في كتابه “القِبلات الإسلامية المبكرة” يؤسس الكاتب الكَندي دان جيبسون لنظرية فحواها أن مكة الحالية ليست قبلة المسلمين، وأن مدينة البتراء في الأردن هي موضع القِبلة الحقيقي، وأن تحويل القبلة إلى موضعها الحالي تم في عهد عبد الله بن الزبير خلال الفتنة الثانية، أو بعد الحرب التي نشبت في سبيل الصراع على السلطة بين ابن الزبير والأمويين، وأن هزيمة ابن الزبير دفعته لتدمير ما تبقى من كعبة البتراء، ونقل الحجر الأسود إلى مكة الحالية، وأن العباسيين اعتمدوا قبلة ابن الزبير نكاية في أعدائهم الأمويين.
ويدعم جيبسون نظريته هذه بأدلة؛ منها: غياب أية آثار في مكة الحالية تشهد بعظمتها كمدينة تستحق الوصف بأنها “أُم القرى”؛ فالمدن القديمة لها سور وأسواق ومعابد ومبانٍ تندثر، لكن تبقى آثارها. شاهد آخر يستند إليه جيبسون؛ هو وجود مساجد حول العالم يشير اتجاه القبلة فيها إلى البتراء لا إلى مكة!
لماذا تغيرت القبلة من القدس، أو من البتراء كما يقول جيبسون، إلى مكة الحالية؟
يجيب دان جيبسون بقوله إن التحويل أتى على أثر الفتنة الثانية والحرب الأهلية التي حدثت بين بني أمية وبين عبد الله بن الزبير، والنتيجة هي تدمير الطرفين للكعبة، ثم نقل ابن الزبير الحجر الأسود إلى مكة الحالية، وبانتصار العباسيين اعتمدوا مكة الحالية كقبلة؛ بينما استمر الأمويون في دمشق بالاتجاه ناحية البتراء عند الصلاة، وبعض الجوامع ما زالت تحمل أثر هذه القبلة في محاريبها أو اتجاه القبلة فيها.
لكن لماذا حوَّل النبي محمد القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام في مكة؟
يُشير دان جيبسون إلى أن تغيير القبلة الوارد في آية البقرة 144، هو تحريف لاحق قام به العباسيون، أي أن النسخة التي بين أيدينا اليوم من القرآن هي نسخة عباسية، قرشية، ولذلك عمدوا إلى إحراق كل ما يخالفها أو يفضح ما قاموا به من تحريف.
فأين تقع مكة التي يتحدث عنها القرآن؟ وهل مكة هي بكة، أم أن بكة اسم لمكة القديمة أو الأولى؟ وأن مكة الحالية هي امتداد لمكة أقدم بناها اليمنيون؟
قبل الإجابة علينا أن نفرق بين محمد والإسلام من جهة، وبين مكة التاريخية. لا شك بأن محمدًا لم يخترع مكة ولا الكعبة؛ فقد ولد في مكة وأنشأ دينه فيها وفي يثرب، التي أطلق عليها فيما بعد اسم المدينة، أما مكة التاريخية؛ فهناك من يذهب إلى أن جذورها ومنشأها الحقيقي في اليمن.
يستشهد عدنان إبراهيم بوصف المؤرخ اليوناني ديدروس الصقلي، في القرن الأول قبل الميلاد، ويقول بأنه وصف ينطبق على مكة الحالية، وأرى أن الوصف ينطبق على معبد إله القمر، مقة اليمني، أكثر مما ينطبق على مكة الحالية. يقول ديدروس: “في بلاد العرب هناك مدينة مقدسة يحترمها ويعتد بها الثموديون والسبئيون.” والثموديون يعيشون في الشمال الغربي من جزيرة العرب، في مدائن صالح، والسبئيون في الجنوب الغربي.
تغيير اتجاه القبلة في سياق الصراع بين النبي محمد واليهود
كان تغيير اتجاه القبلة قطيعة دينية ومعرفية من جهة؛ ويُعبر عن رغبة النبي محمد في الاستقلال عن اليهودية والمسيحية، بعد أن عجز عن إقناع اليهود والنصارى بالإسلام. القرآن نفسه سجل هذه القطيعة وعبر عنها في آية البقرة “144-145”
وأيًا كان سبب تغيير القبلة؛ فقد خدم هذا التغيير الفكرة اليهودية أولًا، ثم الصهيونية لاحقًا؛ فاستقلال المسلمين بقبلة خاصة جعلت قبلتهم الأولى في موضع هامشي، لكنها بقيت بالنسبة لليهود قبلتهم الأولى. ومازالت القدس اليوم هامشًا يرفضون الحج إليها ولو على سبيل السياحة بحجة مقاطعة إسرائيل ورفض التطبيع.
مقة ومكة وبكة
وفقًا للمفكر جورج طرابيشي؛ فإن أقدم ذكر لمكة جاء في (جغرافية) بطيلموس– القرن الثاني بعد الميلاد- الذي أورد اسم مكة بصيغة (مكوربا) المشتقة “من الاسم السبئي مكورابا، ومعناها مقدس أو حرم”. جدير بالذكر أن حضارة سبأ تعود إلى ما بين القرن الثامن والقرن الأول قبل الميلاد. وقد أشارت الباحثة اليمنية (ثريا منقوش) في كتابها “التوحيد في تطوره التاريخي” إلى التشابه بين (المقة) إله القمر السبئي، وبين (مكة) الحجازية، وربطت بين الاثنين في ضوء ما جاء عند ابن طيفور المصري، والقيرواني، من أن بعض أهل اليمن ينطقون القاف كافًا، لتصل إلى أن أهل اليمن هم أصل التوحيد في الجزيرة العربية. كما أكدت أن كثيرًا من عبادات الحج للكعبة تتشابه مع التقاليد اليمنية القديمة في تأدية فروض العبادة والحج للإله (المقة).
وفي سياق بحثه عن الرحلة الإبراهيمية والتاريخ المجهول للنبي إبراهيم، يشكك سيد القمني في كتابه “النبي إبراهيم والتاريخ المجهول” في كون (المقة) اسم إله، ويذهب إلى أنه اسم لمكان كانت تقام فيه طقوس العبادة وقد أسس ما ذهب إليه على شواهد عدة تأسيسًا على كتاب منقوش:
- عدم ذكر اسم (المقة) ضمن ما دونه الإخباريون المسلمون عن عبادات العرب قبل الإسلام؛ فقد ذكروا شتى أنواع الآلهة ما عدا (المقة).
- استدلاله بالقرآن الذي أكد أن السبئيين عبدوا الشمس، ولم يستبعد أن يكونوا قد عبدوا القمر كذلك.
- استغرابه وتساؤله عن دلالة حرفي (ال) في أول كلمة (المقة) فأداة التعريف في العربية، كما يقول، “كانت الـ (هـ) في أول الكلمة، مثل: (هبعل) أي الإله (هبل)، ثم أهملت العين بالتخفيف، لينطق (هبل). أما في العربية الجنوبية، فكانت أداة التعريف هي حرف (ن) يلحق بآخر الكلمة، مثل قولهم: (رحمنن) أي (الرحمن)”. (ص 114 )
- استغرابه وتساؤله عن الحكمة في إضافة (تاء) التأنيث في آخر اسم علم يدل على معبود ذكر هو (المقة)؛ لأن حرف التاء “مضافًا أو لاحقًا بآخر الكلمة، سواء كانت عربية شمالية أو جنوبية، كان غرضه التأنيث، بينما تفهمنا النصوص التي راجعناها أكثر من مرة عند (جلازر) و(هوميل) و (نيلسن) و (كاناليكس) وغيرهم، أن المقة إله ذكر”. (ص 114)
يقول القمني في مستهل معالجته لهذه المسألة: “في آثار الجنوب العربي، ورد اسم غريب أكثر من ألف مرة، وكان واضحا أنه علم على إله معبود، زعم الباحثون في آثار اليمن أنه اسم لمعبود سبئي، كما زعموا أنه إله القمر، ويعد أشهر معبودات اليمن طرًا، وقد اجتهد هؤلاء في فهم الاسم ما بين اللامع والثاقب، هذا هو الإله الذي سجلته النقوش باسم (المقة)”. (ص 113)
ثم يصل إلى استنتاجه قائلًا: “لدينا تصور خاص يذهب إلى أن عبادة (المقة) تمثل نوعًا من التطور في العبادة، ومبعثنا إلى ذلك هو أن كل أنواع الآلهة التي ذكرها الإخباريون المسلمون عن عبادات العرب قبل الإسلام ذكرت شتى أنواع الآلهة بأسمائها عدا (المقة)، رغم أنه كان أشهر هذه الآلهة، ولم يكد يخلو نقش من اسمه، ومع ذلك وجدت جميع الآلهة طريقها للتدوين في كتب الأخبار؛ بينما لم يرد اسم المقة بالمرة، وهو ما أثار حيرة الباحثين ودهشتهم ولم يزل، ومن هنا وقفنا مع (المقة) ذلك الاسم الغريب، نحاول الفهم.”. (ص 114)
ويقدم الحل لتساؤله بخصوص (ال) فيقول بأنه اسم إله (معبود) معروف في عبادات الشعوب السامية القديمة بلا استثناء وفي كل بقاع جزيرة العرب، معتمدًا في ذلك على مصادر عدة لمؤرخين؛ مثل (موسكاتي، نولدكه، جواد علي، ديتليف نيلسون، ريكمانز، هوبر). يرى نيلسون أن (ال): “كان اسمًا ذا دلالة عامة؛ فيقال (ال كذا)، ويتبع (ال) باسم الإله المقصود”، ويضيف نيلسن أن (ال) “ورد كعلم لإله خاص في النقوش السبئية والقتبانية”، وقد أفادنا ريكمانز أن (إل) قد “جاء في النقوش السبئية يحمل اللقبين (فخر) بمعنى العظيم و (تعلى) بمعنى تعالى”. (ص 115).
وتأسيسًا على هذه المعاني يزعم القمني “أن حرفي (ا) و (ل) في أول (المقة)، إنما تعني الله أو الإله، وبذلك تتركب كلمة (المقة) من مقطعين أو ملصقين، وهي خاصية في اللغات السامية، فتعني الإله أو الرب (مقة)، ونتذكر مرة أخرى أن الإخباريين المسلمين، كان واضحًا أنهم لا يعلمون شيئًا عن (الرب مقة) سيد أرباب الجنوب”. (ص 115).
أما حله لإشكالية التاء في آخر اسم (المقة) فيستخلصه من نص قتباني يشير إلى الذبائح المقدسة بقوله: “مختن ملكن بمكي”، وتأخذ الباحثة (منقوش) بترجمة النص إلى “المذبح الملكي بالموضع مكي”؛ وعليه، فالنص يشير إلى موضع للذبح المقدس وتقديم القرابين، وأن هذا الموضع يقع في منطقة تحمل الاسم (مكي) مع ملاحظة تعبير النص الأصلي (مختن)؛ فهو يعني مقر (الختان)، والختان كما هو معلوم كان شرعة مقدسة، تمارس في أيام محددة في أماكن مقدسة لدى الشعب المصري بوجه خاص، ولم تزل تمارس في مقامات الأولياء وموالدهم حتى اليوم، إضافة إلى أن المختن تعني أيضًا المذبح. هنا يثور التساؤل الحذر: إذا كان المعبد المقدس حيث تتم عملية الختان أو تقديم الأضاحي يقع في منطقة (مكي)؛ فهل هناك علاقة بين اسم الإله الغامض (المقة) أو (الرب مقة) وبين (مكي) في النص: مختن ملكن بمكي ؟”. (ص 115 – 116)
يستنتج القمني أن معبد (ال)، سواء كان قتبانيًا أم سبئيًا، إنما كان يشار إليه بالاسم (مكي) ويقدس معبده ومحيطه كحرم خاص له. ويقترح أن يكون اسم (المقة) ليس خاصًا بإله خاص؛ إنما يعني (المقة) أو (إله مكي)، ثم ينتقل خطوة أخرى فيحتسب ترجمة النقش (المقة) إلى (الرب مقة) على أنها ترجمة غير دقيقة، ويجب أن تكون (إله مكي) أي إله المعبد المسمى (مكي)، وبذلك لا يعد لفظ (المقة) اسم علم يطلق على إله القمر السبئي– كما زعم الباحثون–؛ إنما يصبح مع هذا الاجتهاد بمعنى (رب البيت) أو (بيت الرب). وعليه يمكن اعتبار (المقة) هي (بيت الرب) أو (رب البيت)، كما يقول القمني.
ويذهب القمني إلى أن هناك نصوصًا “تتحدث عن (مِكان) -بكسر الميم-، كبلد يمني ذي علاقات خاصة ببلاد الرافدين القديم، وقد أشار المسعودي لوجوده في عهده، وقال إنه ركب السفينة من (مِكان) وبحذف أداة التعريف اليمنية (ن) تصبح (ميكا) أ (مكا) بكسر الميم، وهو ما يوعز لنا بالنطق الأصدق للنص القتباني (مختن ملكن بمكي) ليصبح (مختن ملكن بميكا أو بمكا)”. (ص 117). والنتيجة أن (مقة) أو (مكي) أو (ميكان) أو (مكا) لفظٌ قُصد به الإشارة إلى موضع الحرم الإلهي على الأرض، وليس اسمًا لإله، وهو ما يفسر لنا سبب عدم ورود اسم (المقة) عند الإخباريين المسلمين، بين ما ذكروه من معبودات الجزيرة قبل الإسلام.
ويستشهد بالمزيد من الأدلة فيقول: “ومن المعروف أنه بعد انهيار سد مأرب نزحت قبائل اليمن نحو الشمال ومنها قبيلة خزاعة، أكبر هذه القبائل التي استقرت في المنطقة، التي أصبح التاريخ يعرفها باسم (مكة) في الحجاز. ومن الطبيعي أن تحمل هذه القبائل معها معتقداتها، ومعبوداتها، وطقوسها الدينية، وعلى رأس الجميع (رب البيت) وذكرى (بيت الله)”.
ما يدعم هذه النظرية أن المصادر الإسلامية تذهب إلى أن منطقة الحجاز كانت صحراء حتى انفجرت بئر زمزم، فكان أول من جاء واستقر بجوار البئر ركبٌ من اليمن، إضافة إلى ما جاء عن (عمرو بن لحي الخزاعي) عند الإخباريين المسلمين باعتباره أول حاجب للبيت، وفي ذلك إشارة واضحة إلى بداية حجابة البيت مع الخزاعيين القادمين من اليمن.