عن الدور المركزي الذي قام به الأوس والخزرج- “الأنصار“- في صعود الإسلام، قال هشام جعيط: “الأنصار هم مادة الإسلام، وبهم نجح محمد في فرض دينه”. وهو محق فيما قاله إن قرأنا نشأة الأديان من منظور تاريخي، يرى في التخطيط والاستعداد والحظ الدور الأساس. كان يمكن للدور الذي أنجزه الأنصار أن يقوم به أي حليف آخر، لو لم تُغلق جميع الأبواب في وجه النبي محمد.
البحث عن حليف
يحدثنا التاريخ، أو ما تبقى منه، أنه بعد موت أبي طالب اشتد أذى قريش على النبي وأصحابه، فقرر الخروج – بصحبة زيد بن حارثة- إلى الطائف، حيث تسكن قبيلة ثقيف؛ بحثًا عمن يحميه كما تقول الروايات، أو بحثًا عن حليف، كما أرى؛ فحياته في مكة لم تكن مهددة؛ فقد قضى فيها اثني عشر عامًا وهو يدعو الناس إلى الدين الجديد. مكث محمد في الطائف عشرة أيام “لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه بكلمة” لكنهم ردوا عليه ردًا شديدًا، وأغروا به سفائهم فجعلوا يرمونه بالحجارة” حتى أدموه.
وبعد هذه الرحلة الفاشلة، عاد النبي إلى مكة وأخذ يتتبع الحُجَّاج في مِنى ويسأل عن القبائل، “ويسأل عن منازلهم ويأتي إليهم في أسواق المواسم.” ذكر الواقدي أن النبي “أتى بني عبس وبني سليم وغسان وبني محارب وبني نصر ومُرَّة وعذرة والحضارمة، فيردون عليه بأقبح الردود، قائلين: “أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك.” تكشف لنا هذه الردود استحالة الفصل بين الديني والسياسي؛ فاتباع دين جديد يعني استبدال الولاءات والمعاهدات والقيادات والزعامات والتسليم بالطاعة للزعيم الجديد ممثلًا في النبي.
لكن لأن الحياة الدينية وقتها كانت تتسم بالتعددية وبالحرية في اتباع أي دين؛ فالأرجح أن قريشًا لم تكن تخشى من اتباع الناس لدين محمد، بقدر ما كانت تخشى البيعة بمعناها السياسي، كما سيأتي. والشاهد أن النبي كان حرًا في تنقلاته؛ فقد قضى في الطائف عشرة أيام، مثلما كان حرًا في عرض دينه الجديد على زعماء القبائل، فلماذا يخشى زعماء قريش من هجرته إلى يثرب إلا إذا كان لانتقاله إلى هناك تبعات سياسية، ثبتت فيما بعد!
والنبي يعرض نفسه على القبائل، عند العقبة في منى، لقي ستة أشخاص من الخزرج من يثرب، سألهم: "من أنتم؟"، قالوا: "نفر من الخزرج"، قال: "أمن موالي يهود؟"، قالوا: "نعم".
وحسب الرواية الإسلامية فأن النبي عرض عليهم الإسلام فقبلوه؛ بحجة أن اليهود كانوا يتوعدونهم بالقتل ويبشرونهم بنبي آخر الزمان. العلاقة بين الأوس والخزرج واليهود كانت محكومة بالموالاة؛ أي أنهم كانوا في حماية اليهود أو في عهدتهم.
وهَب أن الأوس والخزرج ضاقوا ذرعًا بسلطة اليهود؛ فهل يعقل أن يوالوا شخصًا هو نفسه يبحث عمن يحميه! إلا إذا كانوا حصيفين وبعيدي نظر، ويدركون دور الدين كقوة إيديولوجية قادرة على بناء دولة وحضارة، وينظرون بالتالي إلى مستقبل يكونون فيه سادة لا موالي؟ لو أن الأوس والخزرج يبحثون عن دين لكانوا اعتنقوا الدين اليهودي وأمِنوا بذلك من شرهم المزعوم. ولو أن اليهود يريدون شرًا بالأوس والخزرج لكانت الفرصة سانحة للانقضاض عليهم قبل هجرة النبي إلى يثرب؛ بخاصة وهم منقسمون. لكن على ما يبدو لي؛ فقد كان الأوس والخزرج يطمحون إلى ما هو أرفع من هذه العلاقة – بينهم وبين اليهود- وقد خُيِّل لهم أنهم وجدوا ضالتهم في نبي يبحث عمن يحميه هو وأصحابه القلائل.
تُخبرنا الرواية الإسلامية أن الستة عادوا إلى يثرب لنشر الإسلام، ولما أتى العام المقبل “وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلًا لاقوا النبي بالعقبة في منى فبايعوه”، وكانوا عشرة من الخزرج واثنين من الأوس، ولمَّا علمت قريش بالبيعة؛ ذهب زعماء مكة إلى أهل يثرب للاحتجاج على البيعة، وكان هؤلاء لا يعلمون شيئًا عن البيعة، فأنكروا ذلك. ولما عاد زعماء مكة تأكدوا من صحة الخبر. وما يهم هنا هو احتجاج زعماء مكة على البيعة التي يدركون معناها وتبعاتها السياسية.
المشاورات السرية
تريد لنا رواية المنتصر “السردية الإسلامية” تصديق أن هؤلاء الرجال تصرفوا بشكل فردي دون الرجوع إلى زعمائهم، وهذا أمر جائز في مجتمع حر يسمح لأفراده اعتناق أي دين يريدون. وهو أمر جائز في بيعة دينية لا تتضمن بنودًا سياسية، ولا ذكر فيها للحرب، كما يعكس اسمها “بيعة النساء”. وأرى أنهم لم يكونوا ليبايعوا محمدًا دون علم سعد بن عبادة زعيم الخزرج، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير زعيميّ الأوس؛ فمثل هذه المبايعة سيكون لها تداعيات خطيرة على علاقتهم باليهود، وعلى علاقاتهم مع قريش، ولا يمكن لهم المضي بها قدمًا إلا بعد تفكير وحساب لميزان الربح والخسارة، وهذا أمر يحسمه الزعماء.
من شروط البيعة ألا تُعقد لأكثر من شخص؛ فكيف يبايعون الرسول وهم قد بايعوا زعماءهم من قبل؟ إلا إذا كانت البيعة دينية في مرحلتها الأولى، ومعاهدة حماية مشروطة يمنحها قوي لضعيف يبحث عن ملجأ. ويبقى السؤال: مقابل ماذا؟
الدخول في الدين، أي دين لا يحتاج إلى معاهدة أو بيعة بين طرفين، وبما أن الرسول كان يمثل حينها الطرف الأضعف في هذه المعاهدة، فمن الطبيعي أن يفرض الأوس والخزرج شروطهما؛ تلك الشروط التي لم يُكتب لها أن تبقى؛ بسبب أن الطرف الأضعف انتصر في النهاية وباع شريكه عند تقسيم غنائم حنين أولًا، ثم في سقيفة بني ساعدة عندما جرد المهاجرون الأنصار من حقوقهم السياسة.
يبدو لي بأن رجال الخزرج الستة، ثم الاثني عشر، لم يعقدوا أي اتفاق سياسي دنيوي مع النبي؛ فلم يكونوا في وضع يسمح لهم بحماية النبي وهم في غير أرضهم، إضافة إلى أنهم لا يملكون الكلمة الفصل في أمر كهذا. وما أن عادوا عرضوا الأمر على رؤساء القبيلتين واتفقوا على حماية النبي شرط أن يهاجر إلى مكان يخضع لسلطتهم، وهو ما تم بالهجرة لاحقًا. وما يسترعي الانتباه هو أن الأوس والخزرج لاقوا النبي وهم متحدين، ما يشير إلى أنهم كانوا جبهة واحدة في هذا الاتفاق.
صفقة سياسية أم دينية؟
البيعة هي صفقة يتم بموجبها تبادل الشيء بالشيء، أو بما يساوي قيمته. والمبايعة تعني الطاعة والمعاقدة والمعاهدة والتولية، وبذل العهد على الطاعة والنصرة. “بايعت القبائل الملك”: أي “قبلت سلطته وخلافته وعاهدته على الوفاء به.” و “بويع له بالخلافة”: بمعنى تولاها.
وقد سميت بيعة العقبة الأولى “بيعة النساء”؛ لأن بنودها لم تذكر شيئا عن الحرب أو الجهاد، وبهذا فهي تتفق مع البيعة التي ذكرت في سورة الممتحنة، الآية 12، الخاصة ببيعة النساء، وهي بيعة أخلاقية إيمانية بحتة: “يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف ۙ فبايعهن واستغفر لهن الله ۖ إن الله غفور رحيم.”
وعلى هذا تكون البيعة في مرحلتها الأولى دينية إيمانية بحتة، باعهم النبي الدين مقابل الطاعة. وهي مرحلة مهمة؛ لأن الإعداد للحرب مرحلة لاحقة لا يمكن خوضها بدون مرحلة تسبقها تقوم على الاستعداد النفسي والفكري والعقَدي.
شروط إسلام أم استسلام!
احتفظ لنا الفريق المنتصر بشروط بيعة العقبة، فأين ذهبت الشروط التي وضعها الأوس والخزرج؟
لما اجتمع القوم لبيعة الرسول، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: “يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت (أذهبت) أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله خزي الدنيا والآخرة إن فعلتم. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال، وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله، إن نحن وفينا؟ قال: الجنة. قالوا: ابسط يدك، فبسط يده، فبايعوه.”
يحذر العباس قومه مما هم مقدمون عليه خشية من أن يتخلوا عن محمد إن هم خسروا أموالهم وقتل أشرافهم، فكانت الإجابة أنهم لن يسلموه إن حدث ذلك، وهذا ليس بغريب على سجايا القبيلة العربية، بغض النظر عن هوية المستجير. يستوقفنا في قول العباس عبارة “هذا الرجل” التي تجرد محمد من أي صفة دينية سوى صفته البشرية التي على ضوئها قبل الأنصار حمايته.
لكن حماية محمد هنا لا تشبه حماية أي شخص آخر بدليل ما جاء بعدها: “تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس.” إنهم يدركون ما هم مقدمون عليه من مغامرة لا يعقل أن يكون ثمنها “الجنة” كما جاء في الرواية؛ فهم حديثو عهد بالإسلام- لم يمر سوى عام أو أقل من عامين على إسلامهم. ثمة ثمن لهذه المغامرة، إن نجحت، هو “خير الدنيا والآخرة”، لكن خير الدنيا سيلغى في جواب محمد ما يرجح أن هذه إضافة متأخرة للرواية بعد أن حرم الأنصار فعلا من خير الدنيا- حصتهم من الخلافة| السلطة، بعد موت النبي.
وفي رواية عبد الله بن رواحة، قال: “يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: الجنة، قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزل إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة”. [التوبة: 111]
وفي رواية كعب، التي رواها ابن إسحاق: قال كعب: “فتكلم رسول الله، قال: (أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم). فأخذ البراء ابن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبيا، لنمنعنك مما نمنع أزرنا منه، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر. قال: فاعترض أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنا قاطعوها -يعنى اليهود-، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله، ثم قال: (بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم). قال ابن هشام: ويقال: الهدم الهدم: يعني الحرمة. أي ذمتي ذمتكم، وحرمتي حرمتكم.”
يستوقفنا في هذه الرواية قول البراء “نحن أهل الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر”! وهم كذلك فعلا، فلم يحتاجون إلى الإقدام على مغامرة مبايعة نبي يعلمون جيدا الثمن الذي قد يدفعونه في حال فشل الدين الجديد، إلا إذا كانوا يدركون طاقة العقيدة الشابة التي تنفخها في روح أتباعها فتحثهم على الغزو وبناء دولة يتبوؤون أعلى هرمها!
يختلط الديني بالدنيوي في هذه الرواية، لكن الصوت الدنيوي هو الغالب. من أين للأنصار أن يعلموا يقينًا أن محمدًا رسول الله حقًا وعلاقتهم به قصيرة؟ هل نبوءة اليهود تكفي؟ كيف علم البراء بن معرور أن النبي مبعوث بالحق وهو -أي البراء-، حديث عهد بالإسلام، على فرض أنه قد أسلم وأن البيعة دينية في الأساس؟ والأهم: لماذا عليهم أن يضحوا بحياتهم ويتخلوا عن مكاسب حاضرهم من أجل جنة يمكن أن يجدوها في المسيحية أو اليهودية وبثمن أقل؟
كما يستوقفنا في الرواية أعلاه اعتراض ابن التيهان الذي يعبر فيه عن خشيته مما يمكن أن يحدث في المستقبل: أن يتخلى عنهم الرسول لو أن الدين الجديد انتشر، وهو ما حدث فعلًا، لكن بعد أن تم استئصال اليهود من المدينة.
وفي رواية جابر قال: “فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة فقال: رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه؛ فهو أعذر لكم عند الله. فقالوا: يا أسعد، أمِطْ عنا يدك، فو الله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها.”
لا يحدثنا التاريخ عن معارك شرسة وحروب طاحنة بين الأوس والخزرج من جهة، واليهود من جهة ثانية؛ فهل خوف الأنصار من اليهود هو دافعهم لقطع الحبال معهم، بمبايعة محمد، أم أن طموحهم هو الدافع؟
شروط البيعة التي احتفظت لنا بها رواية المنتصر تجزم بأن البيعة كانت سياسية بالدرجة الأولى، وأن الدين يحل في مرتبة ثانوية. تقول الرواية بأن ثلاثة وسبعين رجلًا وامرأتين من الأوس والخزرج “خرجوا في موسم الحج وبايعوا النبي على نصرته في حرب الأحمر والأسود، وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وألا ينازعوا الأمر أهله، وأن يقولوا كلمة الحق أينما كانوا، وألا يخافوا في الله لومة لائم.”
هذه الشروط وردت في حديث يحتوي على بنود البيعة على نحو أكثر تفصيلا:
- تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل
- والنفقة في العسر واليسر
- وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
- وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم
- وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة.”
ستة بنود إذا أضفنا بند “ألا ينازعوا الأمر أهله”؛ أي أن لا يتدخلوا في شؤون الحكم؛ فهو للنبي وحده وقومه دون الأنصار، ولا حاجة إلى القول بأن شروطًا مثل هذه لا يفرضها إلا منتصر في حرب على مهزوم، لا يملك حولًا ولا قوة. مطلوب من الأوس والخزرج أن يطيعوا النبي في جميع أحوالهم وأن ينفقوا عليه في غناهم وفقرهم، وأن يدافعوا عنه ويخوضوا حروبًا من أجله. ومقابل هذه المكاسب الدنيوية التي سيجنيها الرسول وأصحابه يحصل الأنصار على وعد أخروي بدخول الجنة!
بيعة غريبة لا تستقيم شروطها حتى مع مفهوم البيعة بصفتها “اشتراك الرعية في الأمور السياسية الحاكمة، حتى ولو بالقليل منها.” وهذا ما يجعلني أُرجِّح أن الشروط أعلاه قد وُضعت في مرحلة لاحقة؛ بخاصة بند “ألا ينازعوا الأمر أهله”، وذلك لتبرير استيلاء المهاجرين على السلطة فيما بعد. لم يكن لمحمد وأصحابه المهاجرين سلطة أو أمر وقت بيعة العقبة، فكيف يشترطون على الأوس والخزرج أن لا ينازعوهم سلطة لا يملكونها بعد؟! ولو أن الأوس والخزرج قد بايعوا على أن “لا ينازعوا الأمر أهله”؛ فكيف طالبوا بحقهم في السلطة السياسية أو مشاركتهم فيها في اجتماع سقيفة بني ساعدة، بعد موت النبي؟؛ خصوصًا وأن الأنصار ذكَّروا المهاجرين بالدور الكبير الذي قاموا به وبتضحياتهم من أجل الإسلام؛ وهو دور لم ينكره المهاجرون في عز الصراع على السلطة!
معروف أن الأوس والخزرج اجتمعوا بعد وفاة النبي في سقيفة بني ساعدة لمبايعة سعد بن عبادة، لكن حضور أبي بكر وعمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح أفسد عليهم الأمر وأدخلهم في خلاف. والراجح عندي أن معاهدة الحماية بين الأوس والخزرج من جهة، والنبي من الجهة الثانية، كانت تتضمن مشاركة في السلطة السياسية وفقًا للصيغة التي طرحها الأوس والخزرج لاحقًا، على لسان الحباب بن المنذر: “منا أمير ومنكم أمير.” وهي صيغة قوبلت بالرفض من قبل المهاجرين، مثلما رفض الحباب صيغة أبي بكر: “نحن الأمراء وأنتم الوزراء.” قائلًا: “لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير.” بلسان حال يقول: لسنا أقل منكم!
دفاع الأوس والخزرج عن حقهم في السلطة السياسية كان واضحًا في قول خطيبهم: “فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط نبينا، وقد دفت دافة منكم، تريدون أن تختزلونا من أصلنا، وتحصنونا من الأمر.” مثل هذا الدفاع لا يمكن أن يصدر من قوم قطعوا عهدًا للحصول على مقعد لهم في الجنة، وإنما من قوم عاهدوا الرسول على حمايته وحماية أصحابه مقابل مستقبلهم كحكام لا كعبيد أو أتباع.
وما يرجح أن شروط بيعة العقبة- كما نقلتها لنا رواية المنتصر- وُضعت لاحقًا؛ هو أنها تتحدث عن حكم وسمع وطاعة في وضع كان فيه النبي خائفًا ويبحث عمن يحميه؛ فلو أن الأوس والخزرج يبحثون عن جنة لوجدوها في المسيحية أو اليهودية المزدهرتين وقتها.
البحث عن شروط الأوس والخزرج ليس سوى عتبة لسؤال أهم حددته في العنوان: هل كانت بيعة العقبة دينية أم سياسية؟ وفي سياق البحث عن إجابة؛ برهنت على وجود هدف سياسي دفع الأوس والخزرج إلى تقديم الحماية للنبي بالرغم من التبعات التي قد تجلبها عليهم هذه الحماية (البيعة). من الطبيعي وقتها أن تكون المبايعة/المعاهدة سرية وشفوية، أو متضمنة في البيعة. يؤكد هذا تركيز رواية المنتصر/المهاجرين على الجانب السياسي والدنيوي للبيعة؛ قال عمر بن الخطاب: “أيها الناس إني كنت قد قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدًا عهدها إلي رسول الله.” وقال أبو بكر مخاطبًا الأنصار: “أما بعد فما ذكرتم من خير فأنتم أهله، وما تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا.”
ما سبق يؤكد أن للأنصار هدفًا من البيعة يتمثل في مشاركة السلطة، وهو هدف برز لاحقًا بشكل واضح، بعد موت النبي، لكن غلبة المهاجرين واحتكارهم للسلطة حرمهم من هذا الحق.
كالمستجير من الرمضاء
تكشف هذه البيعة عن جانب مهم يتسم به الأوس والخزرج (من أصول يمنية) ، وهي النفعية والمرونة في التعاطي مع الأديان وتبديلها إذا كان وراءها مصلحة أكبر. لكنهم كانوا كمن يستجير من الرمضاء بالنار، على افتراض أن وجودهم في يثرب كان مهددًا. ويبدو لي أن الدموع التي ذرفوها- على إثر مقولة النبي في حقهم، بعد توزيع النصيب الأكبر من غنائم هوازن على القرشيين؛ بحجة تأليف قلوبهم- هي إضافة درامية من فعل الرواة، مثلما أُضيف لاحقًا نشيد “طلع البدر علينا“. ويمكن أن نرى في تلك الدموع تعبيرًا عن ندم بعد فوات الأوان. دموع تحولت لاحقًا إلى دماء سالت من جسد سعد بن عبادة، في عهد عمر بن الخطاب، ودماء قبلها سالت باسم حروب الردة، في عهد أبي بكر. سعد الذي وهب أمواله للمهاجرين وهم في ضيافته وحمايته في يثرب، لوحق إلى الشام فقتلوه هناك وعُلِّقت الجريمة على مشجب الجن!
كانت بيعة بالمعنى اللغوي والتجاري، بيعة رابحة لفريق دون آخر؛ لأنها قائمة على الاستقواء وإقصاء بقية الأطراف. ومن تداعيات هذه البيعة أن جُرِّد الأنصار من اسمهم التاريخي “الأوس والخزرج”، ومن اسم مدينتهم يثرب. وهي مقدمة كانت تشير إلى ما هم مقدمون عليه من تجريد لاحق لأموالهم، التي شاركوها عن طيب خاطر، كما تقول رواية المنتصر، ولحقوقهم السياسية، ووصل الأمر إلى مطاردة وقتل كل من يعترض، باسم حروب الردة.
إن كان ثمة درس ينبغي تعلمه من إعادة قراءة التاريخ ومن بيعة العقبة، ثم الاجتماع في سقيفة بني ساعدة، فهو تجنب خلط الدين بالسياسة، واعتماد صيغة أكثر ديمقراطية وتقدمية من تلك التي حدثت في السقيفة. وهي صيغة أكثر تقدمية مما تمارسه اليوم جماعات الإسلام السياسي. لم ينتصر المهاجرون عن قوة، وإنما بسبب تشرذم الأغلبية، وهو ما سيتكرر في التاريخ لاحقًا بصور مختلفة. وما يحدث في اليمن اليوم، ومنذ أكثر من ألف عام، هو من صور تشرذم الجماعة وطغيان الأقلية المتطرفة باسم الدين.
أعتقد أن ما كتبه الأستاذ رياض حمادي جدًا مفيد ومثمر ، أحسنتم .