكل حرية؛ بحيث إنَّ الله الكبير لا يستطيع أنْ يتدخل في أعماله، وهذا بالطبع، شرك وثنائية في العبادة، أو تعدد في المعبود، فعلينا إذن أنْ نعتبر الإنسان صاحب اختيار فيما يفعل، وفي الوقت نفسه نؤمن بأنَّ الله حاكم عليه وعلى أعماله” (سلسلة دروس في العقائد الإسلامية، مؤسسة البعثة، ط 2 . ص263-269).
وعلى ما يبدو؛ فأن وجهة نظر الشيعة في المعتزلة هنا قريبة من الأشعرية الذين يقولون بأن مذهب الاختيار الحر يعني (مثنوية)؛ أي وجود إلهين في الحقيقة يخلقان الأفعال، وهذا شرك واضح نسبوه للمعتزلة – رغم عدم القول بكفرهم – ومن تلك الرؤية خرجت روايات مشهورة حُكِمَ عليها بالوضع لاحقًا كحديث “القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة” ويقصدون بالقدرية فرقة المعتزلة التي قالت بحرية الاختيار تقليدًا لأصحاب الدين المجوسي الزرادشتي، الذين يقولون بالحرية الكاملة والمطلقة إضافة للمثنوية، وفي الحقيقة أن المعتزلة يُفرقون بين الخلق والصناعة كما شرح ذلك القاضي عبد الجبار الهمداني في كتابيه “المغني وتنزيه القرآن عن المطاعن”؛ فالخلق في القرآن يأتي بمعنيين: إيجاد من العدم وصناعة، فالقول بأن الخلق جميعه لله وحده جهل بلغة وسياقات القرآن، ومن حجج المعتزلة هو استخدام المعنى الثاني، فلا يقولون إنهم أوجدوا فعلهم من العدم، لأن الله خالق كل شيء؛ بما فيها المادة والقدرة على الفعل، ومثلما تحتاج الصناعة لمواد مخلوقة؛ فعمل الإنسان يحتاج أيضًا قدرة مخلوقة، وهذا تلخيص شديد لقول المعتزلة (خلق أفعال العباد) يحلّون فيه إشكالية الجبر لتتسق مع قوانين الطبيعة.
أما فلسفيًا فالمذهب الجبري لا يستند فقط على حجج قرآنية وشرعية، ولا يقوم فقط على ميول سياسية استبدادية أو حكم ثيوقراطي ديني؛ إنما له تفسير فلسفي يمكن من خلاله أن نفهم كيف وجد هذا الفكر عند بعض الفقهاء المسلمين الذين سيعارضون حتمًا مقتضى هذا المذهب القائل بنفي معنى الثواب والعقاب، وهو تصور فانتازي؛ يمكن من خلاله أن نطعن بسهولة في عقول هؤلاء أو إخلاصهم للدين، لكن يبدو أن المشكلة أعمق من هذا.
باختصار فالجبرية قد تكون مبررة فلسفيًا إذا نوقشت بمقتضي العلاقة بين الأسباب والاتصال الدائم بين الأشياء؛ فكل حادثة بالحاضر لها اتصال بالماضي ولها تأثير في المستقبل، وهو ما اصطلح عليه في الإنجليزية بمبدأ “الحتمية” Determinism، هنا عندما يتصور الفقيه المسلم العلاقة بين اللوح المحفوظ المسجل فيه أقدار ومصائر الناس قبل بدء الخليفة، سوف يكون الاتصال في ذهنه حاضرًا بين هذا المصير الماضوي، وبين حدوثه في الحاضر، وبالتالي ففكرة حرية الاختيار المطلقة هنا غير منطقية لا تتسق مع العقل السليم – وفقا لتصوره –، وهذا ربما الذي دفع فقهاء الشيعة والأشعرية إلى اتهام المعتزلة وتسمية قولهم بالاختيار الحر على أنه تفويض مذموم، فإذا رد المعتزلة بأن هذا الاتصال يسري وفقًا للسببية وقوانين الكون لا وفقًا للجبر ونفي الحرية؛ سوف يرد الشيعة والأشعرية بأن تسلسل هذه القوانين أساسًا تعني تأثيرًا متوالدًا يربط الماضي بالحاضر، وبالتالي فمصير الإنسان مقدر سلفًا بالفعل قبل حدوثه، ولا دخل للإنسان هنا بصناعة فعله.
سوف يُفضي هذا الصراع الفكري لطرح أسئلة جريئة تتعلق بمفهوم “اللوح المحفوظ” القرآني، والمذكور في سورة البروج آية رقم 22، وكذلك علم الله بالجزئيات؛ وهي أمور فلسفية خاض فيها مفكرون مسلمون من قبل، تعرض أكثرهم للتكفير بناءً عليها، وفي تقديري أن الحلول سوف تكون بعلوم (الاجتماع والأنثروبولوجي والسيكولوجي) ، وهذه علوم مستحدثة لم تكن على عصر من صاغوا نظريات الجبر والاختيار الأولى في الفكر الإسلامي.
وسوف أضرب مثلاً لتقريب هذه المسألة من داخل تلك العلوم، وهو أن البشر يتصرفون أساسًا بطريقة غير جبرية؛ فمن يمرض هو يذهب للطبيب ولا يستسلم للمرض بدعوى أن مرضه في اللوح المحفوظ، ولم نقرأ عن الذين استسلموا للموت بدعوى أنه مقدر سلفًا، وقد نرى بعضًا من هؤلاء في الحقيقة لكن بعد يأسهم من العلاج أو معاناتهم من نظرة سوداوية للكون، أما بمجرد أن يصيب المرض أحدهم فيرفض العلاج بدعوى أنه اعتراض على قدر الله فلم يحدث مطلقًا، وبالتالي نفهم من سلوك الإنسان – غير الجبري – أنه يتصرف وفقًا لقوانين عملية تتفاعل مع المحسوسات والمُدركات، فعندما يذهب للصيد مثلاً؛ فهو يصطاد الطيور والغزلان، لكنه لا يصطاد الأسود والنمور، وبالتالي فأفعاله لا علاقة لها بالماضي واللوح المحفوظ، ولكنها تسير وفقًا لرغبته في الصيد، وكذلك من يريد أن يتزوج فهو يختار بين عدة نساء سوف يكون اختياره مبنيًا على تحقق شروط الزوجة في إحداهن، وبالتالي ففعل الزواج هنا لا يحدده الماضي واللوح المحفوظ ولكن بالأنثى التي تُعجبِه.
ويعني ذلك أن الفكر الجبري من حيث الطبيعة وتناوله لنفسه (متناقض)؛ فهو لا يعترف بميوله وغرائزه الفطرية في رؤية الكون والأشياء، وفي ذات الوقت لا يتصور انطباق هذه الجبرية على نفسه من الغير، بمعنى أنه يقبل كونه قدرًا لفلان آخر يفعل معه ما يشاء، لكن لا يقبل العكس؛ فهو كائن أناني وصاحب شخصية سلطوية؛ لذا فالجبرية كانت ولا تزال سلوكًا مفضلاً للحكام المستبدين الذين يُصوّرون لشعوبهم أنهم ما حصلوا على “الحُكم” إلا بإرادة الرب، وأنهم في هذا المكان تنفيذًا لأوامر وتعاليم الله، بينما القرآن يدحض ذلك بعشرات الآيات الدالة على حرية الاختيار مع الوعد والوعيد، لإقرار أن الإنسان هو الفاعل الحقيقي والأصلي كما في قوله تعالى: ” ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون” [الأعراف: 43] و “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى” [النجم: 39] و “كل نفس بما كسبت رهينة” [المدّثر: 38] و ” ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون” [النحل: 32] و “ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد” [الحج: 10]. وغيرها
والذي يتوهمه الجبريون أن علم الله بالماضي والمستقبل يعني نفي الحرية الاختيارية، وفي ذلك سوء فهم منهم؛ حيث إن علم الله بما كان وسيكون هو من باب (القدرة)، إنما فعل الإنسان في الدنيا هو من باب (التأثير)؛ فقدرة الله على العلم بتأثير الإنسان لا يعني أن الله هو المؤثر كما يتخيل الجبرية، ويعتقدون أن عدم تأثير الله نقص في قدرته وجلاله، ولو قرأوا قوله تعالى “إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا” [الإنسان: 3] لتبين لهم أن علم الله بما كان وسيكون بالإضافة إلى حكمته وعدله هي التي رسمت “السبيل/ الطريق” للإنسان ليفعل الخير والشر بنفسه؛ فالله هو الذي أوضح الطريق، لكن لم يجبر الناس على فعل شيء، بل فعلوا بمحض اختيارهم ما يستوجب (الشُكر والكُفر) ، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى “إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً” [المزّمِّل: 19] فالله بعد أن أوضح الطريق للبشرية ذكّرهم به عن طريق الرسل والصالحين، فمن شاء الجنة يعمل صالحًا ليستحق الوعد الذي وعده الله إياه في القرآن، ومن شاء غير ذلك فليتحمل وزر ما فعل.
ومن هذه الزاوية يمكن فهم قوله تعالى “وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما” [الإنسان: 30]؛ فهذه الآية – وغيرها – هي عمدة مذهب الجبرية في تقديم مشيئة وإرادة الله على إرادة البشر، بالتالي فلا توجد إرادة حقيقية أو مطلقة للبشر في فعل شيء، والحق أن سياق هذه الآية ينفي الجبر ويقر الحرية الاختيارية المطلقة بنفس المعنى الذي سقناه منذ قليل؛ وهو أن الله قد أوضح لنا الطريق فقط، ثم يذكرنا به دائما بالرسل والصالحين، تأمل معي تلك الآيات: “إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا، نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا، إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما” (الإنسان 27 – 30)
والمعنى أن حب أهل النار للدنيا أنساهم يوم الحساب الثقيل، فهذا تذكار لهم بذلك اليوم الذي يصرون على نسيانه، ولو شاء الله لجعلهم مؤمنين، لكن الله لا يفعل ذلك جبرا، فقوله ” إلا أن يشاء الله” يعني “إلا أن يشاء الله إجبارهم”، وقد ذكر سبحانه وتعالى نفس البيان في موضع آخر بقوله تعالى: “ولو أننا نزلنا إليهم الملآئكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون” [الأنعام: 111] والمعنى واضح بأن هؤلاء الذين يطلبون المعجزات من النبي لن يؤمنوا وسيظلوا على عنادهم وشرورهم، ولو شاء الله لأجبرهم على الإيمان والتصديق وأدخلهم الجنة، لكن الله يتركهم يفعلون ما يحلو لهم كي يستحقوا الثواب والعقاب.
والعبرة هنا في لفظة (إلا أن يشاء الله) التي تكررت في القرآن واتخذها الجبرية دليلاً على مذهبهم في نفي حرية الاختيار كليًا وجزئيًا، وبمناقشة عقلية بسيطة نرى أنه لو استجاب الله لمطالب المشركين بالمعجزات مع علمه السابق والأزلي أنهم لن يؤمنوا فسوف يكون عبثًا لا يليق بجلاله، فموطن الإيمان البشري هو القلب والعقل، وعليهما تنعقد أصول الإيمان وحرية الاختيار بما يستوجب صدق التكليف، ومن خلال هاتين الوسيلتين “القلب والعقل” يأتي الضمير الإنساني الذي هو ناتج عن تطور وتجارب كلتا الوسيلتين، فلا معنى إذًا للإتيان بمعجزات لا يصدقها هؤلاء، وإذا جاء بها الرب من عليائه فسوف يكون إجبارًا لهم على الإيمان، حيث وبمجرد نزول الملائكة وتمييزهم على أنهم خلق آخر يراه الكافة؛ سيكون إجبارًا على الإيمان لا يليق بعدل الله وحكمته، فلا معنى للجنة والنار إذن، ولا كل مشاهد الحساب التي ذكرت في القرآن، بالتالي فقوله تعالى: “إلا أن يشاء الله” هو لأمرين اثنين؛ الأول: تذكير بعلم الله بما كان وسيكون في محل التكليف الاختياري، والإيمان بالحرية المطلقة في الفعل وليس تقييدًا لحرية وإرادة الإنسان بإرادة الله، أما الثاني: فهو إقرار حاسم بأن إرادة ومشيئة الله لن تتدخل في تغيير فعل ومصائر هؤلاء الذين رسموه لأنفسهم بأفعالهم.
أخيرا: كان هذا عرضًا يمثل عدة أضواء مختصرة عن الفكر الجبري، وقلت مختصرة لأن شرح هذا الفكر بكل أبعاده يتطلب زمنًا وصفحات لا حصر لها، نظرًا لامتداد هذا الفكر في صراعات مذاهب أخرى؛ كأهل الرأي وأهل الحديث، أو بين المعتزلة والأشعرية، أو بين السنة والشيعة، أو بين الحنابلة والأشعرية؛ فالجبرية هنا ليست فرقة معروفة وتنظيمًا جماعيًا خاصًا ومحدودًا؛ بل هو فكر دخل معظم المذاهب الإسلامية تقريبًا وبأشكال مختلفة، وقلت إنها عدة أضواء؛ لأن شرح وتحليل كل الأضواء على المذهب الجبري يظل أمرًا عسيرًا نظرا لامتداد بعض هذه الأضواء داخل الفلسفات القديمة والحديثة، فاخترت الأضواء الهامة فقط والمؤثرة في واقع المسلمين وخلافاتهم البينية الشهيرة، على أمل أن نناقش أبعادًا أخرى للفكر الجبري مستقبلاً، والذي على الأرجح سيكون عن البُعد الفلسفي دون التعرض للنصوص، وفي ذلك متسع ونقاشات ثرية للغاية. أرجو من الله أن يمهلني الوقت والقدرة على تحليلها وعرضها في المستقبل القريب.