يفتتح فيلم “الضيف“- تأليف إبراهيم عيسى وإخراج هادي الباجوري- بمشهد ليحيى حسين التيجاني (خالد الصاوي) وهو يصوب لرأسه مسدسًا ويسجل اعترافًا يقر فيه بفشل مشروعه التنويري.
يقول التيجاني: "أنا الدكتور يحيى حسين التيجاني، الكاتب والمفكر، بعد 12 كتابًا ومجلدًا، وبعد عشرات المحاضرات واللقاءات التلفزيونية، وبعد حوالي ثلاثين سنة من محاولتي تنوير عقول الناس والإصلاح الديني، أُعلن أنني فشلت وأنني أسحب كل ما كتبت وكل ما قلت".
يترك هذا المشهد الافتتاحي التشويقي أسئلة لدى المشاهد عن الأسباب التي دعته إلى هذا الإعلان، وهل هذه النهاية مطابقة لواقع التنوير في معركته ضد التطرف؟
الخروج من الدائرة
ما سيظنه المُشاهد انتحارًا سيتكشف في المَشاهد الأخيرة عن مفاجأة يستكمل بها السيناريو مشهد الافتتاحية، وتكشف تقنية السرد الدائرية هذه عن أزمة التنوير وفشله، وعن سلاح غير الكلمة للخروج من الحلقة المفرغة. في هذا المشهد ينظر الصاوي/التيجاني إلى الكاميرا؛ ليكون المُشاهد شاهدًا وحَكَمًا على بيان التنوير وسلاحه الجديدين، وليُشركه في الحوار المثير للجدل بين خطاب التنوير الذي يمثله التيجاني، وخطاب التطرف الذي يمثله أسامة (أحمد مالك).
صُوِّر مشهد الافتتاحية بتقنية البث الشخصي المباشر أو المسجَّل، ليوحي بأنه اعتراف طوعي بالفشل، وبربط مشهد الافتتاحية بمشهد الخاتمة؛ يتأكد هذا الفشل، لكن من منظور آخر؛ هو تحوُّل الفكر التنويري إلى استعمال العنف، الذي طالما نبذه؛ ما يفيد في النهاية استحالة إقناع المتطرفين بالفكر والموعظة الحسنة، ولكن باستعمال سلاح التطرف نفسه.
يستعمل أسامة الحوار كسلاح في محاولة لإقناع خصمه، لكنه يدرك أن هذا السلاح غير كافٍ، أو غير مُقنع، ولذلك كان قد أعد سلاحًا آخر في قلب لوحة فضية مؤطرة مكتوب فيها آية “قم فأنذر”، وبهذا السلاح يكشف أسامة عن وجهه الحقيقي وعن نيته المبيتة، وعن أن الحوار ليس إلا مظهرًا يخفي وراءه السلاح الحقيقي لهذه الجماعات التي لا تؤمن إلا بالعنف وسيلة للتعامل مع المختلف.
سيمارس أسامة العنف بطريقة تتناسب مع أناقة الدعاة الجدد، سيجعل القتل وكأنه انتحار، يخاطب التيجاني: “هو انت فاكرني حقتلك عشان يقولوا عليك البطل الشهيد؟ وتبقى رمز للحرية؟ انت لازم كل أفكارك تتمحي بيدك.. لازم المرتد يُذل، مش مُفكر شهيد مات برصاص الإرهاب؛ لا، دا شخص ضعيف وجبان وقتل نفسه قصاد عيلته، الدكتور يحيى حينتحر، حيقتل نفسه.”
وفي إشارة إلى قوة التطرف وانتشاره بين الطبقات الاجتماعية المختلفة يقول أسامة: “أنا ولا جاهل ولا فقير ولا ابن إخواني… عايزين نقلكم يا دكتور إننا ممكن نخش بيوتكم وعلى سرايركم، مش حنستناكم على باب بيت أو مكتب..”. يكشف هذا الحوار عن شكل الإرهابي المعاصر الذي يدخل البيوت من أبوابها، ليس اقتحامًا، ولكننا نفتح له الباب ونرحب به ونعامله كضيف (عبر التلفزيون)، ثم نفاجأ بأنه صاحب بيت وبأنه يخفي ما لا يظهر، وأن وجهه الوسيم وملابسه التي “على الموضة” ليست أكثر من قناع يخفي وجهه القبيح. هذا النوع من الإرهاب لن يجدي معه الحراسة التي خصصتها الدولة للتيجاني؛ وأصبحت قيدًا على حريته لدرجة التهرب منها. ثمة حيل كثيرة يمكن للتطرف بها أن يتخطى الحراس؛ كأن يدخل البيت خاطبًا ود أهله وطالبًا القرب منهم، مثلما فعل أسامة الذي أتى -في الظاهر- ليخطب فريدة (جميلة عوض)، وفي الحقيقة ليخوض معركة مع أبيها؛ بدأت بالحوار وانتهت بالرصاص.
وجها لوجه
الدكتور التيجاني نموذج للمتدين المستنير، مفكر يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الحداثة والتدين المعتدل. وبيته نموذج للبيت المصري المنشود، المكون من أب مسلم وأم مسيحية، لتكون هذه الصورة نموذجًا للتعايش داخل الأسرة المصرية الأشمل (مصر)، لكنها صورة تكرس الإسلام كذكر (رجل) والمسيحية كأنثى (امرأة)؛ وكأن عكس هذه المعادلة فيه إخلال لنموذج التعايش المطلوب!
التيجاني من منظور الناس شخص مثير للجدل، فهو كما جاء على لسان زوجته مارلين أو ميمي (شيرين رضا)، وهي تلخص صورته في أنظار الناس: “نُص بيقول عليك إن أنت عميل للدولة، والنُّص التاني بيقول إن أنت بتحاول تهدم الدولة، وفيه نُص غير النُّص الأولاني بيقول عليك إنك كافر، وفي نُص تاني بيقول إن أنت علماني مزيف.”
ينسجم أداء خالد الصاوي الهزلي مع شخصية المفكر يحيي التيجاني، الذي اختبر الحياة وتوصل إلى أنها لا تستحق الجدية والصرامة. إنسان متصالح مع نفسه ومع المحيطين به، والتقرب منه يعطي صورة أخرى غير تلك التي يتناقلها الناس، ما يشهد بضرورة عدم الحكم على الناس من خلال المظهر.
أما أسامة فهو نموذج للمسلم العصري؛ فهو -من حيث الظاهر- “لابس عالموضة”، ويعمل معيدًا في الجامعة، درس في أمريكا “هندسة ميكانيكية”، والده وكيل وزارة صناعة سابق، وأمه ناظرة مدرسة، ويعيش في حي راقٍ (التجمع الخامس)، يُعرِّف نفسه بأنه “مسلم وسطي”، لكنه من حيث الفكر يؤمن بكل المقولات السلفية المتطرفة. أسامة من وجهة نظر حبيبته فريدة، قبل أن تكتشف حقيقته: “يحاول يعمل توازن ما بين الدين وبين المجتمع الذي نعيش فيه اليوم”، لكن ما تراه فريدة توازنًا هو من وجهة نظر أمها “حيرة” أو “فصام”.
والفكر الذي يمثله أسامة يدخل بيوتنا من خلال التلفزيون، في صورة الدعاة الشباب الذين يعرضون بضاعة التطرف ذاتها؛ لكن بأسلوب مختلف وصورة جذابة تستهوي أقرانهم من الشباب.
حوار عاصف وقضايا شائكة
الحوار في الفيلم مشوق، والانتقال من موضوع إلى آخر سلس، كما نجح الباجوري في إدارة الكاميرا ضمن نطاق الموقع الواحد دون أن يقع الفيلم في الرتابة والملل، لكن المباشرة في الطرح غالبة، ما جعل الحوار أشبه ببرامج المناظرات، مع تغليب وجهة نظر صاحب البيت وتحجيم ردود الضيف.
يعتمد السيناريو على التصوير في موقع واحد، هو منزل الدكتور يحيى التيجاني. والأفلام التي تصوَّر في مكان واحد غالبًا ما يكون الحوار هو عمادها الرئيسي، ونقطة قوتها المركزية؛ مثل فيلم “اثنا عشر رجلًا غاضبًا”، الذي يتمحور حول محاكمة هيئة محلفين لشاب متهم بجريمة قتل، هنا أيضًا يحاكم التيجاني ضيفه الشاب أسامة؛ فيفند كل مقولاته بردود جاهزة محكمة ومفحمة، وكأن إبراهيم عيسى -متقمصًا شخصية التيجاني- يحاكم أسامة بن لادن نفسه والفكر الإرهابي الذي يمثله، يضعه تحت مجهر الفكر ليقول للمشاهدين إن الإرهاب لم يتغير منه سوى شكله أو مظهره الخارجي، أما جوهره فواحد. تطلب منه ابنته أن يتفرغ لحياته ويتخلى عن الصراع مع خصومه فيقول لها: “ابن تيمية كفَّر الطير في الشجر، وهؤلاء يكفرون الشجر نفسه.” في إشارة إلى تفاقم التطرف وإلى حتمية المواجهة.
كأن أسامة كان يدرك هذه النهاية، ولذلك كان قد أعدَّ مسدسًا وضعه في لوحة “قم فأنذر”، في إشارة إلى تلغيم النص المقدس، وإلى اقتران القول بالعمل في خطاب الإرهاب، وما محاولة إقناع الخصم إلا وسيلة لإدانته لمعرفته بالمفترق الذي سينتهيان إليه.
يبدأ الصراع بين الفكرين من أول اللقاء، عندما يلمح الدكتور حسين إلى أن الخطاب “قم فأنذر” موجه للرسل؛ فهذه مهمتهم. وفي سياق المحاكمة التفكيكية لخطاب الإرهاب يتشعب الحوار ليناقش أشهر القضايا الخلافية: الموقف من الحجاب، والحرية والحب، ومعنى الحضارة، والإسلام والمسيحية، والفجوة بين الآباء والأبناء، ثم يخلص إلى حل من شأنه أن يجنب الطرفين الصدام الدامي، الذي انتهى إليه الفيلم.
جزر معزولة
يتفاجأ أسامة عند معرفته أن مارلين أم فريدة مسيحية، ردة فعله تكشف لفريدة أنها لم تكن تعرف أسامة حقًا، ويكتشف التيجاني أنه لا يعرف ابنته تمامًا، ثم تكتشف الابنة وأمها أنهما لا تعرفان ماضي الدكتور التيجاني كله، تتفاجآن عند معرفة أنه كان عضوًا في جماعة إرهابية مع الدكتور وجدي عبدالصمد الذي يُقدَّم باعتباره رجل دين متطرفًا محميًا من قبل الدولة ويكفر المجتمع ويحتقر المرأة ويحرم الفن، ويعتبر المسيحيين مواطنين من الدرجة الثانية، ويعبر عن أفكاره هذه في الجوامع والتلفزيون والدولة تغض الطرف عنه؛ لأنه يدعو للحاكم في نهاية كل خطبة، يتهم أسامة الدكتور التيجاني في أنه شريك في جريمة قتله؛ لأنه حرض الدولة عليه، فيرد التيجاني بأنه انتقده مثلما انتقد تحالف الدولة معه. هذه المفاجآت تكشف عن غياب التواصل داخل الأسرة الواحدة وعن سوء فهم سيؤدي في النهاية إلى خاتمة عنيفة.
تتمكن فريدة من الإفلات من قبضة أسامة المهددة، وفي صورة فنية معبرة، يطلق التيجاني الرصاص على أسامة ليرتطم جسده بالمكتبة خلفه، وتسقط الكتب عليه بعد أن أصبح جثة هامدة، وبهذه الصورة الرمزية تسقط الكتب في موازاة مع سقوط المتطرف، أو أن ما أسقط التطرف هذه المرة ليس الكتاب، وإنما الرصاص، ليتطابق هذا المشهد مع موقف الحكومة من الإرهاب الذي لا يمكن مجابهته إلا بسلاح العنف نفسه، كما يصور الفيلم.
أزمة التنوير بين الفكر والسينما
ما انتهى إليه فيلم الضيف، فشل التنوير، كان قد كتبه فؤاد زكريا في مقالة بعنوان "الثقافتان" (أدب ونقد عدد مارس 1994)، أي بعد أقل من سنتين على مقتل المفكر فرج فودة على يد جماعات الإسلام السياسي المتطرفة.
يرى الدكتور فؤاد زكريا أن العالم العربي والإسلامي موزع بين ثقافتين، “الثقافة المفتوحة” و”الثقافة المغلقة”، يتميز أصحاب الثقافة المفتوحة بالانفتاح على ثقافات العالم ويؤمنون بجدوى الانتفاع من تجارب الغير، والاحتكام إلى العقل مع نظرة نقدية إلى المعلومات المكتسبة، أما أصحاب الثقافة المغلقة فيؤمنون بثقافة اكتمل بناؤها الأساسي منذ أمد بعيد، وينظرون إلى ثقافات الغير بارتياب شديد، ويؤمنون بحقيقة واحدة يمتلكونها وحدهم.
ويرى زكريا أن كل جهود أصحاب “الثقافة المفتوحة”، من علمانيين وليبراليين، كالكتابة وعقد الندوات والمناظرات وإلقاء المحاضرات وحضور المؤتمرات تذهب هباءً؛ لأنهم في هذا النشاط لا يخاطبون إلا أنفسهم، ولا يؤثرون إلا فيمن هم مقتنعون أصلا باتجاهاتهم الفكرية، أما أصحاب “الثقافة المغلقة” فلا يصل إليهم حرف واحد، وإن وصل فإنه لا يؤدي وظيفته؛ لأن القلاع المنيعة لثقافتهم المغلقة على نفسها تصد أية مؤثرات تأتي من خارج الأسوار. تظهر هذه الحقيقة في واقع فيلم الضيف بفشل الدكتور التيجاني في التأثير على ابنته فريدة التي لم تقرأ لأبيها حرفًا، لا بالعربية ولا بالإنجليزية التي تفضلها، وفي المقابل تتأثر بخطاب الدعاة الجدد الصادر من دائرة التلفزيون والإعلام الشبكي الجديد.
وبالنسبة لزكريا أن حسم المعركة لصالح الثقافة المنفتحة مرتبط بانقلاب شامل في السياسة الإعلامية، وهذا مستحيل في المستقبل المنظور، كما أنه مرهون بتطورات السياسة الخارجية للدول الكبرى ومصالحها في المنطقة. السبب الآخر الذي يجعل المستقبل في أيدي أصحاب الثقافة المغلقة هو القاعدة الجماهيرية التي تشكلت باستقطاب الشباب عبر قنوات التعليم الديني المستقل عن التعليم الحكومي، ومن خلال المراكز الصيفية، والجمعيات الخيرية. والمخرج الرئيسي من مأزق التخلف يكون بفك الشراكة القائم بين الأنظمة الحاكمة والسلطة الدينية بخطابها التقليدي والتجديدي والوسطي، وحدها الأنظمة- ذاتيًا أو ثوريًا أو بالضغط من الخارج- قادرة على فك هذه الشراكة من أجل السير في ركب الحضارة.
موقف الدولة والمجتمع من الخطابين
تحضر الدولة كطرف في الصراع من خلال الحوار مع مسؤول الحراسة (محمد ممدوح)، وبهذا الحضور تعبر عن دورها المزدوج والمتناقض. يقول جودة، المكلف بالحراسة: “منين الدولة معينالك حراسة ومنين ولا مؤاخذة ممرمطاك في المحاكم؟!” يجيبه التيجاني: “لا؛ ما؛هي الحكومة مبتدخلش في القضاء.” يرد ضابط الحراسة: “لكن بتدخل في القضا.” وفي هذا التلاعب اللفظي لمرفدة “القضاء” التي تعني القانون ومفردة “القضا” العامية التي تعني “القضاء والقدر/ الموت” تلميح أو إدانة مضمرة لتورط الحكومة في قتل المفكرين بصمتها، أو بعدم وأدها للإرهاب قبل حدوثه؛ وهو دور غير محايد، يستثمر الصراع لصالح بقائه، ولا يتدخل لاستئصال أحد الطرفين إلا في حالة استفحاله أو تأثيره على تلك المصالح.
يدين الفيلم التعذيب في السجون؛ يقول التيجاني: “الإرهابي الذي يذبح والضابط الذي يعذب بالنسبة لي الاثنين مجرمين.” ولكي لا يكون التعذيب تبريرًا للإرهاب، أو تصوير الإرهاب كرد فعل للتعذيب، يقول: “اللي بيعذب ده بيعذب الكل؛ إسلامي ليبرالي يساري حرامي، أنتو بس اللي عايزين تعملوا من تعذيبكم مبرر لتعذيب الناس.”
يتناول الفيلم التطرف كنتيجة معزولة عن أسبابه الحقيقة وعن دور الدولة في رعايته، دون أن يعرض الحل المناسب؛ وهو حرمان التطرف من منابره التي ترعاها الدول عبر الإعلام والمناهج الدراسية وغيرها من المصادر والقنوات. يقول ضابط الحراسة مخاطبًا التيجاني: “أنا عندي في الإدارة حوالي 12 ضابط مبيفوتوش فرض وصيام، والقرآن عندنا مبيقطعش ليل ولا نهار، وبعدين بتقول نواجه الإرهاب بالفكر! أعملها إزاي دي؟ يعني الإرهابي يدخل عليا ماسك رشاشة وعايز يموتني أقله استنا والنبي لما تحاورني فكريا الأول؟ مينفعش. أنا أنسفه الأول، امحيه من على وش الأرض وبعدين نبقى نتناقش.” وتكشف النهاية عن انتصار لهذا التوجه؛ فقد دخل أسامة حاملًا مسدسًا ولم يستطع الفكر إقناعه، فما كان منه إلا أن استعمل مسدس المتطرف نفسه ليتخلص من تهديده.
إلى جانب تدين الدولة يظهر التدين الشعبي في أقوال مسؤولي الحراسة والشغالة فتحية (عارفة عبد الرسول)، تدين لا يفرق بين أقوال شيوخ الدين وبين القرآن. وهؤلاء البسطاء لا يختلفون عن الإرهابيين إلا في أنهم لا يحملون سلاحًا، أما من حيث الفكر فقد وصفهم الدكتور بأنهم يعتقدون أن أي شخص غير مسلم هو في نظرهم كافر.
يتهرب الفيلم من الخوض في نقد النص الديني نفسه، ويلقي باللوم على إساءة فهمه حين يسأله أسامة: “أنت عايز تقول إن المشكلة في الدين؟” فيجيب التيجاني: “المشكلة فينا، في البشر، في التسلط، المشكلة في الناس الذين يبدؤون مؤمنين ثم يتحولون إلى متطرفين وسفاحين باسم الدين.”
ويصور الحرية كعبء، في قول فريدة لأبيها الذي منحها حرية التفكير والاختيار: “أنا مش طايقة حمل الحرية اللي انتم مدينهالي. سيمبل. أنا بقى مش عايزة أشغل مخي، عايزة أبقى مع حد شخصيته قوية، مين قال إن الإنسان لما يعيش حر حيبقى مرتاح؟” لكن من جهة أخرى تحضر الحرية هنا كعبء على كاهل الشباب الذين يستسهلون الفكر المعلب على هيئة فتاوى جاهزة، ويستثقلون التفكير الذي ينطوي على إجهاد العقل والاجتهاد الحر، كما تعكس المقولة الرغبة في مخالفة الأبناء لآبائهم، والتمرد على توجهاتهم ولو من باب الاستقلال المتطرف.
يغيب البعد الإنساني في قصة الفيلم، فلا مكان للملحد واللاديني وغيرها من المعتقدات، وكأن الغائب هنا مدان ويستحق أن يوجَّه سلاح التطرف ضده، لا ضد الدولة المؤمنة والمجتمع المتدين! الإنسان هو موضوع السينما. ويمكن الإشارة سريعًا إلى فيلم “السيد إبراهيم وأزهار القرآن”، الذي تحمل مضامينه دعوة ليكون لكل منا قرآنه الخاص، بلا أنبياء أو أوصياء أو أولياء؛ فالله لا يحتاج إلى كلمات ليعلمنا الحيا؛ بل إلى زهرتين ترمزان إلى كل ما في الطبيعة والحياة من جمال ومتع.
ينقل فيلم “الضيف” وجهة نظر الدولة في موقفها من الإرهاب في الوقت الذي يوجه لها انتقادًا في بعض القضايا كالتعذيب، لكن الفيلم في حدود سياقه الخاص متقن وجدير بالمشاهدة، ويمكن أن نضعه في خانة الجهود التنويرية والدائرة المنفتحة التي تحارب التطرف بسلاح فني يحمل رسالة تقول إن السلاح نفسه الذي يستعمله الإرهابي يمكن أن ينقلب ضده.
"الضيف" و "الإرهابي"
في فيلم “الإرهابي”، سيناريو لينين الرملي وإخراج نادر جلال، يحل الإرهابي علي عبد الظاهر (عادل إمام) ضيفًا على أسرة الدكتور عبدالمنعم (صلاح ذو الفقار). وأثناء تلقيه الرعاية والمعاملة الإنسانية تتغير قناعات علي تدريجيًا وينتهي الفيلم بتضحيته بنفسه مقتولاً بيد جماعته في سبيل الحفاظ على حياة الكاتب فؤاد مسعود. “علي؛ من أسرة فقيرة؛ فهو في هذه الحالة ضحية للفقر والإحباط الذي دفعه للانضمام للجماعة الإرهابية، بينما الشاب أسامة من عائلة ثرية ومتعلمة وناجحة، وهو بهذا الاختيار يفصل مسؤولية الفقر عن صناعة الإرهاب.
قصة فيلم الإرهابي تتضمن حلَّين لمشكلة الإرهاب: الأول حكومي؛ بمجابهة العنف بالعنف، والثاني اجتماعي بدمج واستيعاب الإرهابيين، وهذا متضمن فيما فعلته عائلة الدكتور عبد المنعم، وهو ما تنتهي إليه قصة الفيلم. بينما تنتهي قصة فيلم الضيف إلى ترجيح مواجهة العنف بالعنف، بعد أن وصلت مقارعة الحجة بالحجة والفكر بالفكر إلى طريق مسدود، أجبر فيه الخطاب الديني خصمه التنويري على استعمال السلاح. يموت “علي” مدافعًا عن حرية الفكر، ويموت “أسامة” وهو يحاول قتل المفكر.
إزاء احتدام الصراع بين التيجاني وأسامة يتدخل هاني (ماجد الكدواني) ليفصل في هذا الجدل العقيم بين الخطابين قائلًا: “مفيش فايدة، أقسم بالله مفيش فايدة” معتبرًا الدكتور يحيى بأنه “يحرث في البحر.” ولذلك يقدم الحل من وجهة نظره قائلًا: “الناس مش قادرة تفهم إن محمد طه حلها من زمان” عندما غنى (مصر جميلة، مصر جميلة، خليك فاكر مصر جميلة)” يسأله أسامة: “حلها إزاي؟” يجيب هاني: “حل كل الفتن والإرهاب والتطرف عندما قال: موسى نبي وعيسى نبي ومحمد نبي، وكل من له نبي يصلي عليه ويركز مع نفسه وملوش دعوة بالتاني”.
ينتهي الفيلم بقتل الضيف (أسامة) ليقول إن الإرهابي لا يقتنع بالحجج والحوار، كما فعل بطل فيلم الإرهابي، وإن الإرهاب لا يقبل بالمساومات ولا يجدي معه سوى العنف.
ويبقى السؤال المعبر عن الأزمة: إذا كان فكر الإرهاب الذي يعشش في عقل المسلم البسيط قنبلة موقوتة في بيوتنا جميعًا؛ فما الحل مع الملايين الذين يحملون الفكر “المتطرف” نفسه؟ وإذا لم يكن ثمة فائدة من الحوار معهم؛ فكيف نَحول دون وصولهم إلى مرحلة حمل السلاح للدفاع عن الفكر الذي يؤمنون به؟