في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، شهدت عمان نهضة عمرانية عظيمة، وعملت على تشييد عدد كبير من المساجد في السلطنة تحت اسم المساجد السلطانية، بلغ عدد هذه المساجد 36 مسجدًا، وبجانب تلك المساجد الحديثة في السلطنة امتلكت عمان تاريخًا فريدًا كذلك من المساجد الأثرية والتراثية، التي عبرت بشكل جلي عن هويتها الثقافية والدينية الفريدة والمتميزة. فما أهم المساجد العمانية وأنماط معمارها؟
المساجد القديمة
دخل الإسلام عمان مبكرًا، وذلك في عهد النبي في القرن السابع الميلادي، ظل الإسلام مستقرًا في عمان على مدار سنوات طويلة، إلى أن ظهر الإباضي الذي نشأ في البصرة وانتقل إلى عمان عن طريق قبائل الأزد، ومنذ تلك اللحظة وعمان إباضية المذهب.
انتشرت المساجد انتشاراً واسعاً وكبيراً في عمان “لم يبق هناك من قرية أو حي في مدينة إلا وشيد بها مسجد صغير أو كبير، يؤثر في حياة الجماعة الروحية منها والاجتماعية”. حسب إيروس بلديسيرا أستاذ الأدب العربي بجامعة البندقية وصاحب كتاب الكتابات في المساجد العمانية القديمة.
مثلت المساجد الإباضية في عمان نمطاً مختلفاً ومغايراً عما كان سائداً في العالم الإسلامي آنذاك، فلم تكن كمساجد القاهرة أو بغداد ودمشق، بل كان ذات نمط محلي عبر عن هوية الإباضية وعقيدتهم التي تستند إلى الاحتكام إلى أوامر الله وعدم التبديل أو التغيير فيها.
لذا كان من اللافت للنظر تمامًا أن تجد المساجد الإباضية القديمة التي انتشرت في أرجاء عمان، تخلو من المعالم المعمارية التي لحقت عمارة المساجد بعد موت النبي.
حيث شدد المذهب الإباضي على عدم تزيين المساجد أو زخرفتها بشكل يخالف الشريعة؛ مركزًا على صنع نماذج شبيهة بالمسجد النبوي الذي أسسه النبي في المدينة؛ فلا تجد فيها محرابًا مجوفًا بتجويف عميق يظهر من جدار القبلة أو مئذنة عالية أو قبة مركزية، أو أية زخارف ميزت الواجهة أو المدخل، فضلًا عن اختفاء الفسيفساء التي انتشرت مؤخرًا مع بزوغ الخلافة الأموية في دمشق واقتباسهم لها من الإرث البيزنطي.
كانت المساجد الإباضية بسيطة المنظر والهيئة، غير معقدة هندسيًا أو مركبة معماريًا، فقط مساحة مربعة أو مستطيلة، حسب ما توفره المساحة لدى المهندس، محاطة بأربعة جدران بسيطة المنظر، أنشئت موادها البنائية من المواد الخام التي توفرها الطبيعة في عمان؛ فقد استخدم الصاروج الطيني كمادة أساسية ورئيسة في البناء، لذا تعامل معها الرحالة والمؤرخون الذين كانوا يزورون عمان على أنها بيوت سكنية وليست مساجد.
عبر مسجد بيت المقحم في حارة الفلج بولاية بوشر عن هذا المفهوم تمامًا، وهو مسجد قائم بجانب بيت المقحم الخاص بالسيدة ثريا بنت محمد بن عزان، التي عاشت في القرن الثاني عشر الهجري، قامت تلك السيدة بإنشاء هذا البيت، وكذلك أقامت معه هذا المسجد.
وهو عبارة عن شكل مربع المسجد من التفاصيل المعمارية المذكورة؛ فجدار القبلة مسمط دون أي تجاويف أو زيادات بخصوص المحراب، لكن يمتلك المسجد ما يطلق عليه “بومة” وهو عبارة عن قبة صغيرة فوق سطح المسجد، يخرج منها للإصلاح والترميم، لا يختلف مسجد بيت العود كثيرًا عن هذا المسجد التاريخي الأنيق، ومسجد بيت العود القائم بقرية الخوض القديمة في ولاية السيب بالسلطنة، والذي يجاور القلعة التي سميت بنفس الاسم، يعود تاريخه إلى أكثر من 3 قرون؛ فالمسجد مربع وبسيط التكوين غير معقد، لكنه يضم برجًا في أحد جوانبه، وشبابيك عالية مرتفعة تبرز موقعه التاريخي ضمن القلعة.
مواضيع ذات صلة
في ولاية نزوى تلك الولاية التاريخية التي كانت عاصمة لعمان في إحدى فترات تاريخها الرئيسية، يقع أحد أهم المساجد التاريخية في السلطنة كلها، فعبر ميدان الوادي الأبيض إلى السوق القديم وسط المدينة نحو حي “سعال” الذي تميز بأزقته الضيقة، تصل إلى المسجد الجامع، الذي يطلق عليه تاريخيًا، مسجد سعال الذي بني في عهد الإمام الصلت بن مالك في القرن الثاني الهجري، وهو أحد أئمة عمان، يظهر المسجد بصورة غير نمطية، يشبه في شكله الخارجي القلاع الحربية، وليس هناك أكثر علامة من البرج الدائري عند أحد جوانبه ليعبر عن تلك السمة.
تتجلى سمات المساجد التاريخية في عمان على هذا المسجد واضحة؛ فلا تكوين معماري معقد؛ فالبساطة والتقليدية تسيطر عليه، لكن الملفت للانتباه في هذا المسجد التاريخي الأنيق، هو محرابه الجصي الرائق، أقدم محراب في السلطنة كلها، وهو عبارة عن تجويف بسيط، زخرف بتفاصيل دائرية زينت ببعض الزخارف الهندسية، بالإضافة إلى الزخارف الكتابية التي اشتملت على آيات من القرآن، مع كون المحراب ظاهرة في المساجد العمانية التاريخية؛ إلا أنه يعبر كذلك عن فن أصيل عرفت به القبائل العربية في تلك المنطقة، لذلك كان من البديهي أن يظهر هذا الإتقان مبكرًا عن المساجد العمانية.
لم ينفرد هذا المسجد وحده بهذا المحراب الأنيق، بل في نفس الحارة وعلى مقربة منه يقع مسجد الجناة، وهو أحد المساجد التاريخية في المنطقة، يعود تاريخ المحراب في هذا المسجد إلى القرن الـ 10 هجريًا/ 16 ميلاديًا، وأهم ما يميز المحراب أيضًا كونه سطحيًا غير عميق، تتخلله زخارف كتابية وأخرى نباتية وهندسية، يشبه هذا المحراب المحاريب الفاطمية التذكارية الكائنة بمسجد أحمد بن طولون بالقاهرة.
إلا أن مساجد عمان انفردت به عن غيرها من المساجد في العالم الإسلامي فعلًا، وليس انتهاءً بمسجد الشرجة في بلدة الشرجة القديمة التابعة لسعال، يظهر هذا المسجد بشكل بسيط نمطي وتقليدي، عبارة عن مساحة مربعة تقريبًا خالٍ من الزخاف الخارجية وليس له قبة أو مئذنة، إلا أن محرابه كذلك منفرد بإتقان زخارفه بشكل لا يقل إبداعًا ولا رونقًا عن المساجد الأخرى في نفس الولاية.
كانت المنابر وحدة معمارية رئيسة لدى المساجد في العالم الإسلامي، وليس هناك أكبر مثال من المساجد المملوكية التي كانت تتعامل مع المنبر كوحدة معمارية، مثلها مثل المئذنة والقبة الضريحية، فلا تجد مسجدًا وإلا ويضم منبرًا عظيم الصناعة، معقد التكوين، بديع الزخارف، معقد الهندسة.
أما المساجد العمانية القديمة لم تكن كذلك، المسجد الكبير بمدينة بهلا التابعة لولاية نزوى يعبر عن مفهوم مغاير لفلسفة المنبر، كعنصر وظيفي أساسي لا يهم فيه شكله أو نمطه، فقط درجات بنيت من الطوب أو الأحجار، يقف عليها الخطيب يلقي خطبته في صلاة الجمعة، وهو منبر بسيط على نفس نمط المنبر الذي أقامه النبي في مسجده بالمدينة المنورة، كذلك وقد ضم الجامع الكبير بمدينة منح نفس المنبر وبنفس الهيئة البسيطة غير المعقدة، لكنه ضم بين جنبات حائط قبلته محرابًا بديعًا لا نظير له.
المساجد السلطانية
شهدت المساجد السلطانية التي أنشئت في عمان آخر خمسة عقود، نمطًا مختلفًا عن الذي عرفته عمان طوال تاريخها القديم، أصبح المسجد يضم مآذن مرتفعة عالية، هذا العنصر المعماري الغائب عن المسجد التاريخية في السلطنة أصبح حاضرًا وبقوة في المساجد السلطانية.
بالإضافة إلى القباب كذلك، أصبحت القبة رئيسية لا غنى عنها في تلك المساجد، وغالبًا ما تكون في منتصف المسجد بالضبط، لكن الملفت للانتباه فعلًا هو التأثير الإيراني في العمارة، فالكثير من المساجد التي أنشئت تحت هذا الاسم ضمت تأثيرًا إيرانيًا جليًا؛ خاصة في نمط المحاريب والمداخل الرئيسية.
يميز المساجد السلطانية أنها لم تكن مساجد تقام فيها الصلوات وحسب؛ بل أصبحت مجمعًا دينيًا كبيرًا، يضم في كثير من الأحيان مراكز فتوى وقاعات للمحاضرات وكذلك غرف للمناسبات الدينية المختلفة ومكتبة.
على الطريق المؤدي إلى العاصمة العمانية مسقط، يقع مسجد السلطان قابوس الأكبر في ولاية بوشر، احتل المسجد مساحة ضخمة وهائلة؛ حيث بني على مساحة 416 ألف متر مربع، واتسع إلى 6500 مصل، بقبة رئيسية ارتفعت بقدر 50 مترًا عن سطح الفناء، وأخذت المآذن نمطًا يشبه إلى حد ما الأبراج؛ فهي أسطوانية الشكل في كل عناصرها وطوابقها.
أما القبة الرئيسية للمسجد فهي على شكل بيضوي دائري، شبه مفرغ، بنيت بشكل غريب غير مشهود عن القباب في العالم الإسلامي، لكن أهم ما يبرز قيمة تلك المساجد هو الزخرفة بالحجارة؛ حيث يضفي عليها الطابع التاريخي نسبيًا بتلك السمة، فلا ألوان باهتة، ولا زخارف مزعجة؛ بل ألوانًا موحدة من الحجارة، وتباينًا بالأحجار مبهرًا، اشتمل المسجد كذلك على مساحة خضراء تلتف من حوله، لتضفي على المسجد جوًا معتدلًا.
في محافظة البريمي، كان المسجد السلطاني مختلفًا، فبالإضافة إلى أن مساجد المسجد أصغر لتناسب تلك الولاية، كان كذلك مختلفًا في نمطه المعماري، بقبة تشبه قباب العراق وسمرقند قليلًا، ومئذنتين اتخذتا نمطًا خليطًا بين العمارة المملوكية المستحدثة والنمط العثمانية المتأخر، وبمدخل تبدو عليه عناصر التأثير المملوكية كذلك، ظهر هذا المسجد، وربما لم يعبر عن هوية معينة أو تأثير من داخل السلطنة، لكنه كان أحد المساجد الرئيسة التي بنيت في آخر خمسة عقود بها.
شهدت عمان على طول تاريخها، نمطاً معمارياً منفرد الهيئة والتكوين، عبر بشكل رئيسي عن هويتها الدينية والثقافية بالفعل، لكن مؤخراً بدأت السلطنة تبني نوع جديد من العمارة، لم يعبر بشكل واضح عن تاريخها العريق فيها، والدليل على كذلك هو تباين واختلاف المساجد التي أنشئت في فترة تاريخية واحدة، حيث كانت مختلفة التكوين والهيئة، فالمسجد السلطاني في ولاية عبري يختلف عن المسجد السلطاني في البريمي، فضلاً عن انفراد جامع السلطان الأكبر ببوشر بشكل مختلف، ربما يطرح هذا التباين سؤالاً جوهرياً، وهو هل استطاعت عمان أن تعبر عن هويتها التاريخية في مساجدها الحديثة؟