في عام 1260 م/ 658 هـ وقعت معركة من أشهر معارك التاريخ بين المماليك والمغول؛ وهي معركة “عين جالوت”، وانتهت بفوز المماليك وصد هجوم المغول على مصر كما هو مفترض، وتأتي أهمية هذه المعركة أنها جاءت بعد عامين فقط من سقوط الخلافة العباسية في بغداد وقتل الخليفة “المستعصم بالله” سنة 1258م
كان المغول وقتها في نشوة النصر وقُرب السيطرة على الشرق الأوسط كاملاً بعد السيطرة على بلاد ما وراء النهرين كاملة، حتى جاءت الهزيمة بعد عامين فقط من انتصار ساحق، لتتوقف أحلام المغول وغطرسة زعمائها وثقة النصر التي ميزت جنودها في المعارك، والذين وُصفوا حينها بالجيش الذي لا يُقهَر، ولو تتبعنا السياق التاريخي، نجد أن معركة عين جالوت وقعت بعد 10 أعوام فقط من معركة المنصورة التي هُزِمَ فيها الصليبيون بقيادة “لويس التاسع“؛ أي كان الجيش المملوكي المصري مُكتسبا لثقة الفوز مثلما كان عليه المغول
فالمعركة إذن كانت بين مُنتَصرِين وليست انتقامًا من مهزوم لمنتصر، أو كانت صراعًا عاديًاً بين قوي وضعيف؛ بل جيشين كلاهما قوي، هذا لو اعتبرنا أن جنود مصر في معركة المنصورة لم يفارقوا الجيش الذي حارب في عين جالوت، وفي تقديري وبرغم غياب المعلومات التاريخية عن ذلك، إلا أنني أعتقد بأن قوام الجيش الأيوبي في المنصورة لا يختلف كثيرًا عن قوم الجيش المملوكي في عين جالوت لاعتبارين اثنين:
الأول: قادة معركة المنصورة كان من بينهم مماليك كالأمير “ركن الدين بيبرس البندقداري” ت 1277م، والأمير “فارس الدين أُقطاي الجمدار” ت 1254م، مما يعني حضورًا كبيرًا للمماليك في الجيش الأيوبي بالمنصورة، وهو ما لم تذكره كتب التاريخ أو تُركز عليه كثيرًا، ربما لصالح نسب انتصار معركة المنصورة للأيوبيين لتكون نصرًا مؤزرًا ومضاعفًا مع معركة حطين، في مقابل سحب انتصار المنصورة من المماليك لنفس السبب.
الثاني: الفتنة التي حدثت بمصر أعقاب موت الملك الصالح “نجم الدين أيوب” سنة 1249م جعلت معيار القوة فقط هو الحاكم بمصر، وفي ذلك الحين كان المماليك هم الأقوياء بصفتهم قادة الجيش، وكثيرًا من عناصره القريبة من بلاط الحُكم، خصوصًا وأن الملك الصالح المتوفى هو الذي أشرف بنفسه على إنشاء جيش المماليك البحرية الذين قاد بعضهم معركة المنصورة بعد موته.
ولهذين الاعتبارين لا يجب فصل معركتي “المنصورة وعين جالوت” عن بعضهما، فكلاهما حدث بنفس الزمن والأجواء والظروف والقادة والعناصر، وتسليط الضوء على هذا السياق هو أول المسكوت عنه في حديثنا اليوم عن معركة “عين جالوت“، وفي السطور القادمة سنُبحر في هذه المعركة وتحليلها من عدة زوايا.
منطقة “عين جالوت” على الأشهر هي قرية “عين حرود” الآن في الداخل الإسرائيلي، وهي كما يصفها ياقوت الحموي: ” بليدة لطيفة بين بيسان ونابلس من أعمال فلسطين، كان الروم قد استولوا عليها مدة ثم استنقذها منهم صلاح الدين الملك الناصر يوسف بن أيوب في سنة 579″، (معجم البلدان 4/ 177). وعلى هذا الوصف؛ فهي منطقة وسط بين الداخل الإسرائيلي المعروف بعرب 48 وبين الضفة الغربية ، وسيطرة إسرائيل عليها تم تغيير الاسم لعين حرود، وهو الاسم القديم لعين جالوت المذكور في سفر القضاة الإصحاح الأول 7- 8، “ومنها شرب جيش جدعون بن يواش المعروف أيضًا باسم يربعل عند نزوله لحرب المديانيين“، ونفس المنطقة كانت تسمى “عين يزرعيل” في سفر صمويل؛ حيث دارت معركة بين الإسرائيليين بقيادة “شاؤول الملك” أو (طالوت في القرآن) ، وبين الفلسطينيين بقيادة (جالوت) وانتهت بانتصار الإسرائيليين وقتل النبي داوود جالوت العملاق كما هو شائع في العهد القديم.
ومن هنا سميت المنطقة بعين جالوت من طرف الفلسطينيين والمسلمين، لكنها سميت بعين يزرعيل أو عين حرود من طرف الإسرائيليين واليهود، وكما نرى أن للمنطقة بُعدًا دينيًا كبيرًا تمثل في واحدة من أكثر القصص شعبية بين الأديان الإبراهيمية الثلاث؛ وهي قصة “طالوت وجالوت”، وبطولة النبي داوود في قتل العملاق جالوت، فصارت المنطقة بالمخيلة اليهودية رمزًا مقدسًا لبطولة العبرانيين ضد الفلسطينيين، في المقابل صارت رمزًا مقدسًا لبطولة المسلمين والعرب ضد المغول، مع الوضع في الاعتبار أن ما نسبه العبرانيون لأنفسهم بملكية عين جالوت هو خصيصة إسلامية للنبي داوود المعترف به من قبل الدين الإسلامي كرجل صالح يدعو إلى الإسلام.
نأتي لأجواء المعركة وهي بعد اكتساح المغول آسيا الوسطى وإيران، وتدمير دولة خوارزم شاة وقتل سلطانها الأخير “جلال الدين” سنة 1231 م، كان وقتها المغول في عز قوتهم بعدما نجح “جنكيز خان” في بناء إمبراطورية واسعة ورثها أبناؤه وأحفاده، فمات الإمبراطور المغولي “جنكيز خان” الشهير بتيموجين سنة 1227م وخلفه ابنه تولوي خان عامين فقط كوصي على عرش الملك الشرعي أوقطاي حتى سنة 1229م، كان تولوي قد أنجب أربعة أبناء؛ هم الذين حكموا إمبراطورية المغول واكتسحوا بها آسيا الوسطى والشرق الأوسط، والأبناء الأربعة هم (مونكو خان – قوبلاي خان – هولاكو خان – آريق بوق) وبدأ حكمهم من سنة 1251م عن طريق مونكو ثمان سنوات، ثم قوبلاي الذي دامت فترة حكمه أربعة وثلاثين عامًا، وهي من أطول فترات حكم المغول على الإطلاق.
الأبناء الأربعة لم يكونوا على وفاق، فالأخوان “مونكو خان وآريق بوق” ضد أشقائهم قوبلاي خان وهولاكو خان”، فحدثت صراعات سياسية وعسكرية بينهم اشتعلت خصوصًا بعد موت الإمبراطور مونكو سنة 1259م، وهو العام الذي سبق عين جالوت بعام واحد، ونفهم من ذلك أن انتصار المماليك في عين جالوت حدث في وقت كان فيه المغول يعانون من الحرب الأهلية لخلافة الإمبراطور الميت “مونكو”، والذي طالب بعرشه أخوه الأصغر آريق بوق، لكن هولاكو انحاز للأخ الأكبر “قوبلاي” ليملك العرش في مايو سنة 1260 م أي قبل ثلاثة شهور فقط من معركة عين جالوت التي حدثت في سبتمبر من نفس العام.
كانت الحرب الأهلية المغولية على ثلاث مسارات:
الأول: بين قوبلاي خان وآريق بوك من سنة 1260 – 1264م، وفي هذه الحرب انحاز هولاكو لقوبلاي وقرر سحب معظم جنوده من الشرق الأوسط لمساعدة قوبلاي وأبقى على حاميات صغيرة هي التي خاضت معركة “عين جالوت” ضد المماليك، ومن هنا نفسر لماذا دخل المغول هذه المعركة بعدد صغير من 10 – 20 ألف مقاتل فقط مقابل أعدادهم الهائلة التي عرفوا بها في اكتساح بغداد وبلاد الخوارزميين، علمًا بأن عدد المماليك كان أكبر من عدد المغول وفقا لتقديرات مؤرخي المسلمين؛ فقد وصل الجيش من 50 – 100 ألف مقاتل؛ مما يعني أن المماليك في عين جالوت كانوا أضعاف عدد المغول. وفي هذا الزمن كان القتال التقليدي هو المهيمن ومعايير قوة الجيوش يأتي فيها (العدد) بالمقام الأول، وقد عُرف عن المغول اكتساحهم لجيوش الخصم بهذا المعيار؛ وهو أن أعدادهم كانت ضخمة، ويشاركون تقريبًا بكل أسلحتهم ومهاراتهم التي عرف منها المدافع البدائية وركوب الخيل بمهارات لم يعرفها الشرق أوسطيون في هذا الزمان.
المسار الثاني: بين هولاكو خان وبركة خان، والأخير هو ابن عم هولاكو، كان قد أسلم سنة 1252م وحكم القبيلة الذهبية التي تعد أقوى وأشهر قبائل المغول في هذا الزمان، وحين اجتاح هولاكو بغداد ودمّرها، لم يحسب شعور ابن عمه بركة الغاضب مما حدث، فكانت النتيجة اصطفاف بركة بجانب ابن عمه آريق بوق ضد قوبلاي، وتوجيه قوته الضاربة ضد هولاكو بسبب جرائمه في بغداد ضد المسلمين، وقد بدأت هذه الحرب الأهلية سنة 1262 م في أعقاب قرار هولاكو بالانتقام من المماليك بسبب هزيمته في عين جالوت، وكان قد أعد جيشًا ضخمًا لاكتساح مصر وقتل أمراء المماليك، وتكرار ما فعله ببغداد في القاهرة، لكن بركة أخذ قراره بقطع الطريق على هولاكو بالانتقام، وكان المؤرخ الإيراني “رشيد الدين الهمذاني” هو الذي نقل دوافع بركة خان بالتصدي لهولاكو في كتابه الشهير “جامع التواريخ“
الدكتور يوسف زيدان في إحدى حلقاته التلفزيونية سنة 2018 قال مفسرًا ضعف جيش المغول وقلة أعداده؛ أن سحب هولاكو للجيش المغولي بسبب صراعه مع ابن عمه “بركة خان“. وهذا غير صحيح، لأن معركة عين جالوت كانت عام 1260م، بينما أول صراع بين هولاكو وبركة كان عام 1262 م. وحدثت لأسباب تتعلق بنوايا هولاكو الانتقامية من المماليك بعد هزيمة جيش كتبغا كما تقدم، والصحيح أن الصراع كان بين هولاكو وأخيه الأصغر (آريق) الذي تمرد على ولاية أخيه الكبير (قوبلاي) بعد موت الإمبراطور (مونكو) ، وبما أن هولاكو تحيز لولاية الكبير حسب العرف المتبع في الولاية المنغولية، تصادم مع جيش آريق في فيتنام والقوقاز. فاضطر لسحب أغلبية جيشه لقتال أخيه الأصغر، وبهذه المناسبة تحكي وثائق مكتشفة للكاتب البريطاني “بول ميفايرت” Paul Meyvaert أن سببًا آخر لسحب هولاكو لجيشه كان عرفًا متبعًا عند المغول بعدم القتال صيفًا في المناطق الحارة، وعين جالوت حدثت في آخر فصل الصيف شهر سبتمبر، يعني لو تأخرت المعركة شهرًا واحدًا – حسب كلام ميفايرت – ستكون هزيمة المماليك حتمية.
المسار الثالث: بين قوبلاي خان وكايدو، والأخير هو ابن عم قوبلاي وهولاكو الذي حكم مناطق من إمبراطورية المغول في إقليم شينجيانغ في الصين المعروف بتركستان الشرقية، وبدأت هذه الحرب سنة 1268م وظلت فترة طويلة حتى وفاة قوبلاي سنة 1294 م، وبسبب هذه الحرب ضعفت جيوش المغول في آسيا الوسطى بشكل كبير حيث دارت معظم المعارك على تخوم شينجيانغ.
من مسارات الحروب الأهلية الثلاث بين المغول، تبين أن أجواء معركة عين جالوت حدثت في ظل ضعف الجيش المغولي أولاً عن غزو مصر أو الانتقام من الهزيمة، فالتنوع السياسي والديني كان عقبة ضد المغول منعتهم من دخول مصر، برغم أنه وفي تقديري لو كان اكتساح مصر أولوية عند هولاكو لتم التضحية بمناطق في آسيا والإبقاء على جيشه في الشرق الأوسط، لكن أولوية هولاكو كانت لآسيا ضد إخوته وأبناء عمه، فالمغول كانوا يحكمون شرق ووسط آسيا والقوقاز والهند وبلاد فارس وسواحل بحر قزوين، وهذه مناطق زراعية خصبة جدًا، ومصر زراعية بجانبهم ليست مُغرية، فالمنطق إذن يقول إن الزعم بطمع التتار في خيرات مصر لا معنى له، إنما مصر بالنسبة لهم كانت معركة توسعية كأي معركة، وظروف الحرب بعين جالوت وقتها منعت من تكرار ما حدث في إيران وبغداد بمصر لظروف موت الإمبراطور مونكو خان وصراع أشقائه وأبناء عمه على المُلك.
إنما يبقى السؤال: إذا كان الجيش المغولي بهذا الضعف من حيث العدد؛ حيث يمثل 20 ألف مقاتل، مجرد حامية وليس جيشًا كبيرًا عرمرمًا مؤهلاً لغزو بلد كبير كمصر؛ فما الذي دفع هولاكو وكتبغا لخوض معركة عين جالوت وهما ضعيفان بهذا الشكل؟ هل ثقتهم بأنفسهم وأن العدد مجرد رقم في ميزان المعركة؟ أم ثقتهم في سلاحهم ومهاراتهم المتفردة؟ أم شيء آخر لم تذكره كتب التاريخ؟ خصوصًا وأن المعركة أدت لقتل القائد العام لجيوش المغول والذراع اليمين لهولاكو وهو القائد “كتبغا”.
ومن المسكوت عنه في معركة عين جالوت أن الجيش المملوكي لم يكن مصريًا؛ بل كان خليطًا من شعوب آسيا الوسطى وعبيد من الجنس القوقازي الآري الذين استقدمهم صلاح الدين الأيوبي لحرب الصليبيين. وأشهر هؤلاء هم قبائل “الكومان” و “الكيبشاك” Kipchaks الذي روى صاحب كتاب “الطرق والممالك” المؤرخ والجغرافي الفارسي “أبو القاسم ابن خردوبيه” Ibn Khordadbeh أن مناطق آسيا الوسطى في القرن التاسع الميلادي كانت تنتشر فيها قبائل الكيبشاك؛ وهي شعوب تركية سكنت في المنطقة الجغرافية الفاصلة بين أوروبا وآسيا التي عرفت “بالسهوب الأوراسية”، ثم توسعت شرقًا لتندمج وتتواصل مع قبائل المغول والصينيين، وهي المناطق التي استقدم منها صلاح الدين الأيوبي مماليكه لمساعدته في الحكم والقضاء على الفاطميين والصليبيين، وهي المناطق أيضًا التي استقدم منها الملك الصالح “نجم الدين أيوب” مماليكه البحرية لمساعدته في صد غزوات الصليبيين.
وهذه المناطق تتشابه لغاتهم وثقافتهم مع المغول حتى يظهر ذلك من أسماء ملوكهم وأمرائهم، فالمغول كان منهم أقطاي خان ابن جنكيز خان، والمماليك أيضًا كان منهم أقطاي الجمدار أحد أمراء المماليك الذين قادوا معركة المنصورة وقتل في الفتنة السياسية التي أعقبت موت الملك الصالح، حتى إنه وبعد اندماج قبائل الكومان والكيبشاك في اتحاد عرف تاريخيًا بقبائل “كومانيا” Cumania تكونت دولة بهذا الاسم خاضت معركة ضد المغول بقيادة الملك تركي “كوتن” Köten بالتحالف مع بعض القبائل الروسية، ومن هنا تولدت العلاقة بين الروس والترك لتفضي إلى تحالف عسكري ضد المغول، تمت هزيمته في نهر الكالكا سنة 1223م وهي الفترة الزمنية التي كان فيها جنكيز خان يكتسح آسيا الوسطى وإيران وشرق ووسط أوروبا.
والشاهد هنا أن مماليك عين جالوت كانت تجمعهم صلة قرابة ثقافية ولغوية وعرقية مع مغول آسيا، حتى إن أقاربهم في أوروبا كانوا يحاربون ضد المغول أيضًا بجوار الروس، وهذا يفسر سرعة استجابة الأمير “بركة خان” للإسلام ودخوله إياه لدرجة التحالف مع سيف الدين قطز للتصدي إلى هولاكو ونواياه الانتقامية مما حدث في عين جالوت، ويدعم ذلك أنه وفور هزيمة حلف “الكومان والكيبشاك” في معركة نهر الكالكا بدأت هجرات وميول الترك الكيبشاك في هذه المناطق – ممن لم يُستقدموا كمماليك في الشرق الأوسط – أن ينضموا للحشد الذهبي المعروف بالقبيلة الذهبية التي رأسها الأمير “بركة خان” في صراعه ضد هولاكو، أي أن جزءً كبيرًا من جيوش بركة لم تكن من المغول في الحقيقة؛ بل كانوا أتراكًا يشتركون في نفس العرق والثقافة والهوية واللغة مع مماليك مصر. وهذا يفتح جانبًا هامًا على أجواء معركة عين جالوت أنها حدثت في ظل أجواء؛ كان الخصم المملوكي قويًا في الشام ومصر، ومصدر قوته ليس فقط مهارته العسكرية وضعف المغول بسبب حروبهم الأهلية؛ إنما أيضًا للامتداد الثقافي الذي كان يمثله العنصر التركي في جيش المغول.
وفي كتب المقريزي إشارة لذلك حيث يحكي في كتابه “المقفى الكبير” ترجمة الأمير المملوكي “بدر الدين المنصوري” الشهير بـ “بيدرا المنصوري” فيقول المقريزي: ” أصله من المغول الذين أسروا بعد وقعة عين جالوت في حلب. فكان منهم أمّ بيدرا؛ وهو طفل تحمله على ظهرها في لباد؛ فحملت فيمن حمل إلى مصر في أيّام الظاهر بيبرس، ومن جملتهم كتبغا وهو مراهق، ففرّقهم الظاهر على الأمراء، وكان في نصيب قلاوون المرأة وابنها وكتبغا، فزوّج أمّ بيدرا لسنجر الشجاعيّ، وترقّى في الخدم بديار مصر حتى صار من جملة الأمراء أمير مجلس، ثمّ نقل إلى الاستدارية، فلمّا قبض الملك المنصور قلاوون على وزيره الأمير علم الدين سنجر الشجاعيّ، فوّض الوزارة بعده إلى بيدرا في بيوم الثلاثاء السابع عشر من ربيع الأوّل سنة سبع وثمانين وستّمائة” (المقفى الكبير 2/ 323)
والسؤال مباشرة: لو لم تكن هناك صلة قرابة أو امتداد ثقافي ولغوي بين المغول والمماليك؛ ما الذي حمل الملك المنصور قلاوون على الثقة في الأمير بيدرا المنصوري؛ وهو مغولي يفترض حسب الشائع أنه سوف يعامل معاملة الأسير؟ فلا كرامة لعبد لا ينتسب إلى شرف الأسرة المملوكية ولا قبيلتها، لا أن يترقى بيدرا المنصوري إلى رتبة أمير ووزير في عهد المماليك وهو أساسًا من المغول.
فإذا قيل إن هذا واحد له ظروفه الخاصة، وأنه استثناء لا يقاس عليه، قلت إن المقريزي حكى عن هجرات مغولية كبيرة إلى مصر والشام في عصر الظاهر بيبرس، أي بعد وقعة عين جالوت بأشهر، قال المقريزي: “وهزم التتار وأسر منهم خلق كثير صاروا بمصر والشام، ثم كثرت الوافدية في أيام الملك الظاهر بيبرس وملؤوا مصر والشام، وخطب للملك بركة بن يوشي بن جنكيز خان على منابر مصر والشام والحرمين، فغصت أرض مصر والشام بطوائف المغول، وانتشرت عاداتهم بها وطرائقهم” (المواعظ والاعتبار 3/ 385). وهنا يحكي المقريزي عن حضور مغولي كبير تمثل في فئتين:
الأولى: وهم الأسرى الذين كان من بينهم الأمير بيدرا المنصوري.
والثانية: هم الوافدون، أي المهاجرون الذين جاؤوا مع الملك بركة خان الذي حاز على ثقة ودعم خطباء وفقهاء مصر والشام، لدرجة أن يخصوا خطب الجمعة والمنابر لملك المغول القادم من شرق ووسط آسيا.
أزعم أن فتح هذا الملف التاريخي والأنثربولوجي صعب على الباحثين؛ خصوصًا من الفئة المؤدلجة التي نظرت لعين جالوت بعيون قومية شوفينية أو دينية. إذًا سيُعد انتصار المماليك في تلك الموقعة منسوبًا للتُرك في الحقيقة ولأقوام وشعوب غير عربية، بعد أن ترسخت في الأذهان عين جالوت وحطين أنها معارك وانتصارات عربية من أثر السينما في الستينات وإلى اليوم بسلسلة أعمال فنية أشهرها فيلم ” وا إسلاماه” و “الناصر صلاح الدين”.
كذلك ما قد يفتحه هذا الملف من جرائم طائفية وقع فيها المماليك ضد المسيحيين بعد عين جالوت، وأشهر ما كتب في ذلك ما خطه الإمام شمس الدين الذهبي في تاريخه تحت عنوان “الانتقام من النصارى“، ويحكي فيه انتقام قطز وبيبرس من المسيحيين بعد معركة “عين جالوت”؛ حيث قال: “وجاء الخبر بالنصر، فطار الناس فرحا وثار بعضهم بالفخر الكنجي فقتلوه بالجامع، لكونه خالط الشمس القمي، ودخل معه في أخذ أموال الجفال، وقتل الشمس بن الماكسيني ، وابن البغيل، وغيرهم من الأعوان، وكان الثكل على النصارى لعنهم الله من أول أمس، لرفعهم الصليب وغير ذلك، فأسرعوا إلى دورهم ينهبونها ويخربونها، وأخربوا في كنيسة اليعاقبة، وأحرقوا كنيستهم الكبرى؛ كنيسة مريم، حتى بقيت كومًا، وبقيت النار تعمل في أخشابها أياما. وقتل منهم جماعة، واختفى سائرهم ونهب قليل من اليهود، ثم كفوا عنهم لأنهم لم يصدر منهم ما صدر من النصارى، وعيد المسلمون على خير عظيم والحمد لله” انتهى. (تاريخ الإسلام للذهبي 48/ 62).
لاحظ جرائم قطز وبيبرس (قتل المسيحيين، نهب وتخريب ديارهم، حرق الكنائس) سيقول قائل: ولكن هذا لسبب سياسي لما صدر من النصارى بحق جيش المسلمين، قلت: فما ذنب ديارهم يخربونها وكنائسهم يحرقونها؟ عندما يقرأ الشيوخ هذه النصوص يأخذون منها المعنى وهو (الانتقام والكراهية) ، ثم يعممونه لبخس حقوق الأقليات، بحجة أن السلف فعل ذلك. ويمكن عبارة (الحمد لله) للذهبي التي ختم بها تلك الجرائم أن تشرح كل شيء.
وهذا يعود بنا لأصل من أصول التحليل السياسي والتاريخي؛ وهو أن تطبيق فكرة الأخلاق والدين على الصراعات السياسية والعسكرية لا معنى له، فالناس بالحروب لا تهتم بالأخلاق أو الدين؛ بل يتصرفون وفقًا لمصالحهم الذاتية، لكن يضعون في ذات الوقت أن الأخلاق والعدالة هي سبب الحروب كمبرر ليس إلا، وفي علم الاجتماع يسهل إيجاد السبب والمبرر للكراهية والحرب. هذا في وقتنا إلى اليوم الذي يفترض أن تحكمه شرائع دولية ومؤسسات أمم متحدة ومجلس أمن تضبط المسألة، ما بالنا بالماضي الذي لم يكن فيه هذا الحُكم المركزي للعالم معروفًا، ومن ثم فكل مملكة وإمبراطورية تتوسع على حساب أختها دون ضابط ورقيب من دين وأخلاق؛ فقط إذا امتلك أحدهم القوة لا يتردد في الهجوم طمعًا في الغنائم، وعلى هذا الأساس ينبغي أن نفهم معارك الماضي، ومن ضمنها عين جالوت بالطبع. فلو كنا معتقدين أن طرفيها يحاربون دفاعًا عن دين وأخلاق؛ سنكون مخطئين، وبالتالي قد وقعنا في فخ الأدلجة التي تملأ كتب التراث والتاريخ في تناولها لهذه الأحداث.
مما يكسبنا نحن أوهامًا فوق أوهام؛ حتى تصطدم بنا جميعًا فوق صخرة الواقع، وهذا المقال جزء من تصور واقعي لعين جالوت فيه محاكاة تاريخية وسياسية وعسكرية لأوضاع حدثت قبل 800 عام، ولولا النقد من خارج الصندوق وعدم تقديس الفقهاء والمؤرخين لما نجحنا في صياغة هذا التصور الذي أزعم عدم قدسيته، أو أنه يحوي مسلمات وثوابت لا يجوز نقدها والاعتراض عليها، فقبل أن أكون مفكرًا بالتاريخ والفلسفة أيضًا؛ فأنا محلل سياسي أرى أن الملوك قديمًا وحديثًا يتصرفون وفقا للمبدأ البراجماتي ولا يهتمون بقصص الدين والعدل والأخلاق إلا كأسباب ومبررات تقنع أنصارهم لزوم الحشد وتعبئة الجيوش، وأن الملوك كانوا – ولا يزالون – يحاربون دفاعًا عن السلطة والثروة، فكلاهما سبب أصيل للقوة اللازمة للحُكم والنفوذ، ولو تطلب الأمر أن يعتدوا على جيرانهم فلن يترددوا إذا رأوا فيهم ضعفًا وتمردًا في ذات الوقت.
كل كاتب او مؤرخ حتما ينحاز الى انتماءاته ولمن بوالي فليس كل ما يقال صادق.