“وُجد الإنسان وحيدًا وسيغدو وحيدًا” فقبل تَشكل الحضارة، قَلما كان الإنسان مُتصلًا بالآخر، إلا بقدر ما يَتصل الحيوان بالآخر؛ أي ضِمن حتمية بيولوجية، إلا أن ظُهور المجتمع الزراعي القائم على نزعة الملكية، جَعلت من الاتصال الإنساني الوثيق ضرورة من أجل الارتقاء. في هذه اللحظة التاريخية تبرز الأُسرة الأبوية باعتبارها إحدى ركائز الحضارة، وبفعل الزمن تترسخ الفكرة، وتتوسع أكثر لتشمل العائلة الكبيرة، ومن ثم العشيرة فالقبيلة فالمجتمع. وهكذا بات الإنسان “كائنًا اجتماعيًا بالضرورة”. جُل النقاشات حول طبيعة الإنسان غالبًا ما تنطلق من مسلمات آرسطية “الإنسان كائن اجتماعي“، إلا أن منهج الشك الديكارتي يقتضي بالرجوع لهذه المسلمات ونقدها؛ فهل الإنسان كائن اجتماعي؟ أم أن الظروف والبيئة هي من جعلت منه كذلك؟ وتغيرها قد يعني النقيض؟
الإنسان وموجة الحضارة الثالثة
في كتابه “حضارة الموجة الثالثة” يَرصد المتبصر –عالم المستقبليات- “ألفين توفلر” مُؤشرات التحول من حضارة الإنسان الصناعي إلى حضارة الإنسان المعلوماتي، وَعديدة هي المؤشرات، إلا أن أهمها في هذا السياق هو توجه الجنس البشري نحو الفردانية كحالة نفسية جديدة وكأسلوب للعيش بدل التكتلات والروابط الاجتماعية. “تحدث هناك تغيرات جذرية على جميع الأصعدة القيمية، العقدية، الاجتماعية، الاقتصادية والفكرية، ولكل موجة سياق خاص بها ينتفي مع سابقاتها، مما يؤدي إلى صراع ناتج عن تصادم الأمواج” (ألفين توفلر، حضارة الموجة الثالثة)
يشبه “تُفلر” الحضارات بالأمواج؛ فيطلق كناية على الحضارة الزراعية بالموجة الأولى، التي يتصف بها المجتمع بالقبلية، وقدسية العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأسرة والمجتمع. أما في الموجة الثانية “الحضارة الصناعية“، فنجد أن العلاقات الاجتماعية بدأت تأخذ منهجًا مُغايرًا، فبدل الرابط العاطفي المقدس الذي كان يجمع أفراد المجتمع، باتت النفعية الاقتصادية أساسًا جديدًا لذلك. إلا أن قدوم الموجة الثالثة “الحضارة المعلوماتية” أنبأت بالانهيار الكامل للعلاقات الاجتماعية وتفسخها ودخول حضارة جديدة قائمة على الفردانية.
تؤكد مجريات واقع الحال عن “تصادم الأمواج” والصراع بين الحضارات الثلاث، حيث تنزع الأولى والثانية إلى الإبقاء على شروط وجودها، والتي من أهمها العلاقات الاجتماعية؛ سواء تعلق ذلك بأغراض تحقيق التوازن النفسي، أو تحقيقًا لشروط النموذج الاقتصادي القائم على وحدات العمل. في حين تنزع الحضارة الجديدة وبنفس الأغراض -السيكولوجية والاقتصادية- إلى مزيد من التفكك والتوجه أكثر نحو الفرد، ذلك المتجرد من قيود الأسرة والمجتمع، والأكثر من ذلك هو الفرد الذي يُعبر عن مَوت الأسرة والمجتمع بالتصور الحالي لهما.
الطريق نحو الفردانية
بَعيدًا عن الطرح السياسي القائل بضرورة تعظيم قيم الفرد ومصالحه على المجتمع والدولة؛ فإن مفهوم الفردانية إضافة إلى ذلك يكتسي بعدًا جديدًا في ظل حضارة المعلومات، وهو انعزال الإنسان عن المجتمع من منطلق اكتفاء الإنسان بذاته من ناحية الاقتصاد والفكر والشعور؛ أي مزيدًا من تفسخ الروابط الاجتماعية بمفهومها الشامل (أسرة، مجتمع، أمة، صداقة…) والتوجه نحو مجتمع الأفراد حيث التوافقية فيه شيء نادر الحدوث.
إلى وقت قريب لا يزال مُستمرًا في العديد من أصقاع العالم، يُعتبر الفرد المنعزل عن الجماعة مضطربًا نفسيًا. وأكثر ما يُؤكد فيه صفة الاضطراب، هو حمله لقيم وأفكار مخالفة للمجتمع. قامت المدرسة النفسية وبالأخص “الفرودية” على قيم حضارتها، وبذلك فإن اعتبار الفرد المنعزل مضطربًا يشكل أساسًا منطقيًا، إلا أن المنطق في الحضارة الجديدة يقتضي اعتبار العلاقات الاجتماعية المكثفة والمتشعبة اضطرابًا يجعل من الإنسان مُقيدًا وبعيدًا عن ذاته. هذه الذات التي طالما يصبو المرء إلى تحقيقها تحقيقًا وجوديًا يتجاوز كينونتها ضمن كل مجتمعي مُعرف.
يرى “ألفين توفلر” أن الفردانية هي في ظل انهيار حضارة المجتمع الصناعي تؤدي إلى تعميق الشعور بالوحدة، وأنه ومن أجل بلوغ حياة عاطفية مُرضية ومحيط نفسي سليم لابد من الحاجة إلى مجتمع، والحاجة إلى بنية والحاجة إلى مَعنى. تُعتبر هذه القيم أساسية للحضارة الصناعية، إلا أنها باتت مُهددة بوباء الشعور بالوحدة، هذا الشعور الذي عَمقته التكنولوجيا الحديثة التي بات إسفينًا يمزق الروابط الاجتماعية؛ سواء الأسرية، أو في الشركة وصولاً إلى تلك الائتلافات العُمالية والنضالية التي تَربط جماعات ذات أهداف ومصالح مُشتركة. فبحسب “توفلر” فإن “أحد المداخل إلى وباء التوحد والوحشة، هو المستوى المرتفع من التنوعات الاجتماعية؛ إذ تساعد لا جماهرية المجتمع وتأكيد الفروقات لا التشابهات عن فردنة ذوات الناس بإشباع القدرات الكامنة لدى كل فرد تقريبًا، وهذا ما يُعسر التواصل لدى الناس؛ فكلما تفرد الفرد ازدادت صعوبة العثور على شقيق أو عشيق تلقى عنده الاهتمامات والقيم والأذواق والبرامج الزمنية المشتركة”.
وما يخلق هذه الحالة الجديدة يعود أكثر إلى طبيعة الحضارة الجديدة القائمة على المعلومات والتكنولوجيا الحديثة. هذان العاملان المتزاوجان، خلقا واقعًا جديدًا في استهلاك المعلومات لدى الإنسان، ومن ثَمّ في تصرفات هذا الإنسان؛ إذ أصبح الفرد أمام كم معلوماتي هائل، إضافة إلى ذلك فإن الواقع الرقمي يعرض للفرد أفكارًا وأنماطًا عديدة ومختلفة، وبذلك فإن مسألة التمايز والاختلاف بين أفراد المجتمع تزداد أكثر من ذي قبل، فإذا كان مقدار التدفق المعلوماتي الضئيل ووحدة مصدرها هو الذي جعل من الحضارات السابقة تحافظ على نوع من التماثل بين الأفراد في الأفكار والمعتقدات والقيم وأنماط الاستهلاك، فإن الانفجار المعلوماتي الحاصل وتعدد مصادر المعلومات وقنواتها جعل من العسير جدًا إيجاد التشابهات والتوافقات لدى أفراد المجتمع. وبذلك فإن التميز والاختلاف بات واقعًا في الأسرة النووية ذاتها. ونتيجة ذلك حتما سيكون مزيدًا من الانقسامات ومزيدًا من التفسخ في العلاقات الاجتماعية.
كما أن هذا الواقع النفسي والاجتماعي الجديد، لا يمكن فصله عن المنظومة الاقتصادية، وهنا نجد الحاجة للإشارة إلى مفهوم مهم جدًا في نظرية “توفلر”؛ وهي إنسان الكهف. يستعير “توفلر” هذه التسمية القديمة التي تعيد خيال الإنسان إلى فترة ما قبل الحضارة للدلالة على واقع القطاع الاقتصادي والعمل في الحضارة الجديدة؛ فمجتمع المعلومات والتكنولوجيا أنتج أنموذجًا اقتصاديًا جديدًا قائمًا على المعلومات أو المعرفة، هذا الأنموذج الذي تُعتبر فيه التكنولوجيا الحديثة محركًا أساسيًا، مَكن الإنسان من العمل عن بعد، أو كما يحب العديد أن يطلق عليه “العمل من البيت”. في هذا الوضع يُستبدل مَقر العمل بالبيت كمكان للإنتاج، وهذا التغيير الهائل لا يمس فقط نمط العمل، وإنما يُؤثر عميقًا في الذات البشرية، ويعمل على تعميق الفردانية. ففي مكان العمل الجديد “الكوخ الالكتروني” يكون الفرد فعليًا منعزلاً عن بيئة العمل؛ هذه البيئة التي طالما حافظت على قسم كبير من العلاقات البشرية، وها هي الآن تنهار بانهيار حضارتها وتتوجه المجتمعات عميقًا نحو الفردانية.
الأنموذج الاقتصادي
قامت الحضارة الصناعية على الفصل بين المنتج والمستهلك، هذا الفصل الذي قامت عليه الثورة الصناعية، حيث أصبح الإنسان يستهلك ما لا ينتج خلافًا لما كان عليه عندما كان مزارعًا. إن انهيار “المستهلك” لم يؤد فقط إلى خلق مجتمعات استهلاكية، بل جعل كذلك من أنماط العمل داخل الشركة موحدة ومن عملية الاستهلاك شيئًا جماعيًا؛ فالعملية تقوم على مصانع ضخمة تنتج سلعًا معيارية يتم عرضها في السوق واستهلاكها من طرف المستهلك الذي كانت فردانيته غائبة، وبالتالي؛ فإن عملية الاستهلاك تكون جماعية، وهذا راجع إلى أن المستهلك إضافة إلى كونه جزءً من السوق فهو كذلك خاضع للمعروض من السوق.
أما حضارة المعلومات التي تنبأ بها “توفلر” والعديد من شروطها يتحقق أكثر على مر الزمان. فإنها تُنبأ بعودة المنتهلك، وإن كان بطريقة أخرى غير تلك التي كانت في الحضارة الزراعية؛ ففي كُبريات الشركات اليوم سواء تعلق الأمر بشركات الأقمشة أو العطور أو الأطعمة وغيرها الكثير من المنتجات والخدمات. فإن خط الإنتاج لم يعد كسابقه، حيث أصبحت معيارية السلع شيء من الماضي، وباتت سلسلة الإنتاج تقوم على: طلب العميل –وفقًا لرغباته وأهوائه- الشخصية، الإنتاج ثم التسليم. إضافة إلى ذلك الأخذ بعين الاعتبار أن قطاع الإنتاج غالبًا ما يقوم على حاجة لدى المجتمع يتطلب إشباعها، وبذلك فإن كانت جهة الإنتاج أمام مجتمع، فإن ذلك يعني وحدة الحاجة ووحدة السلعة أو الخدمة، في حين أن المشهد الجديد الذي يجعل من جهة الإنتاج أمام مجموعة متنوعة من الأفراد، فإن ذلك بالضرورة يعني مجموعة متنوعة ومختلفة من الحاجات، الشأن الذي يفرض منتجات وخدمات على المقاس لكل حاجة، لكل فرد.
إن هذا التغير في الأنموذج الاقتصادي يعود بدرجة كبيرة إلى طبيعة فردانية المجتمعات؛ فالأسواق المعيارية القديمة باتت سلعها متُكدسة. في المقابل تزدهر أسواق تعتمد على تلبية حاجة الفرد بدل حاجة المجتمع. إن هذا النزوع المتطرف نحو التميز عن الآخرين توسع للحد الذي يجعل من الفرد يرغب بمنتجات خاصة به، كأن يصمم لباسه بنفسه وينسق ألوانها وفقًا لأذواقه، وأن يحبر كتابته وفقًا لميولاته الشخصية. والسبب الرئيس في ذلك كما سبق وأن أشرنا إليه يعود لطبيعة استهلاك المعلومات من طرف الأفراد؛ فكثير من المعلومات والأفكار تجعل أفراد المجتمع أكثر تنوعًا، وبالتالي أنماط استهلاك متباينة.
الفردانية؛ حالة لا اجتماعية
إذا كانت فكرة التوفيق بين مصلحة الفرد والمجتمع إشكالية في الأوساط السياسية، فكيف سيكون واقع موت المجتمع؟ أمر مُرعب بطبيعة الحال؛ فتداعيات ذلك بارزة وبشدة، فالشعور بالوحدة لدى الأفراد أدى إلى تزايد حالات الانتحار، وتزايد استهلاك المواد المخدرة وحالات الطلاق، إلى جانب ذلك نشاهد تراجع الأفكار القائمة على وحدة وتجانس المجتمع. إن تفاعل هذه التداعيات مع واقع تأزم الفردانية حتما سيؤول بنتائج أكبر وأعمق، ومنها:
وداعًا أيتها الأسرة: الأسرة في حالة حياة سريرية؛ فالأسرة الكبيرة تفسخت ولم يعد لها وجود في الحضارة الصناعية؛ إذ تحولت الأسرة بمفهومها الكلاسيكي إلى كيان داعم للمنظومة الاقتصادية؛ حيث تعمل الأسرة على إشباع الحاجات العاطفية والبيولوجية للعمال، وإنتاج مزيد من العمال عبر التكاثر والتربية، فضلاً على كونها مستهلكًا للمنتجات والخدمات.
أما بحلول حضارة الموجة الثالثة، فالأسرة النووية هي الأخرى مهددة؛ فطبيعة العلاقات الأسرية باتت قائمة أكثر على المنفعة منها إلى كونها نواة للمجتمع؛ فالعديد من الأفراد لم يعد من أولوياتهم تشكيل الأسرة؛ فمغرياتها باتت متوفرة من دونها، الحاجات العاطفية باتت معطوبة ومشوهة في ظل تعمق الاختلافات وتباين الاهتمامات المشتركة، الأمر الذي يجعل خلق العلاقات العاطفية أمرًا صعبًا، أما الجنس؛ فمتاح وبطرق لا تلزم التوالد بالضرورة، ولا حتى الشريك أحيانًا في ظل بدائل عديدة؛ كالدمى الجنسية وغيرها كثير من التفصيلات. ولعل المجتمع الياباني يُؤشر كثيرًا على ذلك؛ حيث نسب الزواج والإنجاب تتراجع، ومسألة تكوين الأسرة أصبح شيئًا ثانويًا، كما أن الأسرة النووية باتت أمام مَشاكل عديدة منها؛ مسألة الموازنة بين سلطة الرجل والمرأة، نزعة الأطفال نحو الاستقلال، وتفكك القيم التي تجمع بين أفراد هذه الأسرة. كل هذه المؤشرات تنبأت بموت الأسرة أو بروز أشكال جديدة منها. ·
وداعًا أيتها الدولة: يجب ألا نغفل أن الدولة قائمة على المجتمع أكثر مما هي قائمة على الأفراد. من الصعب جدًا تصور فكرة الدولة؛ إما مجموعة من الأفراد بقيم متعددة ومختلفة؛ فقد نشأت الدولة في الأساس لحماية المجتمع وتحقيق الصالح العام؛ حيث إن هذا المجتمع يشترك في المصلحة والدين والقيم والعادات والتقاليد.
أما الدولة الحديثة فقد قامت على عقد المجتمع مع الدولة، هذا العقد الذي يتطلب دمقرطة مؤسساتها. ومسألة الأحزاب السياسية ضرورية لهذه الدولة؛ حيث إنها تجمع الأفراد ضمن كيان واحد لتحقيق ذات المصالح وذات القيم. وأمام مجتمع الأفراد فإن مساءلة الأحزاب والنضال السياسي بدا ثانويًا جدًا، وهذا ما يبرره زيادة العزوف على الانتخابات واللا مبالات السياسة، إضافة إلى ذلك، نجد زيادة كبيرة في عدد الأحزاب السياسية، وهذا راجع بطبيعة الحال إلى الفردانية؛ حيث هناك الكثير من الاختلافات مقابل تناقص متزايد للتوافقات.
والملاحظ في المشهد السياسي أن الدول الأكثر تماسكًا والأكثر ديموقراطية هي تلك التي تتضمن أقل عدد من الأحزاب السياسية؛ حيث تصبح التوافقات والأهداف واضحة والرضى أكثر تحققًا، إلا جانب المسائل السياسية، لا يمكن أن ننكر أن الدولة طالما قامت على مجموعة من القيم، وأكثر هذه القيم التي دعمت الدولة هي وحدة الدين. والفردانية جعلت من هذا العامل هشًا؛ فتعدد الأديان وطوائفه أصبح واقعًا، وتشير الإحصائيات، وبالأخص في الولايات المتحدة الأمريكية إلى تزايد رَهيب في عدد الطوائف الدينية المختلفة، التي ما تنفك تنشأ وتتفكك إلى مزيد من الطوائف الأخرى، إضافة إلى الدين فإن العادات والتقاليد ما عادت شيئًا جامعًا، والملاحظ في المزاج العام هو فقدان المناسبات الدينية والوطنية لبريقها ولروحها في نظر المجتمعات؛ إذ أصبحت مجرد طقوس جوفاء لا تحمل أي دلالات ولا عمقًا في الإحساس والشعور. وهذا راجع ببساطة إلى أن هذه المجتمعات أصبحت مجموعة من الأفراد المختلفين في الدين، الأفكار، القيم، العادات والتقاليد وغيرها العديد من الاهتمامات.
وأمام هذا الواقع الذي تُؤشر عليه زيادة جاذبية الأناركية في الأوساط الشابة، ودعاوى الانفصال التي تشهدها معظم دول العالم، فإن البديل الذي يطرح نفسه أمام فكرة الدولة، والذي يشكل الطرح الأكثر منطقية والأكثر قابلية للتجسيد، هو فكرة حكم الشركات. لقد أثبتت الشركات وبالأخص العابرة للقارات زيادة نفوذها للحد الذي تنافس فيه الحكومات والدول، وأحيانًا تتغلب عليها، فضلاً عن قدرتها على تقديم مختلف الخدمات التي تقدمها الدولة، وبذلك فإن المستقبل أمام واقع فيه تحتفي الدولة أو تظهر في أشكال أخرى غير التي هي عليها الآن.
ما نستخلصه في هذا العرض المقتضب لظاهرة الفردانية، هو مدى جدية هذا الطرح، ومدى عمق وخطورة تداعياتها؛ فعلى الرغم من أن طرح “توفلر” متفائل بالمستقبل وبحضارة الموجة الثالثة، واعتباره لمسألة أزمات الفردانية مجرد اضطرابات لمرحة انتقالية، يليه واقع أكثر استقرارًا وأكثر إشراقًا؛ وبخاصة للإنسان، فهو يَعدُ بأن إنسان الحضارة الثالثة هو الذي يستحق أكثر لقب الإنسان، وهذا راجع إلى آمال بمزيد من الحرية، العدالة، التعليم، المساوات والصداقة مع البيئة، إلا أنني لا أتفق مع هذا الطرح الطوباوي، وأرى أن هذه الحضارة القائمة على المعلومات، تستدعي مزيدًا من التحكم في المعلومات؛ ليس فقط من الناحية التقنية أو العملية؛ بل من ناحية استهلاك الإنسان لها؛ فمسألة تأثر سلوكيات الفرد بأنماط استهلاكه للمعلومات مرشحة بشدة، وهذا ما يتوجب التركيز عليه أكثر في ظل يقين بارتباط الفردانية بحضارة المعلومات.