على الرغم من ريادة مصر في تلاوة القرآن الكريم على مدار عقود، إلا أن تراجعا واضحا في مستوى القراء بها دفع العديد -خاصة الشباب- إلى الاتجاه لسماع أصوات قرّاء أبناء الخليج العربي، والتي ساهم في انتشارها ازدياد عدد القنوات الخليجية المخصصة للقرآن الكريم وأيضا انتشار الانترنت.
قراء مصر العظام في بدايات وأواسط القرن العشرين، ساهموا إلى جانب فنانيها في خلق هوية مصر، تلك الهوية التي أثّرت بفنها في العالم العربي وبمدرسة تلاوتها للقرآن الكريم في كامل العالم الإسلامي. والآن، عبر مدارس التلاوات الخليجية تتشكل هوية فريدة تؤثر وتتأثر بطبيعة بخصوصية المجتمع الخليجي بشكل عام وطبيعة كل دولة فيه. تلك الهوية التي تخلق معنى متماسك وواضح لمفهوم المواطنة.
نحاول في رصدنا لتراجع قرّاء مصر وتصدر أبناء الخليج تتبع آليات تطور الهوية الخليجية عبر مدرسة تلاوتها التي تصدرت المشهد الآن، وأثر تلك الهوية على محيطها الجغرافي.
دور "الكتاتيب" والأزهر وإذاعة القرآن الكريم
تعد “الكتاتيب” ركنًا أساسيًا في معرفة أبناء مصر بالقرآن الكريم؛ إذ إنها انتشرت في القرن الماضي بأنحاء الدولة كافة، وتخرج فيها العديد من القراء الذين أصبحوا أعلامًا في هذا المجال، وذاع صيتهم في البلاد العربية وغيرها.
وما يؤكد الدور الهام لـ”الكتاتيب”، ما ذكره الشيخ الراحل محمد محمود الطبلاوي، نقيب المقرئين السابق في حوار له؛ إذ أكد أن “الكتاتيب معمل لتفريخ العظماء؛ سواء من قراء القرآن الكريم أو العلماء”. بدأ الأمر مبكرًا في القاهرة، وربما منذ عهد سلاطين المماليك (1250 – 1517)؛ إذ يقول حلمي النمنم، في مؤلفه المعنون بـ”الأزهر، الشيخ والمشيخة”: “كان السلاطين يحرصون على أن تخلد أسماؤهم بمنجزات ملموسة، ولذا كان يسعى كل منهم إلى بناء جامع، أو إلى أن يوقف من أملاكه وثرواته على بعض الجوامع، مثل الأزهر، ولم يكن بعضهم يكتفي بالجامع وحده؛ بل كان يلحق به سبيلًا وكتابًا لتعليم القرآن الكريم، ومدرسة علمية وفقهية”.
وجاء الأزهر أيضًا، الذي اهتم بتحفيظ القرآن الكريم إلى جوار التجويد، ما ساعد في تقوية أبناء القاهرة في هذا المجال، وعندما افتتحت إذاعة القرآن الكريم في مصر آذار/مارس عام 1964، احتضنت بعض الأصوات، وأصبحت منصة لهم، ومنها عرفهم أهل القاهرة، وانطلقوا إلى الدول العربية المجاورة، وبات هؤلاء القراء يطلبون لإحياء مناسبات عديدة بها.
وعرف المصريون العديد من القراء من خلال إذاعة القرآن الكريم، أكثرهم عبر تسجيلات قصيرة، وليس مصحفًا كاملًا، منهم الشيخ محمد رفعت، الذي يذاع القرآن بصوته في السابعة صباحًا يوميًا، وغيرهم بمصحف كامل، وهذا الأمر انفرد به خمسة قراء فقط إلى وقتنا الحالي، وهم: محمود خليل الحصري، عبد الباسط عبد الصمد، محمد صديق المنشاوي، محمود علي البنا، مصطفى إسماعيل.
تراجع المدرسة القرآنية في مصر
لكن مع الوقت بدأت “الكتاتيب” في الاختفاء، ولم يعد هناك إقبال على حفظ القرآن الكريم كما كان الحال سابقًا، بالإضافة إلى تراجع البعض عن إدخال الأبناء الصغار إلى المعاهد الأزهرية، أو اهتمام أكثر الطلاب الملتحقين بها بالدراسة في كليات الجامعة العلمية، والابتعاد عن الأخرى الشرعية، ما جعل هناك تراجعًا كبيرًا في مستوى قراء كتاب الله. وإلى جانب ذلك، وضعت إذاعة القرآن الكريم قواعد وأسسًا صارمة في اختباراتها لقبول القراء، وما يدل على ذلك أن “المصحف المرتل” لا يذاع إلا بأصوات الـ 5 قراء المذكورين أعلاه، دون ضم غيرهم، حتى إن الراحل محمد محمود الطبلاوي، رغم ما كان يتمتع به من محبة كبيرة من قبل قطاع كبير من المصريين وغيرهم؛ إلا أن “مصحفه المرتل” الذي سجله لم ينطلق عبر أثير هذه الإذاعة حتى هذه اللحظة.
ويشار إلى أن “الطبلاوي” التحق فعليًا بالإذاعة، بعد معاناة كبيرة، لكن لم يُذع “المصحف المرتل بصوته”، وهنا يقول بنفسه في حوار سابق له قبل رحيله: “وجدت صعوبة كبيرة في الالتحاق بالإذاعة المصرية لمدة 9 سنوات؛ إذ تقدمت للاختبار 5 مرات، ونجحت في السادسة”، لافتًا إلى أن “لجنة الاستماع بالإذاعة كانت تؤجل لي عامًا بعد آخر، بسبب افتقادي ما يسمى بالانتقال النغمي”.
وهذا يجعلنا نستشعر مدى قيمة الـ 5 قراء المذكورين؛ إذ إنهم استطاعوا الالتزام بالمقامات الصوتية، إلى جانب ما تمتعوا به من عذوبة الصوت، ودقة في مخارج الحروف، والوقف بحزم على الأحكام، ودع عنك كل ذلك؛ كان الأهم بالنسبة لهم حب القرآن الكريم، الذي يشعر به المستمع، وكأنه اختلط بدمائهم، ولنضرب مثالا على ذلك بعظمة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وهو يتلو قول الله تعالى في سورة يوسف: (وقالت هيت لك)، بجميع الروايات.
وبناء عليه، لم يعد أحد يهتم بالقرآن الكريم على هذه الكيفية، وذلك إلى جوار الأسباب السابقة المذكورة آنفا، أدى إلى تراجع المدرسة القرآنية في مصر، وهناك عوامل أخرى ساهمت في ذلك، لكنها جاءت عبر دول الخليج.
نشر الوهابية وأشرطة قراء الخليج
دفعت الحاجة إلى لقمة العيش، العديد من المصريين في النصف الثاني من القرن الماضي إلى السفر إلى دول الخليج للعمل، وفي ظل ذلك بدأت “أشرطة القرآن الكريم” في الظهور، بأصوات قراء الدول العربية المختلفة، وعلى رأسها السعودية؛ خاصة أن الحرم المكي بها، فحملوا بعضها عند عودتهم إلى القاهرة، وبدأت تغزو الأسواق المصرية.
ومع ظهور الشبكة العنكبوتية أيضًا، كانت أكثر التحميلات أيضًا من نصيب أبناء الخليج؛ خاصة أن الإنسان بطبيعة الحال يألف سماع الأصوات الجميلة في كل شيء؛ لاسيما في القرآن الكريم، لكن القليل من يتيقن أن الأمر مع كتاب الله لا يتعلق فقط بصوت حسن، وإنما بالجودة والاهتمام بمخارج الحروف، وغيرها من الأحكام، كما أن الجيل الحالي من الشباب يألف القراءة السريعة أكثر من المتأنية، ولا يحب كذلك التكرار الذي قد يتبعه بعض القراء.
ويدعم هذا الطرح، ما ذكره الباحث الراحل حسام تمام، في مؤلفه “الإخوان المسلمون: سنوات ما قبل الثورة”؛ إذ يشير إلى أنه في سبعينيات القرن الماضي بدأ دور مصر الديني يتراجع، حين شُل دور الأزهر، وانسحب من المشهد الديني العربي والأفريقي أيضًا لصالح النفوذ البارز الذي بدأت السعودية تلعبه على صعيد نشر الوهابية خارج حدودها؛ بما في ذلك مصر.
ويؤكد “تمام” أن المشهد الديني في مصر بدا بصدد الميل إلى سلفية في السلوك، ويبرر ذلك بقوله: “لقد عمل عدد كبير من المصريين في السعودية والخليج عمومًا، فتأثروا بنمط الحياة هناك، وإلى مصر نقلوا الكثير من مظاهره، والأهم من ذلك أنهم نقلوا جزءً كبيرًا من التكوين الديني السلفي، لنلاحظ مثلًا كيف انتشرت أشرطة القرآن الكريم بأصوات سعودية؛ مثل الحذيفي والسديس والعجمي لاحقًا، لتحل محل القراء والمرتلين المصريين؛ أمثال عبد الباسط عبد الصمد والحصري والمنشاوي وغيرهم”.
الأقمار الصناعية
ومع تقدم العلم والتكنولوجيا، وانطلاق جيل الأقمار الصناعية، خصصت بعض الدول العربية بعض القنوات لإذاعة القرآن الكريم، بأصوات قراء عدة من جميع البلاد، أشهرها “المجد للقرآن الكريم”، مع جعل بعضهم يقدم على سماعهم؛ خاصة -كما ذكرنا- أن الاعتماد في الأغلب على حسن الصوت الذي يأخذ الألباب، بجانب الإيقاع السريع، وعدم الإطالة، التي لم تعد محببة للجيل الحالي.
واتخذت بعض إدارة القنوات القرآنية وسيلة أخرى، لجذب المستمعين؛ وهي إذاعة القرآن الكريم، وفي الخلفية صورة للكعبة المشرفة، وربما بثًا مباشرًا من أمامها، وهو بالطبع ما له تأثير كبير؛ إذ يجتمع الصوت والصورة معًا، ويلعب على وتر العواطف، ويزداد الأمر تعلقًا إذا كان ذلك نقلاً من صلاة طويلة؛ مثل التراويح في رمضان، بأصوات استقرت في الأذهان؛ مثل “السديس، الشريم، الحذيفي، المعيقلي”.
ورويدًا رويدًا ظهرت تطبيقات الهاتف المحمول، وقبلها موقع “يوتيوب”، الذي انتشرت عليه العديد من أصوات القرآن الكريم من العالم أجمع، وساهم ذلك في ذيوع صيت العديد من القراء الذين تعلق بهم الشباب خاصة، مثل: فارس عباد، سعد الغامدي، رعد الكردي، هزاع البلوشي، ناصر القطامي، وغيرهم.
ولم يعد الكثير يهتم بالقراءات المطولة التي ربما يطلق عليها “ختمة مجودة”، وهو ما امتاز به أبناء القاهرة في الفترات السابقة، وأصبح الأمر متعلقًا بالصوت الحسن والقراءة السريعة، دون تكرار أو ما شابه.
كل ذلك ساهم في تراجع مدرسة القرآن الكريم في مصر، ومع انتشار القنوات التي أشرنا إليها أصبح العودة إلى إذاعة القرآن الكريم، أو الاعتياد على سماعها يوميًا -كما كان الحال سابقًا- أمرًا نادرًا، إلا لكبار السن الذين تعلقوا بها منذ زمن بعيد، وما زالوا يستمدون حلاوة القرآن من ألسنة قرائها.
انتشار مقرئي "المآتم"
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى نوع آخر من قراءة القرآن غزا مصر في السنوات الأخيرة، على يد بعض المشايخ في “المآتم”، وهو الذي يكون من أجل اكتساب المال، والإغداق على بعض المحيطين به “البطانة”، ويعتمد على القراءة بطريقة لا تكن محببة للكثيرين، ما ساهم بدوره في تدني مستوى القراءة والمدرسة القرآنية العظيمة التي عرفت القاهرة بها.
أطلق كل واحد من هؤلاء على نفسه لقب “قارئ”، وبعضهم لا يحفظ القرآن الكريم كاملًا، ولا يعرف شيئًا عن المقامات الموسيقية، وأحكام التجويد، والمتون الخاصة بذلك، وربما لا يمتلك صوتًا جيدًا، وتحول الأمر إلى منفعة مالية دون الاهتمام بالمساهمة في استرداد المدرسة القرآنية في مصر عافيتها، وتصدرها ريادة العالم مجددًا، وأصبح من الصعب أن نرى من يقبل على كتاب الله بحب مثلما فعل قراء الجيل الماضي، الذين وضعوا القاهرة في سماء المجد.
وبناء على ذلك، أصبح المجال متسعًا وفسيحًا أمام قراء الدول العربية، لتصدر المشهد الحالي، في ظل كثرتهم وتمتع أغلبهم بحسن الصوت.