تتكاتف الجماعة، تتحمل المشاق والآلام؛ ففي الأفق يقبع أمل بالخلاص، تتحول عقيدة الجماعة وطقوسها خط سيرها التاريخي للصورة البعيدة التي يستمرون في رؤيتها أقرب إليهم مع مضي القرون تلو القرون. فكرة المخلص المنتظر، الأمل الديني الذي تتشاركه الكثير من الديانات في مبعث مخلصٍ سيمكنها من العالم بعد دهرٍ من الذل والامتهان.
في الثقافة الإسلامية، تظهر فكرة المخلص المنتظر وانتظار عودته من غيبته في العقيدة الشيعية بشكلٍ أساسي، وتتشاركه العقائد السنية باختلاف في التفاصيل، لكن فكرة المخلص المنتظر، أو المخلص الغائب هي فكرة أقدم من الاعتقاد الشيعي أو السني في الإسلام بها، إذ تتشارك الفكرة الدينية في مخلص الجنس البشري برؤية تنطلق من عقيدة معتنقي الفكرة التي ستفرض نفسها كلون طائفي واحد يعم الجنس البشري. وتقف وراءها دوافع وعلل اجتماعية تاريخية ونفسية جمعية للإنسان المقهور.
كيف ظهرت هذه الأفكار في خط تطور المنظومة العقائدية الدينية؟ وكيف أثرت الظروف السياسية في ظهورها؟ وما الظروف المحيطة بالتجارب الدينية المختلفة عند ظهور فكرة الخلص أو فكرة غيابه؟. بهذه التساؤلات يمكن لنا باستقراءٍ -وإن كان فاقدًا للشمولية- عامٍ للتجربة الدينية الإنسانية أن نكتشف الدوافع والعلل وراء ظهورها.
المخلص المنتظر، سمة توحيدية مشتركة
بعد مقتل زرادشت وتحطم آماله السياسية، ابتكرت العقيدة الزرادشتية فكرة المخلص الألفي، أشيز ريكا، أي المعلم أو صاحب العلم، الذي يظهر على رأس كل ألف سنة من نسل زرادشت لإصلاح العالم. في بحثٍ بعنوان “المسيح المخلص في الأديان والحضارات القديمة” يذكر محمد بدران تبشير الزرادشتية بثلاثة مخلصين يسمون “السوشيانت الموعود”، يظهر كلٌ منهم على رأس كل ألف سنة قبل أن ينتهي العالم الذي نعيش حاليًا الألف الأخير منه، حسب اعتقاد الزرادشتية التي تنتظر مخلصها الأخير.
في اليهودية، ينتظر اليهود خروج مخلصٍ من نسل داوود المقدس يعيد بناء مملكة إسرائيل. وفي المسيحية، يظهر المسيح ابن الرب القائم من بين الأموات مخلصًا ينتظر المسيحيون رجوعه. تروي المصادر المسيحية بأنه بعد أربعين يومًا من قيامته، اجتمع المسيح بالرسل في مخبئهم على جيل الزيتون قبل أن يرتفع على سحابةٍ للسماء ويظهر ملاكٌ يقول لهم:
"يسوع الذي رأيتموه صاعدًا سيأتي أيضًا كما رأيتموه نازلًا".
أشيز ريكا الزرادشتية والسوشيانت الموعود، مسيحا اليهودية، مسيح النصرانية، مهدي السنة والشيعة في الإسلام، مخلصون منهم من يقبع في الغيبة كالمسيح ومهدي الشيعة، ومنهم من ينتظر ولادته كالسوشيانت الموعود ومسيحا اليهودية ومهدي السنة في الإسلام. لكن القاسم المشترك بينهم هو النسل المقدس لهؤلاء المخلصين، الرؤية التقليدية المحكومة بعصرها في سيادة عرق وسلالة على أخرى، مخلصٌ بالسلالة.
ظروف ولادة فكرة المخلص والغياب
إن عد مشتركات الأديان التوحيدية في مسائل خاصة كفكرة المخلص والغيبة المزمنة أو المفتوحة لمحاولة الخروج باستقراءٍ عامٍ لقضية ظهور هذه الأفكار في خط التطور الديني تعد استقراءً غير مكتمل ما لم يؤخذ بالظروف التي رافقت ظهور هذه الأفكار في كل منظومةٍ دينية على حدة؛ وهي الظروف التي تشترك فيها حالات ظهور فكرة المخلص المنتظر وعودة الغائب.
الخيبات السياسية
كان المصير الذي لاقاه الحسين بن علي وحفيده زيد بن علي على يد الأمويين كفيلًا بإحداث انشقاقات داخل البيت العلوي، ألقت بأثارها حتى الوقت الحاضر في تفرق المذهب الشيعي لمذاهب مختلفة، تتبع مناهج عقائدية وسياسية غايةً في الاختلاف، كانت أهم أسبابها الاستراتيجية السياسية في التعامل مع السلطة في العهدين الأموي والعباسي. المصير الدموي الذي انتهت به الثورات العلوية بمقتل روؤسها حولت طريقة تعامل أئمة الشيعة الاثنا عشرية مع السلطات بالاكتفاء بالدعوة الدينية لأنفسهم دون الاقتراب من السلطة وكبت طموحاتهم السياسية، لتظهر فكرة المخلص الموعود من نسلهم الذي سيغير مصير العالم.
كانت الهزائم المتتالية التي حطمت طموحات العلويين في اعتلاء العرش الإسلامي، مهد فكرة المخلص المنتظر والموعود، لتظهر في المقابل فكرة مخلصٍ آخر سني غير ذلك الذي تقدمه الشيعة، وتكون فكرة المخلص المنتظر هنا فرارًا من أعباء المسؤولية السياسية التي ستنتهي بالموت وحده.
في الزرادشتية، كانت وعود زرادشت لشعبه هو اقتراب موعد القيامة وانتهاء العالم الذي سيشهده هو في عمره، قبل أن يقتله التورانيون بسقوط المملكة التي تعد دينه دينًا رسميًا للبلاد وتفرض التعبد به. يشير سليمان مظهر في قصة الديانات إلى أن هذه اللحظة كانت تحولًا في ظهور عقيدة المخلص المنتظر من نسل زرادشت، الفكرة التي جاءت مواجهةً للخيبة التي لاقاها الدين الزرادشتي في الفصل الأول من قصته السياسية.
وبعد انهيار مملكة اليهود، يتحدث مظهر عن تمسك اليهود بأمل عودة مملكتهم، أملٌ يرجون منه ظهور مخلصٍ استثنائي ينتشل اليهود من بؤسهم. وقياسًا على الفكرة التخليصية الدائمة يجب أن يكون هذا المخلص من سلالة مقدسة، ابنٌ من نسل الملك داوود.
الغيبة فشل الوعود
يروى عن جعفر الصادق، الإمام السادس عند الشيعة الاثنا عشرية ومن يسمى مذهبهم باسمه الشيعة الجعفرية، رفضه الخروج الثوري على حكام بني أمية، وهو الخلاف الذي وقع فيه مع عمه زيد الذي قرر الخروج على الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك.
في سند رواية الصحيفة السجادية؛ وهي صحيفة أدعية منسوبة لزين العابدين علي بن الحسين ذات أبعاد عقائدية وعرفانية لدى المذاهب الشيعية، يأتي في سرد قصة الصحيفة الحوار بين يحيى بن الثائر زيد الذي لقي مصرعه بعد ثورةٍ فاشلة وأحد أصحاب جعفر الصادق، ليقول بالفرق بينهم أن أحدهم دعا للموت وجعفر دعا الناس للحياة. في هذه القصة يظهر الاعتراف الشيعي بفشل طموحات السلطة والثروة في مرحلةٍ كهذه، وكاعتقاد بالخلاص المنتظر، يُمنيّ أئمة المذهب أتباعهم بالخلاص القريب على يد أحد الأئمة من نسلهم، بذات النسق الإسرائيلي في الأسباط الاثني عشر، يتجلى خلاص الشيعة في سبط النبي الثاني عشر.
لكن ما الذي حل لاحقًا مع الوصول للإمام الثاني عشر؟ هل تحقق الخلاص؟
كانت مرحلة ظهور الإمامٍ الثاني عشر في العهد العباسي مجرد نهايةٍ مفتوحةٍ لانقراض المذهب الجعفري، لكن الحل هنا في الغيبة؛ الإمام الذي جاء لخلاص العالم سيغيب ليعود بعد أن تتهيأ له الظروف السياسية والدينية، فكان الوعد الأول حسب الروايات الشيعية بغيبةٍ لا تتجاوز السبعين عامًا حتى يرجع الإمام ويخلص العالم، ثم يأتي الموعد ويتعذر ظهور الموعود ليختفي في غيبة مفتوحة حتى يعود يومًا بعد أن يوفر أتباعه، المنتظرين للخلاص على يده، ظروف الخلاص له، كوعد لا تتوافق الفرص لتحققه.
تظهر فكرة الغيبة في العقيدة الشيعية لغياب الإمام والمسيحية في غياب المسيح؛ ليعود مرةً أخرى لخلاص العالم أو ولادة مخلص الزرادشتيين في الألف الأخيرة من عمر العالم، كفكرة لقذف الأمل بعيدًا في مجهولات الغيب عند فشل توقيت الوعود. جاءت فكرة المخلص المنتظر والغائب بدايةً في الزرادشتية كما يقول سليمان مظهر مع مقتل زرادشت الذي كان يعد بأنه سيشهد نهاية العالم للتبشير بانتهائه بعد ثلاثة آلاف سنة أخرى بشهادة مخلصٍ أخير من نسله، ثم هي في المسيحية كموعدٍ في انتظار تحققه بعد هدم طموحات الدين الجديد ومقتل مؤسسه، وفي الفكرة الشيعية لما يسمى بالغيبة الكبرى بعد فشل توقيتات الخروج الثوري المؤجلة طوال ثلاثة قرون دون أدنى فرصٍ للنجاح؛ شعور الخيبة في الأمل الموعود يقتله، ولذا استقرت الرؤية الشيعية أخيرًا على الغيبة المفتوحة:
"كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه مهزم، فقال له: جعلت فداك، أخبرني عن هذا الأمر الذي ننتظر؛ متى هو؟ فقال: يا مهزم كذب الوقاتون وهلك المستعجلون ونجا المسلمون."
المخلص والغائب المنتظر في حاضرنا
في العام 2004، خرج أحد الهاشميين في شمال اليمن على رأس حركة دينية مسلحة تدعو للحرب وإعادة إمامة جده علي بن أبي طالب الذي يمثلها هو شخصيًا بصورةٍ حصرية، وفي أول جولةٍ من حربه مع السلطات سقط صريعًا. انقسمت حركته المذهبية الجديدة التي خلفها وراءه لقسمين؛ أحدها رفض فكرة موت زعيمها، واعتقد بأنه المهدي الموعود من أهل البيت الذي سيعود من غيبته يومًا ما لنصرة أتباعه، في حين استولى القسم الآخر أخيرًا على زمام الحكم في العاصمة اليمنية صنعاء.
تظهر المفارقة هنا في لجوء المقهور لفكرة عودة المخلص النقي يومًا ما، وغيابه حتى وقتٍ آخر يثأرون فيه لأنفسهم، القواسم المشتركة وراء ظهور فكرة المخلص المنتظر وغيبة المخلص الموعود بانتظار رجوعه في الأديان التوحيدية والظروف الزمنية السياسية المرتبطة بظهور الفكرة في كل ديانة. كم من الناس لا زال يرفض موت صدام حسين، وكم من آخرين يعتقدون أن علي عبد الله صالح حيًا كمخلصٍ سيعود لإنقاذهم. وإذا كان صدام وصالح من رؤساء الطوائف الدينية، هل كنا سنشهد مذاهب وطقوسًا جديدة تنتظر خلاص أتباعها على أيدي صرعاها الغائبين؟
في قصيدة لفارس العليي تحمل عنوان “صداع هوسرل في رأس يمني”، ينهي العليي قصيدته بخاتمةٍ جمالية تناقش هذه الفكرة التي طال مقام قراءتها:
"بصرف النظر الجمالي للغيبة.. كمعرفة ميتافيزيقة لآثار الخيبة"