بتلك الرشاقة السردية البديعة، يستمر نجيب محفوظ في رواية ملحمته الفنية، نقرؤها بصوته، ونستغرق فيها بحلولٍ صوفي، نقرؤها في التفاصيل الغائبة عنا هناك؛ حيث يرى محفوظ في الحكاية الشعبية ملحمةً فنية وعالما من الجمال.
الحرافيش، هذه الرواية التي تحكي لنا بأسلوب وتقنية سرد رشيقة عالمًا من البشر، هناك في تلك التفاصيل حيث نجد أنفسنا أمام تصورٍ آخر للعالم وللحياة، ومعنى نبيلًا لقيمة العدالة، هناك حيث يصنع محفوظ عالمًا مليئًا بالحب، العبرة، الأسطورة والعدالة في أشخاص أجيال حيٍ صغير.
كان وجود النصوص الفارسية في الحرافيش أمرًا مبهما عند القارئ العربي من حيث مقاصد محفوظ منها، ودورها في سردية الملحمة، استعمل نجيب محفوظ اثنتي عشرة قصيدة فارسية، كلها تعود للشاعر الفارسي الأشهر “شمس الدين محمد الشيرازي” والملقب بــ “حافظ الشيرازي” لحفظه القرآن بقراءاته الأربع عشرة في سنٍ مبكرة، وهي من أجمل القصائد التي كتبها حافظ، لما تحمله من معان ودلالات عرفانية خارج الرؤية الدينية التقليدية، الأشعار ذاتها التي كلفت حافظ الشيرازي الكثير من العداوات، حينًا بجعله مبتدعا وحينًا بتكفيره وعده منحرفا.
يمثل الإرث الذي تركه حافظ الشيرازي قيمةً تاريخية ومثيولوجية مهمة عند الشعب الإيراني؛ إذ اعتادوا عدّ قصائده؛ موجهًا لهم في معرفة مصائرهم واستكشاف ما تخبئه لهم الأيام. يتفاءل الفرس ويستخيرون بفأل حافظ. يفتحون عشوائيًا غزلياته ككتاب مقدس مليء بالحكمة وبشيرا نذيرًا بالحظ، يتطلعون في أي غزلية من غزليات ديوان حافظ، تحط أقدارهم ليتخذوا قراراتهم المصيرية وفق ما تنبئ به الغزلية التي يفتحون الكتاب عليها، ويمضون عملًا بها دونما تردد، الكتاب الذي يكاد لا يخلو منه بيت فارسي.
مناسبات النص
من المثير للإعجاب بعبقرية محفوظ في هذه الملحمة، هي التوافق حد التطابق في مناسبات كتابات النص الفارسي لحافظ، وتشارك المشهد السردي معها ذات المناسبة التي يستعمل فيها محفوظ القصيدة الفارسية للحد الذي يمكن أن يحول فهمنا للرواية نفسها، وارتباطها بمحفوظ وحياة حافظ الشيرازي نفسه، الذي يستخدم قصيدةً خاصةً يصف فيها حافظ نفسه لتجسيد شخصية شمس الدين التي تحمل ذات اسم حافظ، وتمر بسردية شبيهةٍ لحدٍ كبير بحياة الشاعر الفارسي نفسه، بالإضافة للأغراض التي تجعل من ورود القصيدة ليس مجرد مظهرٍ شعريٍ فقط؛ وإنما جزء مهما من عملية السرد لا يمكن تجاوزها أو تركها دون فهمها.
يمكن ملاحظة أهمية النص الفارسي في الملحمة من حيث الأغراض التي تبدأ بتوافق مناسبة النص إلى الهدف من وجودها مع تقنية السرد الانتقالية السلسة في الملحمة، لتكون مفاتيح انتقالية مهمة لوصف الحدث والانتقال لمستقبل بطل القصة في أغراض مختلفة.
جمعت أغراض استعمال القصيدة الفارسية لحافظ الشيرازي في حرافيش محفوظ بين وصف الحدث واستهلال القادم من مستقبل الشخصية في الملحمة، والجمع بين الغرضين، والتجسيد التمثيلي للشخصية نفسها، فحينًا تتطابق المناسبة التي خلقت النص الشعري بين الحدث في الملحمة وبين مناسبة كتابة النص عند شاعرها الأصلي، وحينًا تمنح القصيدة للقارئ تصورًا عن مستقبل الشخصية المعنية في القصة، وحينًا آخر في إضفاء بعدٍ أكثر تجسيدًا لطبيعة الشخصية عند القارئ.
النص لوصف الحدث، التجسيد الشعري للحظة
الحدث: نفي حافظ، ونفي عاشور
“ای فروغ ماه حسن از روی رخشان شما
آب روی خوبی از چاه زنخدان شما”
القصيدة كتبها حافظ لنصرة الدين يحيى آل مظفر، حاكم “يزد” في الدولة المظفرية، بعد نفيه لمدينة يزد، تحمل معاني القصيدة كما يصفها الدكتور عبد الحسين جلاليان بأنها خليطٌ من السم والترياق، السم الذي يتجلى في شكواه من نفيه ومن عدم نيله، والناس الخير من دولة آل مظفر، والترياق في غزله ورضاه عنهم وطلبه استقباله بما يليق بمقامه والإحسان إليه حين يقول في هذه القصيدة:
“ويا سقاة محفل جمشيد لتطل أعماركم.. ولتدم بالمراد أيامكم
ولو أن كؤوسنا لم تفض بالخمر على عهدكم”.
الموقف نفسه الذي يجد فيه عاشور الناجي نفسه منفيًا على يد درويش؛ عمه بالتبني، بلا حيلة أو مهنةٍ سوى إرادته الخير، موقفٌ يقف فيه حافظ في شيراز، وعاشور أمام التكية، ذاك ينشد والآخر يستمع النشيد، كلٌ منهم ينقل عتبه لملكه، يستحيي بكبرياء ويقول في المطلع الذي أورده محفوظ:
“يا نور البدر الساطع من وجهك
والماء الحلو من بئر غمازتك
شوقي للقائك أوصل روحي شفتي
فبماذا تأمر؟ أتتقدم للقياك أم ترجع لمحلها؟”
الحدث: خروج عاشور وفلة فرارا من الوباء
جز آستان توام در جهان پناهی نیست
سر مرا به جز این در حواله گاهی نیست
******
سوف أعتابك، ليس من ملجأ في العالم
وغير بابك لا معتصم لرأسي
وإذا شحذ العدو سيفه، اتقيته بالدروع
فسيفنا ليس إلا النواح والتأوه
لماذا أشيح بوجهي عن محلة الخرابات
وليس خير منها في العالم من رسوم وطرقات
وإذا أشعل الزمان نارا في بيدر عمري قل له لتحترق
فقل له احترق فلست تعادل ورق الحشائش عندي
عاش الفرس في هذه اللحظة التي كتب حافظ قصيدته الـ 73، لحظات تحولٍ من جور الدولة الإيلخانية المغولية لدولة آل المظفر، مع تولي الأمير شجاع مظفر مقاليد الحكم، كتب حافظ إليه هذه القصيدة كمناجاة تظهر ضعف المحكومين، وأملهم في العهد الجديد. قصيدةٌ تأتي في الحرافيش أنشودة رحيل عاشور مع فلة وابنه شمس الدين وحيدًا، هربًا من الطاعون للمجهول في الفلاة بعيدًا عن البشر، تتحول فيها القصيدة لمناجاة لله أملًا وخوفا من المجهول الذي يواجهه. ذلك العجز والتسليم الذي يقول فيه: “غير أعتابك لا ملجأ في العالم، وغير بابك لا معتصم لرأسي”. خرج عاشور مسلما بذات التسليم الذي يتحدثه حافظ في قصيدته، يسلم حافظ بطاعة حاكمه، ويسلم عاشور للرؤيا التي رآها.
الحدث: عودة سماحة للموت أخيرا ضريرا موهوما بصلاح أبنائه ووده عهد الناجي
هر آن که جانب اهل خدا نگه دارد
خداش در همه حال از بلا نگه دارد
****
إن من يرعى جانب أهل الله
يحفظه الله في جميع الأحوال من البلاء
ولست أقول حديث الحبيب، إلا في حضرة الحبيب
فإن الحبيب يعي كلام الحبيب..
فيا قلبي هيئ أمرك!.. فإذا اضطربت قدمك
حفظك الملاك بأن يرفع لك أكف الدعاء
في القصيدة الـ 122 لحافظ، يصف الدكتور جلاليان محتوى القصيدة بأنها تعبر عن المعنى الباطني لحافظ في عيش عشاق الله، طريقة العيش التي يجب أن تكون في رضا الله ورضا خلقه. الحياة التي يعيشها الدراويش هائمين دون وجهة؛ سوى ثقتهم في أنهم سيجدون الله أينما ذهبوا، وهي ذات القيمة التي يعيش لها آل الناجي في حلم خدمة الخلق بأخذ الجباية من الأغنياء لتوزيعها على الفقراء، وكنشيد كانت الوداع اللائق الذي يختم به محفوظ قصة سماحة الذي عاد عجوزًا ضريرًا لا يسأل إلا عن عهد الناجي، أسطورة العدالة التي ضاعت حياته أملًا في عودتها يومًا ما على نسل أهل الناجي، ليموت أخيرًا على أسماع النشيد.
النص لاستشراف القادم
الحدث: خروج درويش من السجن وقلق عاشور
ز گریه مردم چشمم نشسته در خونست
ببین که در طلبت حال مردمان چونست
*******
إنسان عيني جالس في الدم من البكاء
فانظر كيف حال الناس في البحث عنك
على ذكر شفتك الحمراء وعينك المخمورة
كأس الحزن الأحمر الذي أشربه دم
ولو أشرقت شمس طلعتك من مشرق جادتك
لسعد طالعي
عند عودة درويش من السجن، كان النشيد الذي سمعه عاشور من التكية هي القصيدة الرابعة والخمسون من ديوان حافظ الشيرازي، وهي قصيدة كانت مناسبة كتابتها هو وداع حافظ لأبنائه، رحيل ابنه النعمان للتجارة في الهند ليتوفى ويدفن بعيدًا عنه لاحقًا. قصيدةٌ غزلية تأتي مناسبتها في حرافيش محفوظ متوافقةً مع مناسبة كتابتها الأصلية عند حافظ الشيرازي، ليظهر غرض الاستعمال التنبؤ بالقادم، البعد والجفاء الذي سيواجهه عاشور مع أبنائه بعد عودة درويش، عندما يفتح حانة الشراب، ليتحول أبناء الناجي، أسطورة الخير والعدالة، لمرتادي حانات يزيد كل يومٍ بعدهم عنه. استهلالٌ تتحدث فيه التكية مع عاشور الذي لا يفهم لغتها، تنبؤه بما ينتظره في قادم الأيام، وتواسيه بفقد أبناءه.
الحدث: خضر سليمان يسهر أمام التكية بعد انضمام سماحة بكر للفتوات
آنان که خاک را به نظر کیمیا کنند
آیا بود که گوشه چشمی به ما کنند
********
أولئك الذين يحيلون التراب كيمياء بنظرهم
ليتهم ينظرون إلينا بطرف أعينهم ليحيى فينا الرجاء
احتمال آلامي خير من الأطباء الأدعياء
من يدري؟ فربما يصنعون لي في خزانة الغيب دواء الشفاء..
ومادام المعشوق لا ينزع عن وجهه النقاب
فلماذا يحكي كلٌ بحكايةٍ تصوره عنه؟
وإذا كان حسن العاقبة غير موقوف على العربدة أو الزهد
فمن الخير أن يتركوا أمرك لتقدير العناية.
فلا تكن جاهلًا؛ ففي زيادة العشق
تزيد معاملات أهل النظر مع الحبيب..
وإذا كثرت الفتن ونحن ما زلنا من وراء الحجاب
فماذا يفعلون بنا حينما يرتفع الحجاب؟
كان يعتقد جابر بن حيان كما الفلاسفة اليونان ورواد علم الكيمياء الأوائل بالعناصر الأساسية الأربعة للكون والمادة، التراب، الماء، النار والهواء. وأن للعناصر جوهرًا بين الحرارة والبرودة، وسيادة عنصر من هذه العناصر الأربعة فيه يشكل هيئته، ولذا فإن تغيير نسبة هذه العناصر يمكن أن يمكنهم من تحويل التراب ذهبًا. الأسطورة التي كانت حجر الزاوية القصصية لرائعة باولو كويلو “الخيميائي وحجر الفلاسفة”. وفي الجانب الآخر كان أهل العرفان، المتصوفة العارفون بالله الذين يحتلون أرقى المراتب الأربعين عند الحلاج، ويصلون للمبدأ المشترك للفكرة الصوفية “الاتحاد بعلة الإيجاد وأصل الوجود”، ينسب لهم القدرة الإلهية بإحالة الرمل بنظرهم إلى ذهب، وهم معرض الحديث في مناجاة حافظ في مطلع هذه القصيدة.
في هذه القصيدة التي لا تخلو من حكم الرضا والقناعة، تلك القناعة النبيلة التي يعيشها خضر الناجي، يرى خضر مستقبل ابن أخيه الذي تغويه أسطورة الناجي وتذهب به بعيدًا كما كل الحرافيش وآل الناجي، لتحكم عليه بالشقاء الأبدي. تأتي هذه القصيدة كمفترق طرق بين سماحة وعمه خضر، توجه التكية نشيدها لخضر بأن الفتونة ليست لك، مسارك في مكانٍ آخر، فهي تمنح للناجي ولا يأخذها، ومن يرفع ناظره لما ليس له فهو في مصير الضياع.
الحدث: حزن جلال الفرّان ابن زهيرة على قمر، وتحول نظرته للحياة والموت
صبحدم مرغ چمن با گل نوخاسته گفت
ناز کم کن که در این باغ بسی چون تو شکفت
******
عندما تنفس الصباح، تحدث طائر الخميلة للوردة الجميلة، فقال:
“ما أكثر ما تفتح مثلك في هذا البستان، فأقلي ما أنت عليه من دلال”.
فابتسمت الوردة وقالت: “إننا لا نتألم لقول الحق، ولكن
لم يوجه عاشق مثل هذا الكلام الشديد إلى معشوقة”.
فإذا طمعت في الخمر الحمراء في تلك الكأس المرصعة
فما أكثر الدرر التي يجب عليك أن تثقبها بأطراف أهدابك
ومن لم يكنس تراب باب الحانة بخده
فلن تصل إلى مشامه رائحة المحبة
يرجح الدكتور جلاليان كتابة هذه القصيدة الغزلية 188 من ديوان حافظ بعد تغير عهد بعهد آخر في زمن حافظ، ومقتل حاكمٍ وصعود حاكم طاغية جديد “مبارز الدين مظفر”. يخاطب الحاكم الجديد في القصيدة بقوله له:
” صبحدم مرغ چمن با گل نوخاسته گفت
ناز کم کن که در این باغ بسی چون تو شکفت
******
عندما تنفس الصباح، تحدث طائر الخميلة للوردة الجميلة، فقال:
“ما أكثر ما تفتح مثلك في هذا البستان، فأقلِّي ما أنت عليه من دلال”.
وهي تتشارك المناسبة هنا مع حرافيش محفوظ في وفاة قمر خطيبة جلال الفران، إلا أن غرض الاستعمال الأبرز هنا هو النصيحة والموعظة، النصيحة التي يوجهها حافظ للحاكم الطاغية الجديد مبارز الدين مظفر، والنصيحة والموعظة التي يوجهها محفوظ لجلال بن الفران الذي يتحول لنسخةٍ أخرى من الفتوات الطغاة الباحث عن الخلود، الذي يظن أن بإمكانه التحايل على الموت وقهره، وهي كموعظة تستشرف مستقبل جلال، وتهيئ الكاتب للتحول الذي تشهده شخصيته.
الجمع بين الغرضين، وصف اللحظة واستشراف القادم
الحدث: انتظار سماحة بكر الناجي لمهلبية للفرار معًا من الحارة
در این زمانه رفیقی که خالی از خلل است
صراحی می ناب و سفینه غزل است
********
في هذا الزمان، الرفيق الخالي من الخلل
هو إبريق الخمر المصفى، ومجموعة من الشعر والغزل
فاذهب فعمر العافية ضيق
واسرع بأخذ الكأس؛ فلا عوض للعمر العزيز ولا بدل
ولست وحدي من أصابه الملل لعدم العمل في هذا العالم
فملالة العلماء أساسها العلم بلا عمل
وفي هذه الطريق المليئة بالمحن. بدرك عقلي
أن الدنيا وأمورها لا ثبات لها ولا محل
فتمسك بخصلة من شعر الحبيب الجميل ولا تكرر هذه القصة:
بأن السعد والنحس من تأثير الزهرة أو زحل
قد بات لقلبي أمل عريضٌ في وصالك
ولكن الأجل قاطع عمر الأمل
ولن يجدوا قلبي مفيقًا في زمن ما
فـ (حافظنا) سكران خمر الأزل
“في هذا الزمان، الرفيق الخالي من الخلل
هو إبريق الخمر المصفى، ومجموعة من الشعر والغزل
فاذهب فعمر العافية ضيق
وأسرع بأخذ الكأس؛ فلا عوض للعمر العزيز ولا بدل”
بهذه الأبيات يغني حافظ لسماحة بكر الناجي وهو في انتظار معشوقته للفرار معًا، ولكن التكية تنشد من هناك بنصيحة الفرار، فما حياته إلا الوحدة والهروب الدائم. وتشترك مناسبة استعمال النص الفارسي هنا بدلالات معانيه في التعبير عن الحدث واستهلال القادم، بيتٌ من الشعر يتنبأ فيه محفوظ لقارئه عن حياة سماحة الذي لا يبقى له خليل، ولا نجاة له إلا الفرار حفظًا للعمر الذي لا يعوض أو يبدل:
“فاذهب فعمر العافية ضيق
وأسرع بأخذ الكأس؛ فلا عوض للعمر العزيز ولا بدل”
يقضيها هربًا من حبل المشنقة بجريمة قتل حبيبته التي لم يرتكبها، وتتركه زوجته الثانية بعد سنين من غيابه مع معرفتها بعودته، وتتزوج مخبر الحكومة الذي يبحث عنه؛ فيقضيها هاربًا يعد السنين خوفًا على عمره، وبلا رفيقٍ خالٍ من الخلل.
الحدث: عودة سماحة بكر بعد مضي 15 عامًا، وتوهمه قتله للمخبر الذي يبحث عنه، ليعود للفرار من جديد
درد ما را نیست درمان الغیاث
هجر ما را نیست پایان الغیاث
*******
أما ألمنا لفراقه لا دواء له.. الغوث
وأما هجره لنا فلا نهاية له.. الغوث الغوث
سُلب ديني وقلبي، وقُصدَ قتلي
الغوث من جور الطيبين الغوث
ولأجل قبلةٍ واحدة، يطلبون روحي ثمنًا
الغوث من سالبي القلوب الغوث..
أحلّ كفار القلوب دمي
يا مسلمون ما الحل؟.. الغوث
مثل حافظ أهيم ليل نهار
احترق، وأبكي، وأطلب النجدة، الغوث
في هذه القصيدة التي تجسد مأساة سماحة بكر، يضع محفوظ نهاية لقصة سماحة، مشهدًا يسدل الستار فيه عليه دون جواب. تجسد القصيدة المشهد الأخير من ظهور سماحة، الذي يطبع فيه قبلةً على وجوه أطفاله النائمين ليذهب بعدها بلا عودة؛ سوى للموت في نهاية المطاف:
ولأجل قبلةٍ واحدة، يطلبون روحي ثمنًا
الغوث من سالبي القلوب الغوث..
تظهر أغراض استعمال القصيدة هنا في تغذيةٍ شعرية لوصف المشهد، واستهلال قادم حياة سماحة الناجي. نهاية تراجيدية تختم ظهور شخصية سماحة في الرواية إلى أن يعود في الأخير ليموت أعمى في مشهد مقتضب من الاطمئنان لكذبة أضاع عمره في سبيلها، فتصف حياة سماحة بمطلع القصيدة وتستشرف ظهوره في الرواية، لتحكم على سماحة بالهجر والضياع الأبدي:
“درد ما را نیست درمان الغیاث
هجر ما را نیست پایان الغیاث
أما ألمنا لفراقه لا دواء له.. الغوث
وأما هجره لنا فلا نهاية له.. الغوث الغوث”.
بين شخص حافظ وأشخاص محفوظ، التجسيد التمثيلي للشخصية في النص الشعري
الحدث: أزمة الشيخوخة وقلق شمس الدين من فقدانه مكانته
صلاح کار کجا و من خراب کجا
ببین تفاوت ره کز کجاست تا به کجا
*****
أين صلاح الحال من خراب حالي أين؟
فانظر تفاوت الطريق من أين إلى أين؟
قلبي أصبح متعبًا من الدير وخرقة النسك
فأين دير المجوس وأين الشراب المصفى أين؟
وأي علاقة بين الخلاعة والصلاح والتقوى
وأين سماع الوعظ من نغمة الرباب؟
وماذا يدرك الأعداء من وجه الحبيب المضيء؟
وأين المصباح الميت من شمعة الشمس؟
تراب أعتابك كحل ناظري
فإلى أين يجب أن نذهب من جنابك إلى أين؟
كتب حافظ قصيدته الثانية في ترتيب ديوانه قبل نفيه ليزد. هناك حيث ضاق به الدير وزادت عليه العسس وكره مقامه الأمير، فيشتكي محفوظ على أسماع شمس الدين: “أين صلاح الحال من خراب حالي أين؟ فانظر تفاوت الطريق من أين إلى أين؟.. قلبي أصبح متعبًا من الدير وخرقة النسك، فأين دير المجوس والشراب المصفى أين؟”. قصيدة تتحدث عن الغربة التي واجهها حافظ مع من حوله، وغربة شمس الدين عن قوته، شعوره بالضعف وخذلان القوة والوهن والعجز يدركه. ذات الشعور الذي يتشاركه معه حافظ الشيرازي شاعر بلاد فارس وحكيمها الذي حفظ لنفسه نفوذ ومقام الناصح الحكيم، ليخسره أخيرًا ويذهب منفيًا لأرض يزد آملًا في استعادة ذلك المقام هناك.
هي ما يمكن أن نزعم بارتباط شخصية شمس الدين من حيث التسمية التي أطلقها محفوظ على هذه الشخصية، بشخصية حافظ الشيرازي الذي يحمل ذات الإسم “شمس الدين محمد بن بهاء الدين حافظ الشيرازي”، وارتباطها بشخصية شمس الدين الناجي في الرواية، ومواجهتها لذات الصراعات الداخلية التي كان يعيشها حافظ الشيرازي، والصراعات الخارجية في الاحتفاظ بالمكانة نفسها وخسارتها.
الخاتمة
ينهي محفوظ ملحمته أخيرًا: “لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يومٍ تحيةً لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة.. دوش وقت السحر از غصه نجاتم داد .. واندر آن ظلمت شب آب حياتم دادند”
بالقصيدة 183 من ديوان حافظ، يسدل محفوظ ستار ملحلمة الحرافيش، القصيدة التي تعد واحدة من أجمل أربع قصائد لحافظ الشيرازي، والتي يسميهن الدكتور واللغوي الإيراني الراحل محمد معين، بأنهن قصائد حافظ الوحيانية. يقف عاشور ابن حليمة كفاتحة عاشور وخاتمة عاشورٍ جديدٍ للملحمة، وبعودة العهد الأسطوري لعاشور الناجي، يقف عاشور ابن حليمة على رفع غصة الحزن، الحزن الذي يصفه حافظ بالمجهولات الإلهية، وهنا ها هي بالعدالة، وبرضا الناس الذي لا يكون رضا الله إلا به، تتكشف المجهولات أمام عاشور كما هي أمام حافظ أخيرًا. خاتمةٌ تليق بنهاية ملحمة، تنتهي فيها آلام حافظ المتجسدة في كل قصائده، وتنتهي فيها آلام عاشور أخيرًا بعودة عهد الناجي.
دوش وقت سحر از غصه نجاتم دادند
واندر آن ظلمت شب آب حیاتم دادند
*********
عند فجر ليلة أمس أنجوني من الحزن
وفي ظلام تلك الليلة اسقوني الحياة
أخرجوني عن نفسي بما انبعث من ضياء ذاته
ثم ناولوني الخمر في جام يتجلى فيها بصفاته
فياله من سحر مبارك! ويالها من ليلة سعيدة!
ليلة القدر هذه التي منحوني فيها البراءة الجديدة!
فدعني بعد اليوم أحول وجهي إلى مرآة جماله
فقد خبروني أنني أستطيع أن أجتلي فيها بهاء خياله!
وأي عجب إذا أصبحت هانئ القلب، نافذ الرغبات!
وقد كنت جديرًا بها، وقد أعطوني إياها على سبيل الزكاة
وقد أنبأني هاتف الغيب، بخير الآمال والبشريات
فخبرني أنهم في مقابل الجور والجفاء، قد أعطوني الصبر والثبات..