كنت أتناقش مع أحد الأصدقاء الشيوخ المهتمين بالفلسفة، قال إن كلمة الفيلسوف الفرنسي “رينيه ديكارت” غبية وهي (أنا أفكر إذن أنا موجود)؛ فقد اعترف بوجوده مرتين قبل إثباته ذلك، المرة الأولى حين قال (أنا أفكر)؛ فثبوت الأنا هنا تكون مصادرة على المطلوب، ولا تصلح كدليل ونتيجة في ذات الوقت، والمرة الثانية حين قال (أنا موجود)؛ فاتصال الأنا الثانية مع الأولى يعني أنه يتحدث عن شخص واحد في الحقيقة وليس اثنين؛ فالأنا الأولى لديكارت هي نفسها الأنا الثانية؛ فكيف يجعل الأولى دليلا على الثانية؟
قلت: هذا فهم خطأ للكلمة، ولم يكن هذا مقصود ديكارت، وسوف أشرح الكلمة التي تعبر عن مضمون وجوهر فلسفة الرجل في عدة سطور. وفي البداية قد لاحظ ديكارت أن العقل اللاهوتي القديم (الإسلام، المسيحية، اليهودية) عندما كان يريد الجمع بين العقل والدين؛ فهو يفعل ذلك بناءً على نصوص دينية، فوضع ديكارت فرضية؛ وهي أن ما فعلوه لا يرتقى لمرتبة اليقين المطلق، وأن ما قالوه يبقى مجرد احتمال ظني لسبب وحيد؛ هو أن النص الديني، قد يكون خاطئًا، وهو هنا لا يحاكم النص الديني في ذاته، لأن ديكارت كان مؤمنًا مسيحيًا؛ بل كان يُحاكم أفهام وزيادات البشر على الدين الأصلي، وقد اعترف بذلك صراحة في كتابة “مقال عن المنهج“، فيكون ما فعله الكهنة في عقل ديكارت كان عبارة عن وهم، كمثال أن أحدهم يدعي أنه (يعبد الله)، فالسؤال الذي يطرح نفسه؛ هل عبادتك هذه عن يقين عقلي مطلق؟ أم أنه مجرد التزام بنص ديني؟ فكان الجواب: أن ما يفعله المؤمنون دائما هو التزام بنص ديني عُرضة للخطأ، وبالتالي فعبادتك ليست يقينية.
رأى ديكارت أن أولى شروط اليقين هو (شعور الفرد بوجوده)؛ فأنت تشعر بالجوع، ليس لعدم وجود طعام؛ بل لأنك بعيد عن الطعام، فالطعام موجود وتشعر أنه موجود، لكنك لا تحصل عليه، كذلك عقلك موجود وتشعر أنه موجود، لكنك لا تستعمله، وهنا كان جوهر فلسفة ديكارت؛ أن عقلك موجود لكنه مُعطّل بفعل النص، وسكون العقل عند ديكارت يعني أن الإنسان مجرد آلة وليس إنسانًا عاقلاً يفترض أنه متدين، فالإنسان المقلد عند هذا الفيلسوف هو كالآلة الصناعية لا يشعر بوجوده، وهناك أطراف أخرى دائمًا تتحكم فيه ومستسلم لها تمامًا، فكانت أولى شروط الإحساس بوجودك هو أن تفكر ولا تستسلم ولا تنقاد للآخرين.
قاعدة ” أنا أفكر إذن أنا موجود” أحدثت ثورة في الفلسفة بعدما أدت إلى فصل النص الديني عن العقل، وجعلت قضية إثبات الله قضية عقلية بحتة مرتبطة بالتفكير، وهنا ديكارت لا يهتم بنتيجة بحثك العقلي، أصبت أم أخطأت، لكنك في النهاية شعرت بوجودك ما دمت مفكرًا، والنتيجة النهائية لديك هي (يقين) ، وما أحدث اللبس في عقول طلاب الفلسفة أحيانًا وبعض العوام، أن ديكارت مشهور بالفلسفة الشكية، فكيف كان يبني يقينه وهو دائما يشك؟ والجواب: أن شكوكية ديكارت كانت ضد طريقة القدماء في الاستدلال على الله، أي أن شكّه في عمومه كان موجهًا ضد النص الديني، لكن تطور المنهج لاحق للشك في كل شيء؛ حتى العلم.
علمًا بأنه يوجد نظير لفلسفة ديكارت عند المسلمين في فرقة (المعتزلة) ، فهم كانوا يفكرون بنفس الطريقة، وهي تقديم العقل على النقل دائما، وأن الضامن لسلامة النقل هو إخضاعه لصريح العقل، وعندما جاء الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانط” المتوفي عام 1804م ضرب هذا المنهج بإثباته قصور العقل البشري عن تصور الميتافيزيقيا، وبرغم أنه أثبت قصور العقل عن تصور الله ثبوتًا ونفيً،ا لكنه لم يضرب قاعدة ” أنا أفكر إذن أنا موجود”، فبقيت القاعدة واشتهرت بمصطلح الكوجيتو cogito ergo sum، وصارت مبدأ عقلانيًا تميز به ديكارت وخُلّد في التاريخ بسببه، حتى اعتبر ديكارت هو الفيصل بين زمنين؛ قديم وحديث في التفكير، برغم أن جذور هذا الفكر كانت عند القاضي المسلم “أبي الوليد بن رشد” المتوفي عام 1198م في كتابه “فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال” الذي قال فيه باستحالة خلق الله شريعة الناس وهي مخالفة لعقولهم.
وقد عبَّر ديكارت عن معتقد ابن رشد هذا بكلمات موجزة في كتابه التأملات، إذ قال “من المُحال أن يضلني الله، إذ إن في الخداع أو الغش نقصًا، ولئن يكن يبدو أن استطاعة المخادعة من علائم البراءة والقوة، فلا جرم أن تعمد المخادعة دليلاً على الضعف والخبث، وهما أمران لا يمكن أن يوجدا في الله” (التأملات في الفلسفة الأولى صـ 178).
رينيه ديكارت هو فيلسوف فرنسي ولد عام 1596م وتوفى عام 1650 م، وقد نشأ نشأة دينية جعلته يثور في مرحلة لاحقة على تلك النشأة، وينتقد معالمها الكبرى، فقد تعلم في مدرسة “لافليشي” La Fliche الدينية المنتمية آنذاك للمذهب اليسوعي المسيحي، وبرغم تخرجه فيها سنة 1612 وحصوله على شهادة الليسانس؛ إلا أنه لم يكن راضيًا عما كان يدرسه، ويراه مجرد تقليد للأقدمين، ولأن شهادته كانت في الفلسفة والرياضيات؛ فقد امتلك عقلاً رياضيًا ساعده على نقد التصور المثيولوجي القديم في الربط بين العقل والدين بناء على التزام أسلافه الحرفي بالنص الديني، حتى أنجز فلسفته الخاصة التي وصف بها بـ (أبو الفلسفة الحديثة).
علما بأن عصر ديكارت شهد ثلاث ثورات على الفكر القديم، لكل منها طبيعة خاصة، الثورة الأولى، وهي: الاكتشافات العلمية التي ظهر بها “جاليليو جاليلي” المتوفي عام 1642م و”نيكولاس كوبرنيكوس” عام 1543م و “جوردانو برونو” المتوفي عام 1600م، وغيرهم ممن ظهروا باكتشافات علمية جديدة تقول بكروية الأرض ومركزية الشمس ودوران الأرض حولها، وأن كوكبنا ليس إلا مجرد كوكب بسيط ضمن مجموعة كبيرة من الكواكب والأجرام السماوية المشابهة لطبيعة كوكبنا، ولا شك أن هذه الاكتشافات العلمية كانت صادمة للعقل الديني، مما دفعه للانتقام بقتل وحرق “جوردانو برونو” وتهديد “جاليليو” بنفس المصير، وأن على البشرية إعادة فهم النص الديني والشك في الموروث.
أما الثورة الثانية وهي: فلسفة الإنجليزي “فرانسيس بيكون” المتوفي عام 1626م، والتي عرفت “بالتجريبية العلمية”، وهي قائمة على الثورة الأولى بالاكتشافات العلمية، وتبني عليها فكرًا متكاملاً لرؤية الكون بمنظار الحقيقة والواقع، لا بمنظار التصور والميول، ولتوضيح ذلك؛ فما قام به “فرانسيس بيكون” أنه أعاد الجوهر والأصل للواقع الحسي، وأنه يجب أن ننطلق من الأشياء نفسها لا من تصوراتنا عنها، فقد كان يَعتقد – بناء على الاكتشافات العلمية – أن تصوراتنا عن الأشياء مجرد وهم خادع لن نصل فيه إلى شيء، وأن الحقيقة يلزمها أن نكون واقعيين أكثر بالانطلاق من الشيء نفسه ودراستنا له عن طريق (الملاحظة والتجريب) ، وقد أدت فلسفة بيكون العلمية لاحقًا في إنجاز علمي وحضاري هائل، نجح فيه الإنسان باختراع المحركات ووسائل النقل الحديثة والثورة الطبية والاكتشافات المختلفة في علوم الكيمياء والفيزياء والفلك والبيولوجيا، إلخ.
أما الثورة الثالثة وهي : فلسفة ديكارت التي تقوم على الفصل بين العقل الحر وبين النص الديني، وإعادة الاعتبار للتفكير البشري بوصفه القادر على علاج أخطائه بنفسه، ومن أشهر تلك الأخطاء هو “خطأ الحواس“؛ فمن خلال ما نراه من تلك الثورات الثلاث تبين أن أكبر مشكلة كانت تواجه الإنسان القديم هي “خطأ الحواس“، والذي كان يدفعه لبناء تصورات خاطئة عن الواقع والتعامل معها بشكل خطأ، ومن تلك الجزئية كانت الثورات الثلاث رافضة “للمنطق الأرسطي” باعتباره الحارس والدرع للتصور الديني والفكري القديم الذي كان يعتمد عليه كهنة الأديان في المزج بين العقل والدين، أو بين العلم والدين، ولأن المنطق الأرسطي ينطلق من تصورات الإنسان المثالية عن الأشياء التي قد تعوقها أخطاء الحواس عن المعرفة أو قصور العقل الذاتي الذي كان يؤمن به كافة علماء وفلاسفة البشرية منذ عهد اليونان، فبرغم تقديم العقل والتفكير عند بعضهم، إلا أنهم كانوا يُسلّمون بقصور العقل ذاتيًا وعدم إمكانية المعرفة الكلية، وهذا ما دفعهم لتبني قواعد ومبادئ أخرى مكملة للعقل في الوصول وأهم تلك المبادئ والأطر هي (النص الديني).
أما عن كتاب التأملات؛ فهو أهم كتاب لديكارت على الإطلاق، قال فيه بالتفريق بين الإدراك والخيال، الذي هو عمدة ثورته على الفلسفة القديمة، حينما رأى علماء اللاهوت في أوروبا يخلطون بينهما، بمعنى أن إدراك الإنسان للسماء مثلاً كان يُوحي له خياله بأشياء يعتقدها حقيقة بعد ذلك، وهذا كان مصدر ضلالات القدماء وأساطيرهم حين تخيلوا السماء جسدًا منحنيًا كما عند الفراعنة بالإلهة “نوت“، ولو أسقطنا ذلك على الإسلام؛ فخيال الفقهاء تصوروا به قصة المعراج والصعود من سماء لأخرى على شكل سلالم رأسية مثلا، هنا ديكارت وصل للداء وعرف من أين تأتي الأسطورة، فإدراك الإنسان للنص الديني يجب أن يكون بالعقل ليس بالخيال، والفارق بينهم أن العقل له ضوابط في التفكير محكومة بالحس كمصدر معلومات أول بخلاف الخيال الذي عن طريقه نرى أي شيء غير موجود، أو نصنع به الأكاذيب.
كان رفض ديكارت لمناقشة الدين بالخيال معتمدًا على تساويه بالحس، يعني أنه كما أن الحس يخطئ أحيانًا؛ فالخيال أيضًا يخطئ، وضرب مثالاً على ذلك بتخيل الإنسان للوحوش وعرائس البحر، فكما أن الإنسان أخطأ في إيجادهم بدون وجود حقيقي أصاب في تركيبهم من أعضاء حسية، كالرأس والذيل والجسم وغيره، يعني الحس هنا مصدر الخيال، وبالتالي مقولة لا وجود حقيقي لما لم يوجد في الحس غير صحيحة بالمطلق، أو كلمة حق يراد بها باطل، لأن خيال الإنسان، كما أنه قادر على تصور المحسوسات، فهو قادر أيضًا على تركيبهم ودمجهم في صور غير حسية.
وباختصار؛ فديكارت يرى أن الفارق بين العقل والأسطورة هو الفارق بين الواقع والحُلم، ولأننا في عالم واقعي يجب أن يكون العقل هو أساس التفكير، لأن التسليم بالخيال والانطباعات الشخصية يؤدي للخرافة والكذب، وأثبت ذلك بتجربة الحلم أثناء النوم ورؤية الإنسان لأشياء يظنها حقيقة وقتها، لكن عندما يصحو من نومه يكتشف أن كل ما رآه مجرد حلم غير حقيقي رغم تفاعله وقتها مع الأحداث، وبالتالي؛ ما الضامن لك أن كل ما تراه الآن وتتيقنه حقيقي بنفس المنطق؟ فما يقوله بأن تسليم الإنسان لخيالاته وإدراكاته الحسية هو أصل الكذب على الله والناس، وبطريقة غير مباشرة طعن ديكارت في إيمان الكنيسة، فالمطلوب إذن كما شككت في أحلامك أثناء نومك أن تشك في معتقداتك في اليقظة.
أما مصدر رفضه للمنطق الأرسطي، أنه وبعد الاطلاع عليه من خارج الصندوق الديني، وجد ديكارت أن هذا المنطق مجرد مقياس على جودة (صورة) الكلام، لا جودة الكلام من أصله، وقد شبّهت ذلك في محاضراتي الفلسفية بأن منطق أرسطو يشبه “ميزان المياه” الذي يستعمله البناؤون لرؤية استقامة الحائط، لكن هذا الميزان لا يهتم ولا يثبت ولا علاقة له بجودة الحائط أساسًا من حيث البناء والتكوين والمادة، وبالتالي فمادة الكلام عند ديكارت مختلفة عن صورته، وهذه الجزئية التي أشكلت على علماء اللاهوت، وظنوا أن مجرد استقامة حديثهم منطقيًا لهو إشارة على جودة هذا الحديث علميًا، وفي تقديري أن هذه الجزئية أشكلت أيضًا على علماء اللغة المسلمين الذين اعتقدوا بكفاية اللغة العربية لمعرفة الحقيقة تعويضًا عن المنطق الأرسطي، ولذلك رفضوا هذا المنطق، ومن هؤلاء “ابن تيمية الحراني” المتوفي عام 1328م
وحجة هؤلاء منها: أنه لو كان المنطق ميزانا أو معيارًا لصحة الكلام أو ميزانًا بين الحق والباطل، لاتفق كل العاملين به على رأي واحد، لكننا نرى من يعمل بهذا المنطق الأرسطي وهم مختلفون بشدة لدرجة التكفير، فابن سينا والكندي والفارابي وابن طفيل وابن رشد، وغيرهم عملوا بالمنطق، بينما الغزالي ومعظم علماء الأشاعرة والماتريدية عملوا أيضا بالمنطق، وبرغم ذلك حدث خلاف كبير وصل لحد تكفير الغزالي لابن سينا والفارابي، وردود ابن رشد على الغزالي مشهورة، والصراع ما زال قائمًا ما بين طرق الفلاسفة المشائيين المسلمين، وما بين علماء الأشاعرة والماتريدية، برغم أن كليهما يعملان بالمنطق.
ومن تلك المرجعية ظهر تيار فلسفي داخل الفكر الإسلامي يطلب مراجعة “علم الكلام” أو “اللاهوت الإسلامي” لقيامة بالأساس على معيارية المنطق الأرسطي، ولأنه متصل بصورة وتمثلات النص الديني في أذهان الفقيه، وهي بالقطع تمثلات وصور ذهنية نسبية مختلفة من شخص لآخر، نتج عنها انشقاقات وصراعات عبثية داخل الفكر الإسلامي، هي عارض للخلط بين “الشك واليقين”؛ فكلما شك فقيه ظن أن شكوكه يقينيات يصلح أن يقام بها الدليل، بل هي مجرد شكوك واحتمالات وظنون لا ترقى لمرتبة الدليل، ولعل ما فعله ديكارت هنا هو الذي أعاد الاعتبار لليقين وميزه عن الشك في مخيلة الباحثين بنسبة كبيرة، فاليقين هنا لا يصبح يقينًا لو حصل على رجحان الأدلة بنسبة 99%؛ فتكون النسبة الباقية 1% دليلا على عدم بلوغ اليقين، وأن ما وصل إليه الفقيه مجرد شكوك غلب بها الظن ليس إلا.
لكنه وضع شروطًا لحصول اليقين، وأن الطريق الأسلم لبلوغ ذلك هو بالتفكير الحر أو العقل المجرد غير الملتزم بنصوص عليا، والسر في ذلك أن التفكير الحر هو أكثر الطرق احترامًا للدليل والميل لمناقشته بحيادية وتجرد، بينما إذا وضعنا النص الديني معيارًا، سوف يدخل الباحث هذا المعترك الفكري بخلفية مسبقة تم الاصطلاح عليها مؤخرًا “بالأحكام المسبقة” أو “الانحياز التأكيدي“، وهي من أمراض الفكر التي ميزت طريقة تفكير القدماء حين كانوا يضعون نصوصهم الدينية كمعيار على صحة وسلامة معارفهم، والذين يظنون أن تلك الطريقة سوف تؤدي للإلحاد قطعًا، هذا غير صحيح؛ فالأكثرية التي اتبعت هذا المنهاج كانت مؤمنة بالأديان، وأشهرهم “ديكارت نفسه” المنتمي للمذهب اليسوعي الكاثوليكي، وقديما “ابن رشد” المنتمي للمذهب المالكي السني، وغاية ما فعلوه هو إعادة الاعتبار للعقل والثقة فيه والبحث في الكون بتجرد مثلما فعل ذلك ديكارت في كتابه “التأملات“، وصياغة منهجية وكيفية بحثه في كتابين آخرين “قواعد لتوجيه الفكر” و”مقال في المنهج“، بينما ابن رشد فعل ذلك بكتابه “الآثار العلوية“، وما يميز ديكارت هنا أنه وضع منهجيته وطريقته في كتب منفصلة، بينما ابن رشد كان مهتما أكثر بشروح أرسطو والفقه المالكي.
من ناحية أخرى؛ فإن ديكارت وضع شرطًا آخر للعلم؛ وهو (وضوح المفهوم) أو (بداهته)؛ فكل مفهوم واضح هو علمي، وكل شيء بدهي مُسلّم به يصلح كنقطة انطلاق أو دليل في ذاته، فهو اعتبر – كمثال – أن مسألة وجود الله (بدهية)، وفي كتاب التأملات تحدث عن هذه البداهة كثيرًا بتلك العبارات “أعتقد أن النفس الإنسانية لا تستطيع أن تعرف ببداهة ويقين أكثر مما تعرف وجود الله” صـ 178، 206 وقال أيضا: “الفكرة التي لدي عن الله أصح ما بذهني من أفكار، وأكثرها وضوحًا وتميزًا” صـ 155 وقال أيضا عن أدلة وجود الله أنها: “أوثق وأبين ما يمكن أن يقع للذهن الإنساني من معرفة” صـ 60، أما في مقالته عن المنهج قال نفس الكلام بعبارة أخرى: ” كون الله الذي هو هذا الموجود الكامل موجودًا، هو على الأقل مساوٍ في اليقين لخير ما يمكن أن يكون برهانًا هندسيًا ” صـ 160.
فالحقيقة عند ديكارت هي التي يجب أن تتصف بالبداهة والوضوح كعلامة على تميزها وتمتعها بالكمال، لذا فكل مفهوم غامض، أو ليس مشروحًا بما فيه الكفاية، لا يصلح كدليل علمي أو لا يتصف بالحقيقة اليقينية؛ بل مجرد شكوك عند صاحبها تخضع للمناقشة والاحتمالات، وهو هنا ينطلق من قاعدة العقل أو التفكير الحر ليس من قاعدة العلم التجريبي الذي كان يهتم به “فرانسيس بيكون” والعلماء المكتشفِون من قبل، وبرغم تعارض ذلك مع ما وصل إليه العلم الحديث من بداهة وحجية التجريب؛ إلا أن تصور ديكارت لأصالة العقل على العلم كان وجيهًا – عنده – من ناحيتين:
الأولى: أن العلم التجريبي قبل ديكارت تغير كثيًرا وكان محكومًا بنظرة وميول رجال الدين والمكتشفِين أحيانًا، فأول ما فكر الإنسان بالعلم التجريبي، كان علماء الفلك في الحضارات القديمة، وفي المرحلة الطبيعية باليونان التي بدأها طاليس وفيثاغورث وديموقريطيس، وغيرهم، فالعناصر الأربعة (الماء والهواء والتراب والنار) التي قال بها اليونان، وصل طاليس أن أصلها جميعًا هو الماء بناء على ملاحظته التجريبية، في أن الماء ضروري لحياة كل الكائنات، وأنه قادر على الحركة والتغير، وبما أنه أساسي للحياة وقادر على الحركة والتغير؛ فهو الجذر الحقيقي والمكون لكل العناصر، وفي الحقيقة أن هذه القناعة اختفت تمامًا بالاكتشافات العلمية التي حصلت في الثورة الأولى التي تحدثنا عنها على يد جاليليو وكوبرنيكوس وغيرهم، الذين وصلوا باكتشافاتهم أن هناك أفلاكًا وكواكب تشبهنا، وأن حيوات أخرى محتملة لا تعرف الماء الذي نعرفه، وحديثا صدق ذلك برؤية الإنسان للذرات والخلايا، وأنها الأصل في تكوين وطبيعة كل المواد.
الثانية: أن العلم قد يأتي بالخيال وهو رافض لهذا الخيال بالأساس، ويرى حجية العقل وهيمنته على ما سواه، فلو كان الخيال حجة، كان النص الديني حجة أيضًا، وبذلك يتساوى النص الديني مع العلم، وهو هنا لا ينكر حقيقة العلم وواقعيته، لكنه يرفض أن يكون هو الأصل والمصدر الذي ينطلق منه في البحث، ولربما اطمأن ديكارت إلى أن العقل والتفكير الحر هو الأساس لبلوغ العلم، ومن ثم لا نضع العربة أمام الحصان، فالعقل والتفكير الحر هو الذي أوصل جاليليو وكوبرنيكوس لاكتشافاتهم، ولولا أن هؤلاء تحرروا من سلطة النص الديني وكهنوت الكنيسة، ما امتكلوا الشجاعة على البحث أو الإعلان عن اكتشافهم بقلب جريء في مجتمع يرى أن مجرد القول بما يخالف شروحات الكهنة للكتاب المقدس هو “هرطقة” تستحق العقاب بالحرق والقتل.
وفي تقديري أن ديكارت هنا كان براجماتيًا؛ فهو لم يتصادم مع الكنيسة من جهة عدم اهتمامه بعلوم من سبقوه واكتشافاتهم الصادمة، ومن جهة أخرى أنه لم ينكر الإيمان المسيحي، بل حاول الاستدلال عليه بطريقة مختلفة أكثر قوة ورسوخًا ، حتى إن طريقته كانت – ولا تزال – مصدرًا ودليلاً عند المؤمنين في إثبات وجود الله، وعلى معقولية الدين المسيحي من جهة أخرى عند أصحابه، وفي قوله بكمال الله وبداهة وجوده كدليل عقلي يستند إليه، كان قريبًا جدًا من فكر الفيلسوف المسلم “أبي حامد الغزالي” المتوفي عام 1111 م، والذي اعترض على الأرسطيين حين قالوا بأزلية العالم، من جهة أن اعتراف الأرسطيين بكمال الله وقدرته يلزمه الاعتراف (بإرادته) ، ومن ثم فالقادر هو مُريد بذاته، فلو كان الكون أزليًا انتفيت عن الله صفة الإرادة التي تجعله يخلق ويُوجِد العالم متى أراد، ورينيه ديكارت هنا كان قريبًا من إيمان الغزالي برغم اختلاف البنية المعرفية ومنهجية كل منهما في الطرح.
ونقطة الخلاف هنا بين الغزالي وديكارت أن الأول يقول بأن العقل المجرد والتفكير الحر لا يصلح لبناء عقيدة، وأن مجمل ما سوف يصل إليه هو مجرد “ظنون واحتمالات” ليس “يقينًا” ثابتًا هو شرط من شروط الإيمان، لكن ابن رشد يرد على الغزالي في هذه النقطة بكتاب “تهافت التهافت” بأن العقل الصريح لا يتصادم مع الدين الصحيح، وقد كتب كتابًا كاملاً يثبت فيه تلك الحقيقة صار مرجعا للرشديين من بعد، وحلقة تواصل بين الفكر التنويري الأوروبي ومذهب ابن رشد العقلي، وهذا الكتاب هو “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال“، ومجمل ما وصل إليه ابن رشد صاغه ديكارت بطريقته الفلسفية الأعمق والأكثر شروحًا في كتبه الثلاثة التي أشرنا إليها منذ قليل وهي “التأملات ” و “القواعد” و “مقال في المنهج”.
والغريب أن طريقة ابن رشد وديكارت هنا وافقها “ابن تيمية الحراني” في كتابه “موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول”، مع إثبات أن منقول ابن تيمية ليس هو منقول ابن رشد، لذا حدث الخلاف بين المالكية والحنابلة، وخلاف آخر بين مدرستيّ العقل والنقل في الفكر الإسلامي، ففي العصر الحديث يتبع المقلدون طريقة ابن تيمية الحنبلية في الفقه والعقيدة ضد المالكية الذين يغلب عليهم المذهب الأشعري، ويتبعون أيضًا مذهب النقل الروائي ضد المذهب العقلي الشكوكي، وإلى ذلك خلصت المعركة حاليًا في الفكر الإسلامي بين هاتين المدرستين اللتين تتصدران معظم منابر المسلمين وفضائياتهم وكتبهم وصراعاتهم المتكررة على السوشال ميديا.
وما حدث من صراع بين مدرستي “ابن تيمية وابن رشد” يصحح كثيرًا من وجهة نظر ديكارت في بناء فلسفته الخاصة بناء على العقل الحر دون قيود دينية؛ حيث – وفقًا لمذهب ديكارت – أن كُلّا من ابن تيمية وابن رشد دخلا معتركهما البحثي بناء على ميول مسبقة ونص ديني مختلف عليه بالأساس، وتمثلاته في الذهن نسبية للغاية لا يمكن أن تصبح دليلاً بدهيًا يصل لحد اليقين، وأن مجمل الصراع الذي حدث بين الفقيهين المسلمين، هو صراع عبثي على أحقية (ظنون واحتمالات) ، كل منهم ضد (ظنون واحتمالات) الآخر، وهنا يتبين جانب هام من ديكارت الفيلسوف، أنه لم يضع فلسفة خاصة ومتكاملة في الواقع؛ بل مجرد طريقة ومنهج للمعرفة لا غير، وعنوان كتابه “مقال في المنهج” يشرح بطريقة شخصية كيف وصل لهذه التأملات العقلية ومقصوده للشك وفكرته عن الوجود بالمجمل.
وأخيرًا: ما فعله ديكارت هو قطيعة معرفية عن طرق التفكير البشرية القديمة، لذلك حصل على هذه الشهرة الواسعة التي حصل عليها أمثال “كوبرنيكوس” و “آينشتاين”؛ فالأول أحدث قطيعة معرفية عن علم الفلك القديم الذي كان يقول بمركزية الأرض، والثاني ثار على الفيزياء القديمة لنيوتين بنظريته الجديدة في النسبية، ولكل زمن أعلامه وظروفه الخاصة، فمثلما ظل أرسطو هو حجة العقلانيين وكثير من المؤمنين عدة قرون، يأتي ديكارت الآن ويصبح حجة هو الآخر للعقل والإيمان بطريقة مختلفة عن أرسطو، لذا أجدني متعاطفًا مع من يضع (أرسطو وبيكون وديكارت وكانط وآينشتاين) كأعظم علماء وفلاسفة البشرية، لما أحدثوه من تغيير مؤثر جدًا على حركة التفكير والعلم، ولا نضع الأديان في هذا السياق، لأن قوامها البحث الميتافيزيقي والإيمان بالغيب؛ وهي طرق بشرية في الوصول مختلفة آمن بها معظم هؤلاء.
ولعل أبرز الانتقادات الموجهة لديكارت أنه وبرغم رفضه للمنطق الأرسطي الصوري بغية الوصول لطريقة أخرى أكثر واقعية، لكنه ظهر في الأخير كمجرد “مفكر صوري”، هو المقابل “للتجريبي”، وهذه التي يتبناها التجريبيون ضد ديكارت ومدرسته الفكرية، ويرون أن مدرسة ديكارت أنتجت مدارس أخرى خرافية – وفقًا لتصورهم – كمدرسة هيجل، وأن المجد الدائم للعلم بغض النظر عن تقبلنا ورفضنا لهذا المجد من عدمه، برغم أن ديكارت لم يرفض العلم، لكنه سلك طريقًا آخر لإثباته عن طريق العقل والتفكير الحر، لكن ظلت طريقة تصوره للحياة وإيمانه بأصالة التفكير الفطري ومركزية العقل هي محل خلاف له مع التجريبيين الذين ينطلقون من مساحة أخرى، وهي مركزية الأشياء وعدم إعطاء مساحة كبيرة للتصور عنها لما لمسوه من أخطاء عظيمة وكثيرة جدًا لهذه التصورات.
ولماذا يتناسى التجريبيون موقف ديكارت من نظرية كوبرنيكوس التي شهد وول ديورانت أن ديكارت اعتبرها “قضية بدهية مسلم بها” في موسوعته قصة الحضارة؟ (1/ 12799) ، وبالتالي هي تتساوى مع بدهيات ومسلمات أخرى انطلق منها ديكارت، كقضية وجود الله، مما يدل على إيمان ديكارت بالعلم التجريبي، وأن طريقته ليست إلا مجرد طريقة أخرى للوصول إليه أكثر إبداعًا وتأصيلاً من نواحي الفكر.
أما أبرز الانتقادات الموجهة لديكارت، فمصدرها المؤمنون بالأديان دون تفرقة؛ فهم ينطلقون من مرجعية نصوصهم الدينية وهيمنتها على ما سواها، وبرغم إيمان ديكارت بالمسيحية ومناقشته لتلك المرجعية فلسفيًا؛ إلا أن حجية العقل كانت وستظل موضع خلاف بين المؤمنين والديكارتيين لما سوف يؤدي إليه ذلك الخلاف من تعميق النظرة الشكية وتمرد المفكرين والشباب على رجال الدين، ولسبب آخر يتعلق بما نادى به ديكارت بضرورة توضح المفاهيم وعدم قبول الغامض منها، فالتوضيح يلزمه تبسيط، وهي عملية غير محدودة في العقل سوف تصل بالمؤمن للسؤال عن حقيقة الوجود، وما يتبعه في ذلك من شكوك حول معنى الحياة وخلافه، مما أوصل البعض للعدمية؛ فالديكارتية أحيانًا لدى المؤمن تساوي العدمية، خصوصًا وأن فلسفات حديثة كثيرة ظهرت “كالتحليلية” طوّرت المذهب الديكارتي وجعلته أكثر عمقًا، وهي الفلسفة المهتمة بتكسير الكليات إلى جزئيات، وفصل المفاهيم عن بعضها وإعادة الاعتبار للغة في صنع المعتقدات كسبيل لإثبات الوضوح.