يُجمع كافة المؤرخين المسلمين وغير المسلمين، عربًا وعَجمًا على أن التاريخ الإسلامي انتقل من التعددية والشورى في عهد الخلفاء الأربعة الراشدين إلى حكم الفرد الواحد، بدايةً من العصر الأموي؛ وهو ما اشتهر في الثقافة الإسلامية بمصطلح “كانت الخلافة الراشدة 30 عامًا، ثم انقلبت إلى مُلكٍ عضوض” أي انقلبت إلى جَور وظُلم، وفي ذلك يقول ابن الأثير “«ثم يكون ملك عضوض»؛ أي يصيب الرعية فيه عسف وظلم، كأنهم يعضون فيه عضًا، والعضوض: من أبنية المبالغة، وفي رواية «ثم يكون ملوك عضوض» ، وهو جمع: عض بالكسر، وهو الخبيث الشرس” (النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 253)
وظل حُكم المسلمين على هذا المُلك العضوض إلى القرن العشرين، حيث يستوي في ذلك الحكام الأمويون والعباسيون والفاطميون والأيوبيون والمماليك والعثمانيون، لم يخرج أي منهم عن الخط الأموي الذي اشتهر بالجور والظلم حسب تعبير ابن الأثير، وما اجتمعت عليه سائر فقهاء المسلمين في التمييز بين حقبة الخلافة الراشدة وما بعدها كمرحلة زمنية فاصلة بين تاريخين.
وبالنظر للحالة الاجتماعية بداية العصر الأموي أنقل هذا النص للدكتور أحمد أمين المتوفى عام 1954م من كتابه فجر الإسلام، حيث يحكي عن تغير جذري في خارطة المجتمع العربي آنذاك، فينقل شارحًا لكلمات المستشرق الألماني “يوليوس فلهاوزن” Julius Wellhausen ” “إن أكثر من نصف سكان الكوفة كانوا من الموالي وكان، هؤلاء الموالي يحتكرون الحِرَف والصناعة والتجارة، وكان أكثرهم فرْسًا في جنسهم وفي لغتهم، جاءوا الكوفة أسرى حرب، ثم دخلوا في الإسلام، ثم أعتقهم مالكوهم العرب، فكانوا موالي لهم، وبذلك صاروا أحرارًا، ولكنهم ظلوا في حاجة إلى حماية سادتهم، فهم حاشية العرب وأتباعهم في السلم والحرب”.
وكذلك سائر البلاد ، أصبح فيها العنصر العربي والعنصر الأجنبي ممتزجين تمام الامتزاج، في فارس والشام ومصر والمغرب، حتى جزيرة العرب نفسها لم تعد جزيرة العرب؛ بل صارت مقر الخلافة في عهد الفتوح الكبرى « المدينة »، جزيرة المسلمين جميعًا؛ فقد كانت في عهد عمر —يقصدها الرسل وذوو الحاجات من الأمم الأخرى، ويأتي إليها الأسرى؛ لأن تعاليم عمر كانت تقضي ألا تُوزع الغنائم والسبي في البلاد المفتوحة، إنما يُؤتى بها إلى مقر الخلافة ثم تُوزع، فامتلأت المدينة وما حولها بالعناصر غير العربية؛ وكانت مكيدة قتل عمر مدبرة من بعض سكانها من الفرس، ومنفِّذها أبي لؤلؤة الفارسي، أضف إلى هذا أن مكة والمدينة كانتا مقصد الحُجاج والزائرين من الداخلين في الإسلام من بقاع الأرض، وهكذا جعل جزيرة العرب شائعة بين المسلمين، تختلط فيها العناصر المختلفة، وشأنها في ذلك شأن الممالك الأخرى المفتوحة، ليس من فارق، إلا أن العنصر العربي في جزيرة العرب أكثر، والعنصر الأجنبي في الممالك المفتوحة أعظم.” (فجر الإسلام صـ 103).
ومما شهد به أحمد أمين تبين لنا أن المجتمع العربي الحاضن للسلطة الأموية لم يكن عربيًا في الواقع؛ بل خليطًا من العرب والعجم، كان له تأثير كبير على ثقافة المسلمين، والذي يضيف أمين هذا النص في ذات الصفحة بقوله: ” كل هذه العوامل التي ذكرناها كان لها أثرها في الامتزاج، فالعادات الفارسية والرومانية امتزجت بالعادات العربية، وقانون الفرس والقانون الروماني امتزجا بالأحكام التي أوضحها القرآن والسنة، وحِكَمُ الفرس وفلسفة الروم امتزجت بِحكم العرب، ونمط الحُكم الفارسي ونمط الحُكم الروماني امتزجا بنمط الحُكم العربي؛ وبالإجمال كل مرافق الحياة والنظم السياسية والاجتماعية والطبائع العقلية تأثرت تأثرًا كبيرًا بهذا الامتزاج” (نفس المصدر).
حتى على المستوى الديني يعترف أحمد أمين بأن ثقافة المسلمين أخذت من أديان الأمم المجاورة، فيقول بالنص: ” حتى العقيدة الإسلامية لم تخل من تأثر بهذا الامتزاج، أتظن أن الفارسي أو السوري النصراني أو الروماني أو القبطي إذا دخل في الإسلام امَّحت منه كل العقائد التي ورثها من آبائه وأجداده قرونًا، وفهم الإسلام كما يُريد الإسلام من تعاليمه؟ كلا، لا يمكن أن يكون ذلك، وعلم النفس يأباه كل الإباء، فللفارسي صورة للإله غير صورة النصراني الروماني، وهما غير صورة النصراني المصري، وللألفاظ المستعملة في الديانات كجهنم والجنة وإبليس والملائكة والآخرة والنبي ونحو ذلك من معانٍ عند كل من هؤلاء، تُخالف المعاني التي يتصورها الآخر، فلا تظن أن هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام من الأمم الأخرى فهموه بحذافيره كما فهمه العرب، حتى المخلصون منهم في اعتناقهم الإسلام، إنما فهمه كل قوم مشوبًا بكثير من تقاليدهم الدينية القديمة، وفهموا ألفاظه قريبة من الألفاظ التي كانت تُستعمل في ديانتهم” (فجر الإسلام صـ 104).
ولأن أديان الرومان واليونان والمصريين كانت ترى آلهتها بشرًا أو محسوسات، كثرت الروايات بهذا الخط الفكري المشهور في التراث الإسلامي “بالمُجسّمة والمُشبّهة” رغم تحذير القرآن من هذا الاتجاه الذي يساوي بين الله والبشر؛ سواء من حيث الشكل أو المضمون والقدرة، وأضيف هنا أنه يوجد مصطلح علمي يسمى “الأنثروبومورفيزم” Anthropomorphism، ويعني تشبيه غير الإنسان بالإنسان، وهو نزعة فكرية عند الأديان القديمة البدائية التي كانت تتصور آلهتها مثلها في الواقع، وأحفاد هؤلاء في الفكر الإسلامي هم جماعة المشبهة المذكورة الذين تكاثروا داخل مذهب الحنابلة بالخصوص نظرا لطبيعته التقليدية الحرفية التي تؤمن بظاهر النصوص والروايات دون إعمال العقل في محتواها.
علمًا بأن المعتزلة هم كانوا أكثر طوائف المسلمين ثورةً على المذهب “الأنثروبومورفيزمي”، لعلمهم أن تجسيد الرب في صورة بشر هو عمل بدائي مما قبل العقل، وأنه نوع من الوثنية موروث من الأسلاف بفعل السياسة التي كان الحاكم فيها حريصًا على “أنسنة الإله” لإقناع الجماهير بقدسيته وقدسية حكومته، فالمعتزلة في الواقع كانوا مفكرين أحرارًا مقارنة بجماعة الحديث التي نشأت جذورها في العصر الأموي، والصراع الحقيقي بين هؤلاء المفكرين والمحدثين كان حول أمرين اثنين؛ أولاهما (التشبيه) وثانيهما (الجبر)؛ أي المذهب الجبري الذي أشاعه الأمويون لتشريع أفعال الأمراء دينيًا، وإقناع الجماهير أن السلطة من عمل الرب لا من عمل البشر –”راجع مقالنا “أضواء على المذهب الجبري” على مواطن في شهر أغسطس الماضي).
وقد كان الخلاف الذي أثير حول الجبر هو الذي أدى لمناقشات التنزيه والتجسيم لاحقًا في الفكر الإسلامي؛ بمعنى أن الجبرية كانت تميل لفكرة التجسيم لاعتقادها بالمذهب “الأنثروبومورفيزمي” أساسًا والذي يصور الإله في السماء على صورة بشر مطلع ومتداخل في حياة الناس، وهذا كان مذهب اليونان والأديان القديمة الذي ثار عليه الفلاسفة، واختاروا الربوبية في الغالب، مثلما يلحد الآلاف الآن ثورةً على الإله الدموي والبشري الذي صدره الشيوخ وجماعات العنف آخر 50 سنة.
أما أصدق تعبير عن هذا التغير الجذري الثقافي الناتج عن اختلاط العرب بالعجم في العصر الأموي، هو قبول الرواة العرب لروايات اليهود وتصديقهم لمحتواها ونسب مضمونها للإسلام، وأشهر من فعل ذلك هو الصحابي أبو هريرة الذي كان يسمع من “كعب الأحبار” ثم يحدث عن رسول الله، وفي ذلك يقول الإمام ابن كثير عن الإمام مسلم بسنده: ” قال لنا بشر بن سعيد: اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله ويحدثنا عن كعب الأحبار، ثم يقوم فأسمع بعض ما كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، وحديث كعب عن الرسول، وفي رواية يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب، فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث. وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس – أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله ولا يميز هذا من هذا – ذكره ابن عساكر. وكان شعبة يشير بهذا إلى حديثه” (البداية والنهاية 8/ 117).
وكان أشهر ما نقله أبو هريرة عن كعب الأحبار ونسبه للرسول حديث التربة، ونصه كالتالي في صحيح مسلم ” عن أبي هريرة، قال: أخذ رسول الله بيدي فقال: «خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل» (صحيح مسلم 2789).
وقد اعترض على مسلم هنا العشرات؛ أذكر منهم 6 من كبار المحدثين والفقهاء الذين نسبوا قول مسلم لكعب الأحبار، وأنه ليس من كلام النبي، حيث يقول البخاري في تاريخه الكبير في ترجمة أيوب بن خالد رقم 1317 وروى إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد الأنصاري، عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خلق الله التربة يوم السبت”، وقال بعضهم عن أبي هريرة عن كعب وهو أصح ا ه. ويضيف ابن تيمية في مجموع الفتاوى:{ وأما الحديث الذي رواه مسلم في قوله : { خلق الله التربة يوم السبت } فهو حديث معلول قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره، قال البخاري : الصحيح أنه موقوف على كعب، وقد ذكر تعليله البيهقي أيضا، وبينوا أنه غلط ليس مما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مما أنكر الحذاق على مسلم إخراجه إياه كما أنكروا عليه إخراج أشياء يسيرة}.
ويقول ابن قيم الجوزية في المنار المنيف “ويشبه هذا ما وقه فيه الغلط من حديث أبي هريرة: خلق الله التربة يوم السبت، وهو في صحيح مسلم، ولكن الغلط في رفعه، وإنما هو قول كعب الأحبار، ثم نقل عن البخاري قوله من تاريخه الكبير الذي نقل آنفا ثم قال: وقال غيره من علماء المسلمين أيضًا وهو كما قالوا، لأن الله أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وهذا الحديث يقتضي أن مدة التخليق سبعة أيام، والله تعالى أعلم.(المنار المنيف ص84).
وكذلك أورد الحديث ابن كثير في البداية والنهاية (ج1ص71) نقلاً عن مسند أحمد بإسناده ثم قال: ( وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار).
وخامس هؤلاء الفقهاء الإمام القاسمي في تفسيره (ج3ص178)، قال بعد إيراده هذا الحديث وبيان من أخرجه، ورواه النسائي من غير وجه عن حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قال: في ستة أيام، ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار، وليس مرفوعًا، والله تعالى أعلم.
ويضيف الإمام المناوي في فيض القدير في شرحه على الجامع الصغير للسيوطي (ج3ص447): أخرجه مسلم وهو من غرائبه، وقد تكلم فيه ابن المديني والبخاري وغيرهما من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب الأحبار، وأن أبا هريرة إنما سمعه منه، لكن اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعًا، وقد حرر ذلك البيهقي، وذكره ابن كثير في تفسيره، وقال بعضهم: هذا الحديث في متنه غرابة شديدة، فمن ذلك أنه ليس فيه ذكر خلق السماوات، وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن، لأن الأرض خلقت في أربعة أيام ثم خلقت السماوات في يومين.
وما اشتهر عن أبي هريرة أيضًا موقفه من الكلاب، فهو راوي أغلب أحاديث ذم الكلب في الثقافة العربية والإسلامية، وعلى خلاف ذلك كتب الإمام “أبو بكر بن المرزبان” كتابه (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) للرد على فقهاء كراهية الكلاب في زمنه، حاكيًا لقصص الأسلاف والأدباء والشعراء في مدح الكلب وذكر شجاعته ووفاءه للإنسان، علمًا بأن الإمام أبا بكر متوفي سنة 921 م أي منذ 1100 عام تقريبًا، وعاصر علماء الحديث والكتب الستة، وكان مما نقله في الكتاب: “رأى عمر بن الخطاب أعرابيًا يسوقُ كلبًا، فقال ما هذا معك؟ فقال يا أمير المؤمنين نِعم الصاحبُ؛ إن أعطيته شَكَر، وإن منعته صبر، قال عمر نِعم الصاحب فاستمسِك به” (صـ 36).
وقال ابن عباس : كلبٌ أمين خيرٌ من إنسان خؤونٍ”، وغيرها عشرات القصائد الشعرية وكلام حكماء السلف في (مدح الكلب) ، ويظهر من كتاب الرجل أنه كان رد فعل على وضع الحديث في زمنه لكراهية الكلاب، وفيه إشارات على حب الصحابة والسلف الأول للكلب وأن أحاديث كراهية هذا الحيوان لها خط واحد ممتد بين رواة الحديث، ولم تكن كل الخطوط الروائية كذلك،
ويمكن تفسير ما حدث من اضطراب الفقهاء ناحية الكلب بوجه سياسي اجتماعي نفسي؛ حيث اشتهرت نظرية الطوطم والتابو لسيجموند فرويد؛ وهي أحد أضلاع “”مثلث الإلحاد المعاصر” مع الداروينية والنسبية، وهي نظرية نفسية أساسها اجتماعي تعني باختصار: “أن القبيلة والجماعة الإنسانية تصنع إلهها الخاص باعتقادها في وجود قوة مجهولة في الحيوان والنبات، وأحيانا البشر، يحدث معها عبادة وتقديس لتلك الكائنات الحية فورًا واعتبار كل ما يخص هذا الكائن مقدسًا وترجمة ذلك بطقوس؛ منها التبرك به والانتساب له ثم حُرمة التعرّض له بأذى”.
مكتشف النظرية الفيلسوف “إيميل دوركايم” في القرن 19، وهو الذي ربط بين أديان القدماء وبين تقديسهم للكائنات الحية، وخرج بفكرة الطوطم التي طوّرها بعد ذلك سيجموند فرويد في كتاب “الطوطم والتابو“، ناقش فيه أكثر أبعاد النظرية، ووصل بفكرة نهائية؛ هي أن الأديان مجرد أفكار بشرية جهلت بعض ظواهر الحياة، فربطتها بقوى خفية ومجهولة في الحيوان والنبات والأفلاك السماوية، وقديمًا كان الفراعنة يقدسون القطط والبقر والذئاب والصقور، وأسقطوا عليها صفات الآلهة، فالقطط “سخمت”، والبقر “حتحور،” والذئاب “أنوبيس”، والكِباش”خنّوم” والصقور “حورس”، وهكذا، ثم قدسوا الشمس فأصبحت رع ثم آتون بعد ذلك، وهي نفس الفكرة التي دفعت العرب لتقديس الكلاب، فتسمّوا باسمهم “بني كلب” ثم الفهود “بني فهد” ثم النمور “بني نمر” والأسود “بني أسد – بني ليث“، وهكذا، ثم هناك جحش وغُراب وعنزة، كلها قبائل انتسبت لحيوانات وطيور اعتقد أجدادهم الأوائل بقدسيتها، ثم قدسوا الأفلاك كالهلال وتسموا أيضًا به “بني هلال“، وربما كراهية الكلاب بعد ذلك عند العرب كانت سياسية، لأن الكلابيين كانوا حلفاء الأمويين ضد الهاشميين، فخرجت أحاديث معارضة تأمر بقتل الكلاب السود وتقول بنجاسة الكلب انتقامًا من القبيلة.
ففكرة الطوطم هي تسمية الكائن المقدس، فلو فرضنا أن الطوطم (كلب) فيحرم أكل الكلب أو أذيته، ويسود اعتقاد شعبي داخل القبيلة/ الجماعة أن الكلب يحرس تلك القبيلة بالذات لأنهم أبناؤه، فإذا عَضّ أو قَتَل واحدًا منهم ينتفضون فورًا بترجمة ما يحدث أنه خطر، وأن إلههم غاضب؛ فيُقدّمون له القرابين ويُحذّرون أبناءهم من التعرّض له، وأن المعضوض أو المقتول هو المخطئ المعتدي، فبالتالي يمكن للكلبيين قتل النمر وأكله، لكنهم يمتنعون عن الكلاب.
شيء آخر في الطوطم أنه ليس بالضرورة أن يكون حيوانًا مفردًا أو كائنًا واحدًا؛ بل للفصيلة كاملة؛ فبنو كلب يعتقدون بقداسة من يعتقدونهم كلابًا؛ كالأسود مثلاً، وبالقراءة في أنساب العرب نجد أن بني أسد هم فرع من بني كلاب، وفي التراث أحاديث تصف الأسد بالكلب، وهذا طبعا غير صحيح علميًا، فالأسود من السنوريات، أي القطط الكبيرة، لكن لم يُكتشف قديمًا ذلك ولم يعرفه العرب ، ومن النوادر أنني كنت أتحدث قديمًا مع سلفي من مجاذيب الإعجاز العلمي في السنة، وحكى لي حديثًا أن الرسول بشّر فيه رجلاً من الأعراب أن كلبًا سيقتله ثم قُتِلَ الرجل فعلا في خيمته، ولكن من أسد، ووجه الإعجاز العلمي أن الأسد يعتبر كلب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
في علم النفس والأنثربولوجي يعتقدون أن الطوطم إثبات أن البشر الأوائل لم ينسوا أجدادهم الذين انحدروا منهم، فانتسابهم للحيوان وتقديسه ربما يدل على وجود صلة قديمة، ربطوا بينها وبين اكتشافات داروين، بمعنى أن الإنسان الأول لم يفقد الصلة بينه وبين أسلافه، وظل على اتصال نفسي بهم إلى أن تطور عقله واعتبرهم أجداده، وبرغم أن العلم لا يقول بذلك حرفيًا لكن ثبت أن البشر والشمبانزي من سلف مشترك غير عاقل، أي ليس بالضرورة أن انتساب الإنسان للأسود معناه أن الإنسان كان أسدًا، ولكنه الميل الشعوري للحيوان على مدار ملايين السنين.
فمُجمل ما حدث لموقف المسلمين من الكلب أنه وراثة أموية لصراعات سياسية، أحد أطرافها قبيلة بني كلب، فأخذ خصومهم ذلك الموقف المتشدد من الكلاب لإهانة واستفزاز القبيلة بالكامل، ولعدم تقديس حيوانات الخصم طبقا لنظرية الطوطم والتابو، وهذا تفسير للتباين الهائل بين موقف القرآن المتسامح والطبيعي من الكلب، وموقف الروايات التي تتسم بالعدائية، وهذا واضح جدًا من قصص المهدي المنتظر التي ذكرت قبيلة بني كلاب كأعداء للمهدي، وفي ذلك اشتهر حديث عدوّ المهدي بهذا النص: “ثم ينشأ رجل من قريش أخواله كلب، فيبعث إليهم بعثًا فيظهرون عليهم وذلك بعث كلب، والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب”، والظاهر أن قبيلة بني كلاب كانت حليفة للسلطة السياسية في العصرين؛ الأموي والعباسي؛ فيكون المهدي المنتظر هدفًا لتلك القبيلة؛ مما دفع ودعاة حلفاء للانتقام من العشيرة بالكامل عبر ترويج وإشاعة قُبح ونجاسة الكلب.
أما عن دور الأمويين الرئيسي في وضع الحديث؛ فالقصة بدأت من الصحابي معاوية بن أبي سفيان، الذي أقر عقيدة الجبر ومقولته الشهيرة: “لو لم يرني ربي أهلاً لهذا الأمر ما تركني وإياه”؛ فكانت هي البذرة الأولى لخلط الدين بالسياسة وتشريع حكم الأمويين بدعوى أنه قضاء الله وقدره، وعلى الشعوب أن تسمع وتطيع وإلا ستكون كافرة بذلك القدر الإلهي، علمًا بأن هذه المقولة الجبرية لها جذور أقدم في كلمة الصحابي عثمان بن عفان: “لا أخلع قميصًا سربلنيه الله”؛ ردًا على الثوار الذين طالبوه بالتنحي؛ فعثمان كمعاوية؛ كانا يريان أن مُلكهما بإرادة إلهية مطلقة، وليس مجرد سلطة دنيوية زمنية، وهذا الخط الفكري هو الذي ساد طوال الحقبة الأموية لمدة 90 عامًا.
كان الرسول وقتها يمنع تدوين حديثه ويأمر أصحابه فقط بالقرآن، وأشهر من التزم بذلك هو الصحابي “عمر بن الخطاب”، الذي سجلت له أكثر من واقعة في ضرب الرواة والمحدثين، ورغم ذلك خالف معاوية هذا الأمر وأعطى سلطة مطلقة لشخصين؛ هما “أبو هريرة” و “كعب الأحبار” لتلك المهمة، علما بأن كعب الأحبار لم يكن مجرد حبر يهودي أسلم، فقد كان مفسرًا وقصاصًا بارعًا، ويسجل التاريخ أن دوره المحوري في صناعة الحديث والتفسير جعل الفقهاء يشكون في علاقة أبي هريرة به كالإمام النووي، ويمكن اختصار دور كعب الأحبار في نشأة دين السنة والحديث كدور القديس بولس في نشأة المسيحية.
علمًا بأن هذا النفوذ لكعب الأحبار وأبي هريرة في عصر معاوية تم توظيفه في شيطنة خصوم الأمويين في العراق؛ بينما قاموا بتمجيد أراضي الشام معقل سلطة بني أمية، فظهرت أحاديث فضائل الشام وكونها أرض المحشر وكفالة الله بها ليوم الساعة، وزيادة في الإثارة جعلوها هدف الدجال لتصوير خصوم الأمويين بالكفر، وعليه فكافة أحاديث وروايات تمجيد الشام وشيطنة العراق خرجت بهدف سياسي أموي، كانت العراق وقتها موطن المعارضة والتمرد العسكري على بني أمية؛ سواء من أنصار الإمام علي وآل البيت، أو من خلفائهم ومحبيهم من الطالبيين في عصر لاحق هم الذين ساعدوا جيوش خراسان العباسية في القضاء على السلطة الأموية مطلع القرن الثاني الهجري.
ويمكن ملاحظة ذلك من بعض عبارات التراث في هذه الحقبة التي عن طريق فهم مصطلحاتها تكون لدينا بعض مفاتيح وأسرار هذا العصر؛ فالأصل أن المصطلحات التاريخية بنت زمانها وأحداثها تجدونها في كتب التاريخ؛ خصوصًا ما يسمى (ملاحم آخر الزمان) التي تم تحريفها من الشيوخ في وضع أحاديث علامات الساعة.
وأذكر هذه المصطلحات منها:
- الرايات السود؛ والمقصود بها الثوار العباسيون ضد الخلافة الأموية، وقدومهم كان من المشرق فعلاً، وسواد راياتهم لأنهم كانوا شيعة منتسبين لآل البيت وامتدادًا لثورة المختار الثقفي قبلها بعدة عقود.
- الرايات الصفر؛ المقصود بهم الأمازيغ الثوار ضد خلافة هشام بن عبدالملك، وما نتج عن ثورتهم بدولة خوارج في المغرب.
- المهدي المنتظر؛ المقصود به الخليفة العباسي الثالث (محمد بن عبدالله المهدي) ابن الخليفة “جعفر المنصور”، وأحاديثه هي أساس تكوين فكرة المهدوية السنية، لأن المهدوية السابقة كانت فقط عند الشيعة، ومن هذا الباب رد كثير من فقهاء السنة أحاديث المهدي لعلمهم أنها موضوعة.
- المعراج؛ المقصود به معراج زرادشت نبي المجوس؛ ففي زمن المهدي وبدايات الثورة العباسية دخل كثير من المجوس الإسلام وعرفوا بـ (البرامكة)؛ فنقلوا كثيرًا من معتقدات الزرادشتية للإسلام؛ كالمعراج وحرية الاختيار وقدم الكون، وغيرها.
- إذا اقتتل ثلاثة خلفاء عند كنزكم فانتظروا المهدي، مقصود بهم أحفاد عبد الملك بن مروان (يزيد بن الوليد – والوليد بن يزيد – سليمان بن هشام) ، وهؤلاء الذين اقتتلوا على الملك الأموي بعد موت الخليفة “هشام بن عبدالملك” آخر ملوك الأمويين الأقوياء سنة 125 هـ، وقائلو هذا الحديث كانوا مستقلين، لا هم أمويون -بدليل انتظارهم للمهدي الخليفة العباسي الثالث-، ولا هم عباسيون بدليل إيمانهم بأن اقتتال بني أمية علامة من علامات الساعة، والراجح عندي أن هؤلاء كانوا من العوام الذي مسهم الظلم والضر من حروب الثورة العباسية؛ فعندما جاء المحدثون لاحقًا في القرن الثالث الهجري نزعوا هذه الأحداث من سياقها ورووها للناس كعلامة من علامات الساعة آخر الزمان.
الوحيد الذي رواها بسياقها هو “نعيم بن حماد” تـ 228هـ في كتابه الفتن، الذي عنون لها أبوابًا بعناوين: (علامات انقطاع ملك بني أمية – وخروج بني العباس) ، لكن ولطريقة نعيم في ذكرها كتنبؤات تم قبولها وتطويرها من محدثين لاحقين على أنها من علامات الساعة، علمًا بأن نعيم بن حماد ذكر الفتنة بين العباسيين – الخراساني والمنصور، المنصور والنفس الزكية – على أنها من علامات ملك الرايات الصفر (الأمازيغ)، وهذا لم يحدث، وبرأيي أن روايات ملك الرايات الصفر واختراع شخصية السفياني التي تنتقم من العباسيين، هي تطور “خيالي” لاحق للقصة الأصلية في الثورة العباسية، وعندما جاء الوهابيون في القرن 20 جمعوا كل تلك الروايات وأشاعوها للناس على المنابر والقنوات الفضائية وفي الكتب لحشد الناس للقتال وإحياء دولة المهدي، برغم أن نعيم ذكرها أول مرة في أحداث انقضاء ملك بني أمية، لكن القوم بلغوا من الغباء والضحالة ما بلغوا، وصمتوا عن تصريح حماد بالتخصيص، وقبلوا تعميم الصحيحين وبقية الكتب التسعة، وخصوصًا ما ذكره الألباني وابن باز في تصحيحها، وما أدراك ما الألباني وابن باز عند الجماعات، وما فتنة جهيمان العتيبي واحتلال الحرم المكي إلا تعبيرًا عن هذا الخلط التاريخي والفكري الكبير الذي عانى منه المقلدون والفكر الإسلامي بشكل عام جراء تسلط الوهابية وشيوع وقوة مذهب المحدثين.
كان هدف الأمويين من وضع الحديث والتفسير ليس فقط تشريع حكم الخليفة بإرادة إلهية، ولكن لتبرير ما حدث في الفتنة الكبرى، وأنها ليست ظلمًا؛ فبدأ الفقهاء بتشريع قولين:
- هذه فتنة نجانا الله منها.
- المجتهد له أجران إذا أصاب، وأجر واحد إذا أخطأ.
ثم حملوا خروج معاوية على الاجتهاد، علمًا بأن القاعدة الأخيرة كانت سببًا في تشريع العمليات الانتحارية وتجميل القبيح في عيون أصحابه، حتى أصبح المسلم خطيرًا على غيره؛ فالقاعدة خرجت لتبرير الفتنة الكبرى بين الإمام علي ومعاوية بهدف الرد على المشككين في عدالة الصحابة، أو في معاوية والأمويين على وجه الخصوص، أي أن الباعث وراء القاعدة سياسي مرتبط بمصالح خلفاء الدولة الأموية، والسبب في تخصيص معاوية بالذات، أنه معدود ضمن الفئة الباغية، هكذا يتفق (كل) علماء المسلمين سنة وشيعة، لكن بهذه القاعدة نجحوا في تبرير (بغي) معاوية أنه كان اجتهادًا خطأ، وبالتالي فهو صاحب أجر واحد.
والمصيبة في تفسيرهم لمعنى (الخطأ والاجتهاد) ، فيعدون كل ضال مع نية صالحة مخطئًا، والسبب في ربط هذه القاعدة بحديث الأعمال بالنيات؛ فأصبحت القاعدة متكاملة ومفهومة في أذهان الفقهاء اختصارها، “أن الأعمال بالنيات والمجتهد نيته صالحة؛ فإن أخطأ فهو مأجور على أي حال”. أما الاجتهاد فهم يعدون كل باحث عن الحقيقة (داخل مذهبهم) مجتهدًا، وبالتالي لا يجوز البحث عن الحقيقة خارج المذهب، والسبب أنهم يكرهون الشك ويُبغضون أصحابه ويُكفّرون أي شكاك، فما تفسيرهم إذًا لمعنى البحث عن الحقيقة؟
ستجده قولاً واحدًا، أن تبحث من خلال فتاويهم وطريقتهم في التفكير، بذلك أصبح الاجتهاد محصورًا ومحبوس داخل صندوق المشايخ، فإذا أردت الخروج كان ردهم الشهير، "لا يأكل الذئب من الغنم إلا القاصية، ومن شذ؛ شذ إلى النار"، وكأنهم يعترفون على أنفسهم أنهم مجموعة من الغنم لا تعقل شيئا!
فحسب المعنى الشائع للاجتهاد والخطأ لديهم يكون القاتل بنية صالحة هو مجتهد مخطئ في آنٍ واحد، وقد انطبق ذلك على المنتحر أيضًا، وهذا هو السبب في شيوع الانتحار عند مجاهديهم في سوريا والعراق، وأي مكان في العالم؛ بحيث يُقدم المنتحر على فعلته مستعينًا بنواياه الصالحة، فإذا كان مصيبًا في الآخرة أصبح مع الشهداء، وإذا كان مخطئًا فهو مأجور في ميزان حسناته، أي جعلوا السيئة حسنة تحت أي ظرف، والقبيح جميلاً أيًا كان!
وبالتالي، فهذه القاعدة الفاسدة سببت غيابًا كاملاً للوعي، ولم تكن كذلك لولا أنها نتيجة طبيعية لجمود الفقه الإسلامي، ونكرانهم للعقل والفضيلة، وكما قلت: إذا ذكرت هذه القاعدة ذكر أيضًا حديث الأعمال بالنيات، وكأن مخترعو هذه الأحاديث وتلك الفتاوى كانت لهم أهداف (إجرامية) مسبقة يبحثون لها عن تشريع مناسب، ولم يجدوا إلا نسب أقوالهم لله وللنبي، حتى أصبحت صورة الله والأنبياء في منتهى السوء، ولم لا والأغبياء يكررون نسب جرائمهم القبيحة لربهم بكل ارتياح، بل تجد أغبى منهم يصدق أنهم فعلاً مخلصون أو حتى مجتهدون.