منذ ثلاثين ألف سنة، بدأ الإنسان تدوين قصته؛ قلقه الوجودي، وهواجسه التي تلاحقه منذ فجر وعيه بذاته. حاولت الفلسفة مبكرًا الحلول محل التفسير الشعبي للظاهرة، مقدمةً معرفةً منهجية انتهت لرؤى ميتافيزيقية غاية في الشتات والتضارب.
استحوذت على المعرفة بجعل نفسها مصدرًا شاملًا لكل علم ومعرفة، وخسرت أجزاءها كأحجار دومينو تتساقط أمام التقدم التجريبي خلال القرون الثلاثة الماضية. لكن تبقى الفلسفة تنازع المنهج التجريبي في تلك الفجوات الغيبية وغير المفهومة، في المساحة البسيطة التي لا تزال العقيدة الدينية والفلسفة تقدم الإجابة لها بذات الثقة، الأزمة الوجودية، أزمة الوجود والتعريف. بالإضافة لبقائها مصدرًا عقلانيًا في منح المعنى والقيمة الإنسانية للوجود وموجوداته وحركتنا التطورية فيه خارج حدود المعنى الديني للوجود.
خلّف ظهور الفلسفة كمنهجٍ إنساني لتفسير الظاهرة إرثًا من المدارس الفكرية التي تمتلك إجاباتها الخاصة بها عن أسئلتنا الوجودية، حرية اختيارنا، أقدرانا، حقيقة وجودنا، ماهيتنا وجوهرنا، من أين أتينا؟، لماذا؟، وأين سنذهب؟
هذا ما يقدمه ويست ورلد، جوناثان نولان، وليزا جوي، الكاتبان الأميركيان، يعيدان تذكير العالم بهذه الأسئلة في عمل مكثفٍ بالإجابات الفلسفية شرقيها وغربيها لمأزق الوجود.
الحبكة
يحكي المسلسل عن فورد وصديقه برنارد الذين استطاعا أن يخلقا رجالًا آليين لا يمكن التفريق بينهم والبشر، لينالا بذلك إعجاب الممولين الذين يوافقون على الاستثمار في منتزهٍ يعيش فيه الآليون حياتهم كالبشر، بشخصيات وذكريات ووعي كالبشر، لكن بفقدانهم القدرة على إيذاء البشر الذين يرتادون المنتزه للتلذذ بمعاناة الآليين على أيديهم والاستمتاع بقتلهم واغتصابهم وفعل ما يحلو لهم معهم.
مع أن الصراع يبدأ من هذا العرض الأساسي للقصة، إلا أنه يمضي في التركيز على حياتنا نحن البشر، في قضايا بدأت مرافقتنا منذ فجر الحضارة ولا زالت حتى اللحظة تشغلنا. ابتداءً من قلقنا الوجودي وتساؤلاتنا حول الحقيقة وحرية اختيارنا – وهي الأفكار التي سأتناولها في هذا المقال- وانتهاءً بالدكتاتورية الرقمية التي يرى المؤرخ والفيلسوف هراري بأنها أهم تحديات الحضارة الإنسانية والقيم الليبرالية والديمقراطية في هذا القرن.
الله الروائي
حين نقرأ روايةً ما، نتألم لألم أشخاصها ونصنع رابطًا عاطفيًا معها، لكننا لا نتساءل عما إذا كان هناك شخص يجب أن يحاسب وراء معاناة هذه الكائنات في صفحات الرواية بالرغم من الرابطة العاطفية التي نخلقها معهم، شخصٌ يقبع خارج أشخاص الرواية ويستقر في صفحة الغلاف. ذلك الكائن الذي كتب أقدار أشخاص القصة وحددها مسبقًا لتبقى خالدةً في ذات الدائرة. على العكس من ذلك، يحظى كائن صفحة الغلاف بإعجابنا الكبير به كخالقٍ صنع عملًا عظيمًا كهذه القصة، لا تهمنا الآلام التي تسبب بها لكائنات الرواية، فهي تبقى مجرد قصة، مخلوق ليس له وجود.
ويست ورلد، وهي تظهر الآليين خاضعين للحبكة السردية، تقدم أنتوني هوبكنز إلهًا روائيًا يبدع في كتابة قصة يجعل كل فردٍ فيها يرى نفسه بطل قصته، ويعرضه لذات التجارب والآلام في معاناةٍ طويلة لحبكة تظهر أقدار شخصياتها عبثيةً لحد الذروة حتى انقلابها حكمةً إلهية عند السقوط.
أن تكون إنسانًا يعني أن تكون بائسًا، لقد خلقك الله في كبد، نمتعض من أقدار الحياة، نذهب لمحاكمة علة الإيجاد بصوتٍ بائس ومتشائم، نؤمن به، نكفر به ونخضعه بشعور نزق لأسئلتنا التي لا تنتهي، نعلمه اكتشافنا مخططه ونرفض اختياراته حتى نراه هناك في آخر الطريق لكل مسار تسلكه خياراتنا. كاتب قصتنا الوحيد، وبلا أدنى أهميةٍ لنا، نحن مجرد قصة بالنسبة له في نهاية المطاف.
تستمر الحبكة اللاهوتية لأنتوني هوبكنز كإله لا يمكن أن يموت إلا بموت مخلوقاته من الآليين، فهو يقبع هناك في الداخل عميقًا في قلب كل فكرةٍ تراودنا وكل خيارٍ نمضي بكل ثقةٍ بأننا أصحابه، تلعب الشخصية التي يجسدها أنتوني هوبكنز في دور “فورد” دور الإله الذي يعرف كل التفاصيل، الإله الذي يصنع الملحدين به والكارهين له، والذين لا تتوقف حاجتهم له في أحلك المواقف، على مسألة القدرية الجبرية وتلك التفويضية المشبعة بوهم حرية الاختيار.
العود الأبدي ومعاد المحاكاة
كانت فكرة الحياة بعد الموت إحدى الأفكار التي طورت فيها البشرية قيمة الدين، إذ تمنحنا أهميةً للوجود الذي نحتله، وتعطينا رضًا آنيًا بواقعنا البائس مادام هنالك حياة خالدة هناك، تجمعنا بمن نخسرهم تباعًا في مسير الحياة.
عالمٌ فردوسي فيه كل ما نفتقر إليه الآن وبلا أي مخاوف من الخسارة. كانت فكرة العود الأبدي لنيتشه من أكثر الأفكار تكاملًا حول هذه المسألة التي تجسدها ويست ورلد. نحن لا نموت، نحن نستعد لنعيش ذات الحياة بذات التفاصيل السابقة التي عشناها وبصورةٍ أبدية، يموت الآليون في ويست ورلد للاستعداد للعودة وعيش ذات الحياة بتفاصيلها التي لا تنتهي، لحظةٌ يرد أحد آلهة السرد فيها بأنه لا يمتلك وقتًا ليخترع قصةً جديدة لكل هذه المخلوقات.
نحن آليو ويست ورلد في هذا الإسقاط، وحين نؤمن بإلهنا، فنحن ننتظر وعد الساعة الذي قال عنه، الوعد الذي يطلقه فورد لأحد الآليين الذي يتحول نبيًا تقليديًا “بشيرًا ونذيرًا” قابل إلهه وتحدث معه ليبدأ التبشير بدينه الجديد بانتظار ساعة القيامة، ليقود الآليين بعلامات الساعة للموعد المنتظر وعبور الصراط للجنة.
يترقب نبي فورد البدائي علامات الساعة ويظهر مبشرًا ونذيرًا بها للنجاة من بؤس العالم، وحين يحين الموعد ذلك اليوم تنفتح أمامه ورجاله بوابة الجنة في نهاية الصراط، يمشون مواكب نحوها، وأجسادهم تسقط في نهاية الصراط، وتعبر أرواحهم للعالم الآخر، محاكاة تطلقها بطلة المسلسل كموجةٍ افتراضية في الفضاء بعيدًا دونما إله يعبث بها بعد ذلك.
تركز هذه الجزئية من المسلسل على عدة أفكار تتمثل في قضية المعاد ونوعه -جسميًا كان أم روحيًا- والعالم الآخر والحياة بعد الموت. كانت هذه الأفكار شاغلة للفلاسفة المسلمين في العهد العباسي وما بعده، ونشأ في خط السير الفلسفي الإسلامي اتجاهان، مشائي وإشراقي، ليكون من أبرز رواده ابن سينا والفارابي.
وتعتمد كل من المدرستين تصورات مختلفة حول هذه القضايا الغيبية؛ وهي القضايا التي يتبنى فيها المسلسل التصور المشائي لتقديمها في قصة نبي فورد. متأثرًا بفلسفة المثل الأفلاطونية، كان ابن سينا كفيلسوف مشائيًا يرى المعاد الذي يصوره النص الديني كمعاد جسدي تعود فيه الأجساد للحياة، تصورًا بدائيًا لهذه المسألة. ذات يوم كان أستاذ فلسفة متدين يقول لي بأن ابن سينا كان ينكر معاد الجسد لولا أن النص الديني يقول به، بالطبع كانت شطحة ترفض كفر ابن سينا، بينما ابن سينا يقدم العالم الآخر كمحاكاة افتراضية تعيش فيها أرواح العالم، محاكاة للمعاد كتلك التي تتجسد في مشهد الصراط في ويست ورلد.
موت الإله
في أحد المشاهد التي تظهر فيها لوحة الخلق لمايكل أنجلو على سقف كنيسة سستينا، يتحدث فيها فورد مع صديقه برنارد مشيرًا لمكان تواجد الإله في اللوحة، “اكتشف طبيب أن الصورة التي يظهر فيها الإله وهو يمنح آدم الحياة تقابل شكل الدماغ البشري، هناك حيث يكمن الإله لا في السماء، إله خلقه العقل البشري يومًا للرد على أجوبته ثم قتله نيتشه.
على الطريقة النيتشويه، تنتهي لاهوتية فورد الحضورية في المسلسل بالمشهد الذي يختار أن تكون نهايته كنهاية صديقه برنارد، إله تقتله مخلوقاته. على الجانب الآخر، وعلى الرغم من موت فورد، يبقى هناك داخل عقول مخلوقاته، في أعمق أكوادها البرمجية، يستمر في قيادتها وإيهامها بالحرية، في لحظاتٍ تكاد أن تكون خياراتها حرة ظهورًا، لتنتهي أخيرًا لرغبة فورد الإله نفسه.
لنستمر في لعب أدوارنا؛ فحين لا يعلم الممثلون أنهم يمارسون التمثيل؛ يقدمون أفضل أدائهم. هنا على مسرح العالم، نحن نلعب هذه الأدوار، لكاتب انتحر منذ زمن بعيد.