في وطننا العربي تربينا على عبارة مفادها أن هنالك ثلاثة تابوهات لا يجب الاقتراب منها: السياسة، والدين، والجنس، رغم أن هذه الموضوعات جزء لا يتجزأ من حياتنا، ودورها مهم إذا لم تكن الأهم في التأثير في تكوين شخصيتنا؛ حيث إنها تشتبك بشكل مباشر مع تفاصيل حياتنا اليومية، وفي طبيعة التربية التي نتلقاها في البيت وفي المجتمع بشكل عام. وعند الحديث بشكل مخصص عن التابوه الأخير؛ وأعني الجنس، نلاحظ أن الحديث حوله أكثر حساسية مقارنة بالسياسة والدين بين أفراد الأسرة الواحدة، فضلاً عن مناهج التعليم. قد يكون عامل الخوف من إرهاب السلطة السياسية والدينية، أو تجنب الخلافات هو الدافع خلف تجنب الحديث حول السياسة والدين، ولكن هذا في كل الأحوال لا ينطبق على الجنس.
الحديث حول الجنس محرج للوالدين عندما يتلقون بين حين وآخر سؤالاً فضوليًا من أطفالهم، وكذلك نجد المعلم في الفصل يتخطى أي فكرة تتعلق بالجنس بشكل سريع لكي يتجنب الأسئلة الفضولية من الطلاب، والتي هي أصلاً طبيعية وبديهية. فضلا عن غياب مناهج الثقافة الجنسية في المدارس في الوطن العربي بأكمله حتى وقتنا الحاضر. في عام 2019، كانت هناك سابقة لوزارة التربية التونسية، عندما أعلنت إدراج التربية الجنسية في المناهج الدراسية، وستكون موجهة للطلاب التي تتراوح أعمارهم ما بين 5 – 15 عامًا، ولكن للأسف ما زال القرار حبرًا على ورق.
في مواطن، دائما ما كنا نناقش موضوعات السياسة والدين دون النظر لها كخطوط حمراء وتابوهات يجب تجنبها. ناقشناها بأشكال مختلفة، ومن زوايا متنوعة؛ بيد أن مؤخرا، قررنا أن نلقي الضوء بشكل مكثف على التابوه الثالث: الجنس. وكما فعلنا دائمًا مع موضوعي السياسة والدين، كذلك فعلنا مع الجنس؛ حاولنا تجاوز الخطوط الحمراء التي سورها المجتمع كالجدران تحيط بأي موضوع يتعلق بالجنس، لعلنا نستطيع ولو بشكل بسيط أن نحدث ثقوبًا في تلك الجدران ليتسرب من خلالها الوعي بقضية مهمة متداخلة بكل تفصيل من تفاصيل حياتنا. في الواقع، وكما يعلم الجميع، الجدران التي سورها المجتمع لم تمنع فضول الناس من اعتلاء تلك الجدران، للتعرف على ماهية الجنس وكل ما يتعلق به، بدءً من فضول الطفولة إلى الحاجة التي لا مفر منها.
مع مرور الوقت كل حسب طبيعة تلك التجارب يبني وعيه الخاص بالجنس وكل ما يتعلق به من قضايا؛ بيد أنه وعي أتى نتيجة تجربة مرتبكة غير صحية؛ فإن نتائج ذلك قد تكون وخيمة على شخصية أي إنسان؛ فتؤثر سلبًا على بعض سلوكياته وقناعاته. ولأن المرأة هي دائما العنصر الأضعف في معادلة أي مجتمع ذكوري، وهذا هو حال مجتمعنا؛ فإن المرأة كانت دائمًا هي الضحية الأولى من أي تخلف في الوعي يأتي نتيجة ضعف الثقافة الجنسية ومستوى انضباط وصحية الوعي بها.
حجم وطبيعة إشكاليات جهل الثقافة الجنسية في المجتمع ذكوري عامة، والطريقة غير المنضبطة وغير الآمنة التي يتم التعرف بها على هذا العالم خاصة، لا تنحصر عواقب تأثيرها على الحياة الزوجية وقضايا أخرى تتعلق بفترة البلوغ فحسب؛ بل إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير؛ وخاصة على المرأة. نجد المرأة عنصرًا فاعلاً ومؤثرًا في حديث الجنس والشرف، وفي حديث الجنس والشتيمة، وحديث الجنس وعدالتها بالرجل، وحديث الجنس وحرية قراراتها. وهنا بكل التأكيد لا أعني أن المرأة هي في حد ذاتها الفاعل في هذه القضايا؛ بل عنصر المرأة كجسد. جسد المرأة دائمًا حاضر في معجم الشتم عند الرجل
لأن شرف الرجل مرتبط بالمرأة، وبتحديد أكثر؛ بين فخذيها. ولا يمكن أن تتساوى المرأة بالرجل؛ ليس لأنها أضعف جسديًا من الرجل؛ حيث إن في الكثير من الحالات التي يستدعى فيها موضوع العدالة بين الجنسين، ليس لقوة الجسد عامل مؤثر، ولكن لسبب آخر كامن في أعماق الرجل؛ في طريقة رؤيته للمرأة كمجرد جسد مفعول به، وهذا يعني أنه لا يمكن أن تكون المرأة فاعلاً متمكنًا قادرة على القيادة والتأثير. هذه النظرة القاصرة لا يمكن أيضا فصلها عن قضايا أخرى مرتبطة بدور المرأة في المجتمع، وقضية أخرى لا تقل أهمية؛ وهي قضية تسليع المرأة.
المجتمع الذكوري لم يكن أنانيًا فقط على مستوى حرية المرأة الجنسية، التي دائمًا ما نظر لها بعين الفجور والعهر، وفي ذات الوقت يغض النظر عن حرية الرجل، ولكن أيضًا وجد من المسوغات الكثير لكي يعطي الذكر حق تعدد شريكات الجنس ويرفضها بشكل قاطع على المرأة. بل وصل الأمر أبعد من ذلك؛ حينما رفض هذا المجتمع أن تتطرق المرأة لتابوه الجنس بكل أشكال التعبير؛ مثلما يتطرق الرجل دائمًا؛ معللاً ذلك أنها لا يمكن أن تعبر عن ذلك إلا لو كانت معها تجاربها الخاصة، وهو ما يرفضه المجتمع بكل تأكيد؛ فالرجل إذن لا يعيبه أن يحكي عن مغامراته الجنسية، ولا تعيبه هذه المغامرات في حد ذاتها، وكل العار يقع على المرأة الناشز على الأعراف الذكورية فقط. ومن أبرز من ناقش قضايا الجنسانية والمرأة في وطننا العربي الكاتبة البارزة د. نوال السعداوي، التي كانت هي الأخرى ضحية، وفي فوهة مدفع المجتمع الذكوري لعدة عقود؛ خاصة بعد نشر كتابها الذي حمل عنوانًا ومضمونًا جدليًا: المرأة والجنس.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن مباشرة: ماذا لو كان مؤلف الكتاب رجلاً؟ هل كان سيثير حفيظة هذا المجتمع؟ أو على أقل تقدير بنفس المستوى؟! الواقع الذي نعيشه يجيب على نفسه؛ لا يمكن أن ينكر عاقل اضطراب الميزان الأخلاقي لدى المجتمع الذكوري؛ فلا يسقط هذا المجتمع نفس المعايير على جسد الرجل كما يسقطها على المرأة. والسعداوي كانت واعية جدًا لهذا الواقع؛ ليس فقط في كتابها عندما أشارت لذلك صراحة: “أن المقاييس الأخلاقية التي يضعها المجتمع لا بد أن تسري على جميع أفراده بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو الطبقة الاجتماعية“؛ بل أيضا انعكس على شخصيتها بشكل جلي. لم تكن فقط جرأتها في الكتابة ما أثار حفيظة المجتمع الذكوري، ولكن حياتها بشكل عام التي كانت ترجمة لكل ما تنادي به.
بيد أن من الصعب القول بإن الرجل ليس ضحية هو الآخر أيضًا لضعف الثقافة الجنسية الآمنة التربوية التي يجب أن يتلقاها من وقت مبكر من حياته، التي قد تسبب معه حالة عصاب اتجاه قضايا الجنس وما يتعلق بها؛ مما يتولد عنه نتائج خطيرة على المجتمع؛ تتمثل في ممارسات عدة غير سوية؛ مثل التحرش والاغتصاب، والنظرة الدونية لجسد المرأة، والقائمة طويلة جدًا. ومثل ما تؤكد سعداوي في الكتاب ذاته: “الجهل لا يعني بالضرورة غياب المعلومات، فترويج المعلومات الخاطئة هو أشد أنواع الجهل، وقد يكون من الأفضل للإنسان أن يواجه الحياة بلا معلومات على الإطلاق، على أن يواجهها بمعلومات خاطئة تفسد فطرته وذكاءه الطبيعي“.
الرجل أيضا ضحية؛ لكن الأصعب هو القول بإن المرأة هي ليست المتضرر الأول من هذا العصاب العام نحو قضايا الجنس. المرأة هي الحلقة الأضعف في المجتمع الذكوري دائمًا، ولذلك هي الضحية الأولى. من هذا المنطلق سيركز هذا العدد بشكل أكبر على قضية الجنس وتداعياتها على المرأة.
*مقدمة ملف “الجنس رؤية نسوية“