لا شك أن الانتخابات الكويتية، وكعادتها مؤخرًا، بعد انفصالها عن العراقة البرلمانية والتشريعية والدستورية إبان ستينيات القرن الماضي، بسبب نتائج ما بعد تحريرها من الجار العراقي، بدخول ملفات البدون والفساد والسرقات، ومنهج الدولة السلطوي في الحكم والإدارة على خط الانتخابات والتشريع وتوزيع مناصب الدولة، أصبحت انتخابات جديرة بالشفقة والضحك، وكشف الحال والواقع الرث.
فالانتخابات المزمع عقدها في نهاية شهر سبتمبر الحالي، قدمت حتى اليوم صورة لا تختلف عن مثيلاتها من العهد القديم، كما يحلو أن يطلق عليه البعض، بل أصبحت انتخابات اليوم أشد رغبة للمرشحين في الوصول إلى كرسي البرلمان، لما يمثله من عصا سحرية وبوابة إلى النفوذ والسلطة والمال والجاه إلى سابع عائلة.
فما الخلل الذي وقعت فيه السلطة أو بأقل التقديرات، الحكومات الكويتية المتعاقبة، في أن تكون انتخابات الكويت علامة على فسادها وليس على تقدمها، ومؤشرًا على أن الديمقراطية قادرة على إصلاح شعب من دول العالم الثالث، وليس على أن الديمقراطية الكويتية، كما يعايرنا بها بعض المثقفين من دول الجوار، بأنها لا تصلح لمجتمعات قبلية دينية ذات مستوى منخفض تعليميا وفكريًا وحضاريًا؟
لا شك أيضا أن الإجابة على مثل تلك الأسئلة عميقة وخطيرة، ولا يريد أحد أن يضع لها النهاية أبدًا. هنا، وحتى نقدم صورة تبعدنا عن السجون وغياهبه، وعن التحقيقات ولؤمها، علينا أن نفكر بشكل عقلاني، يدعونا إليه فلاسفة التنوير والأخلاق في أن تكون إجاباتنا ذات مغزى عميق، وذات فهم أكبر، وموجهة بالطبع لمن يريد الإصلاح ما استطاع إليه سبيلاً.
لا يمكن بالضرورة حتى نكشف العلة، أن نغفل عن تراخي المجتمع الكويتي بفئاته، منذ تسعينيات القرن الماضي، بتمسكه فوق المواطنة، بهويات الدين والمذهب والقبيلة والمال السياسي، ولهذه الأسباب والقصة، مواضيع أخرى وصناديق سوداء مرعبة.
نقول، بأن الانتخابات البرلمانية الحالية، وبعد رحيل أمير الكويت السابق، واعتلاء الأمير الحالي نواف الأحمد سدة الحكم، مع سابقة تاريخية، بإعطاء صلاحيات واسعة وكبيرة لولي عهده الأمير مشعل الصباح؛ نقول، وبحسب ما تتواتر عليه الأخبار وسلوكيات ومنهجية رئيس الوزراء المعين، سمو الشيخ أحمد النواف، ابن أمير الكويت، نقول بأن الساحة السياسية والمشهد السياسي لا يزال -رغم قرب الاقتراع-، مشهدًا ضبابيًا، مع وجوه جديدة طامحة، وأقطاب عتيقة أحياها العهد الجديد، وأطروحات ساذجة بتحرير فلسطين، وإسقاط القروض وحل قضايا الكويت قاطبة بتطبيق الشريعة وتحجيب النساء، أو بحل مشكلة البدون أو بإعطاء النساء كوتة رسمية لدخول مجلس الأمة التاريخي.
ويتخلل كل هذا الكرنفال -بحسب مقولة النفيسي- وعد الحكومة والسلطة بالابتعاد عن المشهد السياسي الديمقراطي، وإعطاء الشعب الكويتي، وربما هي الفرصة الأخيرة، في أن يحسنوا اختيارهم، وأن يضعوا أصواتهم في صناديق الاقتراع بشكل صادق هذه المرة، بعيدًا عن المحسوبيات والمال والمصالح الضيقة.
فهل هذا الأمر يكفي لبناء كويت وردية ومثالية وصالحة للتحضر؟ وهل فعلاً أن العهد الجديد، والروح الواثبة المتقدة في إصلاح الخلل وإيجاد الحلول، وفتح أبواب الوزارات للمواطنين قادرة على القضاء على فساد الكويت وتراجعها؟
لا يمكن حتمًا التنبؤ بإجابات هذه الأسئلة، ليس لصعوبتها، وإنما لأن الكويت وشعبها تطبق المثل القائل “هذا سيفوه وهذي خلاجينه“، وربما -وهذه مقولة صعبة- أن البعض قد استساغ هذا الفساد، وعاش معه وكبر من خلاله وأصبح ثقافة شعبية لها حواضنها ودعاتها ومشروعيها وكهنتها.
ورغم أن هناك بعض الأطروحات التي نشعر بأنها صادقة ومخلصة، ورغم محاولات البعض لإنقاذ الكويت وشعبها، إلا أن مثل تلك الأطروحات سرعان ما تذوب في الماء والهواء، لأنها لسبب أساسي، أن غالبية الشعب لا ينظر لها بصدق وإخلاص وحسن نية؛ فهناك دائمًا قصة مخفية وأهداف أخرى ومصالح شخصية ومال سياسي قذر؛ فأغلب من يترشح، وينجح بقوة وجدارة، سرعان ما يقلب ظهر المجن لمن انتخبه، وبعضهم ينسى مصالح الشعب ويبدأ بتكوين ثروته وثروة عائلته، وبعضهم الآخر يدعم طائفته ومذهبه وقبيلته وفاسديه.
هنا يصبح لزامًا علينا أن نشير إلى أن الخلل مشترك، والجريمة متكاملة الأركان، والديمقراطية كمفهوم سياسي وتقاليد عريقة، وأداة لتشريع القوانين وتطورها، بريئة براءة الذئب من دم يوسف؛ فلم تشهد الديمقراطيات القديمة والحديثة في الدول العلمانية، مثل هذه الترهات والآفات التي يعيش عليها غالبية الشعب الكويتي، ولم تعانِ من أن تكون النعل والعقال والسباب والشتائم وسيلة لبلوغ الأسباب وتشريع القوانين والدفاع عن الحريات والعدالة، ولم نشهد بالطبع دعوات تطبيق الأديان والدفاع عن الخونة والقتلة والفاسدين؛ فلم نسمع في الديمقراطيات العريقة سوى محاسبة الرؤساء والفاسدين وتشريع ما يهم المواطن والبلد والأقليات والمرأة وحقوق الإنسان والطفل والحيوان والبيئة، واستقالة الحكومات لأسباب بسيطة تتعلق بمتطلبات الشعب ورفاهيته وعدالته.
لم نشهد في مجتمعاتنا العربية سوى ديمقراطيات متهالكة فاسدة ينخرها الدين والمذهب والقبيلة، لتشكل ديمقراطيات عبثية فاسدة، يصل إلى كراسيها السراق والفاسدين والرعاع بلباس الفضيلة والتقوى والوطنية والقومية.
ما يعاني منه المشهد السياسي، وما تحتاج إليه الديمقراطية الكويتية حتى نستطيع أن نقول بأن لدينا ديمقراطية نامية متطورة، يحتاج المجتمع المدني إلى إطلاق الحريات، وخصوصًا حرية الرأي والتعبير والاعتقاد، كما لا يمكن أن تنجح وتتقدم ديمقراطية دون أن يكون هناك أحزاب سياسية منظمة، وهيئة رقابية مستقلة عن الحكومة لمتابعة الانتخابات وعملياتها المختلفة، كما يجب أن يكون هناك بالتأكيد مراقبة وتعديل لقانون الانتخاب، بما يضمن السلامة العقلية للمرشح، والجدارة العلمية والمهنية والفكرية للمرشح.
كما وأن الخطوة الحكومية بتعديل بعض مواد الانتخاب عبر البطاقة المدنية، هو جهد ومرحلة لتأكيد الشفافية والابتعاد عن مسألة شراء الأصوات المزمنة التي علقت بذاكرة الشعب الكويتي لعقود طويلة، وهي خطوة يجب أن يلحقها خطوات أكبر وأعمق. وربما، الخطوة الأهم والنقلة النوعية لوضع الديمقراطية الكويتية في مسارها الصحيح، هو في تدريسها كقيم حقوقية في المدارس ومنذ النشأ الصغير، وتمثيل الديمقراطية في المدارس والجامعات ومجالس المناطق وغيرها في مؤسسات الدولة والمجتمع، وصياغة قوانين تحمى الشباب من ظلم الأهل وقسوتهم وحرمان أبنائهم من حق الاختيار والإرادة.
كما لا يمكن أن نتغافل بضرورة وتأكيد النية الصادقة والرغبة الأمينة للسلطة في أن تكون الكويت منطلقًا جديدًا للتقدم، وليس فقط لإحياء ماضي درب الزلق وأوبريت السندباد الخ، أن تكون الكويت منارة فكرية ثقافية حضارية، لا تقف عند ثوابت أهل اللحى والمذاهب ولا تقاليد القبليات المتناحرة البالية، أن تكون الكويت ذات دستور جديد يطمح ويتغير لمزيد من الحريات والعدالة والمساواة. فما لدينا من دستور وقوانين أصبحت عالة على الزمن الحديث، ولعنة تطارد أصحاب الكلمة، ومن يخرج من القطيع.
إن الكويت بمسؤوليتها الديمقراطية، والمختلفة اختلافًا كليًا عن دول الخليج، لن تحيد عن الديمقراطية، فهكذا تكلم أمراء الكويت، ولن تبتعد عن تاريخها وهويتها وجيرانها؛ فالكويت استطاعت -رغم صغر حجمها- أن تكون المثال الدال على حرية الأوطان من عبث الغزو والتدمير، والمثال الكامل على الرغبة الشعبية بمواصلة النجاح والتمسك بالدستور وأسرة الحكم وطريقة الحياة الكويتية.
الديمقراطية قبل أن تكون أداة سياسية، وصندوق اقتراع، ووصول رئيس إلى حكم دولة؛ هي في الأساس ثقافة عقلية، ووسيلة يعيش ويتفاهم بها الإنسان، مع نفسه ومع من حوله؛ فحين نصل إلى هذا الفهم، هنا نستطيع أن نقول بأن الكويت ديمقراطية ليبرالية حداثية.