تقف منتصبًا أمام المرآة، وترمق ما هو أبعد من جسدك، الوجه والعينين، الأذرع واليدين وعدة أجهزة أخرى يتحكم بها جهاز رخو يدعى الدماغ؛ هَذا الأخير الذي لا يحدد فقط طَبيعة وظائف أعضاء جسدك؛ بل يتعدى ذلك لتحديد طبيعتك وهويتك ككائن بشري يسبح ضمن فضاء الطبيعة الواسع والمبهم. يفعل كل هذا من خلال عملياته المعقدة والعديدة، والتي من بينها ما تم تصنيفها بالعمليات العليا للعقل: التفكير والخيال والذاكرة وغَيرها. هذه الوظائف التي صنعت الإنسان، وصَنعت كذلك وَهم سيطرته وعُلو شَأنه وأهمية وُجوده، باعتباره الكائن الذي تدور من حَوله مَوجودات الطبيعة؛ متناسيًا في ذلك كونه مُنتجًا عرضيًا من مُنتجاتها، لكن هذا الطرح هو الآخر عَرضي، إلا أن الطرح القائم على كون فكر الإنسان مُحركًا للوجود، أو على الأقل محركًا للتاريخ هُو الذي يتعين أخذه بنوع من الاهتمام كمادة للنقاش.
لكن وقبل الخوض في غمار تداعيات هذه الأفكار، لابد علينا من حيث المبدأ أن نتفق على الفرض القائل بكون العقل البشري مُجرد أداة معقدة لمعالجة وتفسير المعلومات؛ هذه المعلومات وبفعل تراكمها وفقًا لأنماط ومساقات مُعينة تُشكل ما يعرف بالمعرفة، هذه الأخيرة التي تنطوي على جُل المخرجات اللا مادية للعقل، والتي تتمثل في أرقى مستوياتها في الفلسفة، ونعني بهذا اللفظ في هذا السياق مجموع المرجعيات القيمية والفكرية التي تحكم الإنسان في زمان ومكان معينين. كما أننا لابد أن نتفق على افتراض ثانٍ؛ مفاده أن مخرجات العقل -الفكر- تتحكم بشكل مباشر في سلوكيات الإنسان. وبذلك فإن دمج الافتراضين السابقين ينجم عنه افتراض ثالث؛ مفاده أن الفلسفة مسؤولة بشكل مباشر على سلوك الإنسان؛ على طَبيعة الحضارة التي تَحكمها، وعلينا كذلك أن نأخذ هذه الافتراض كقاعدة للطرح في هذا المقال.
تَشكل الحداثة
لطالما كانت الحضارات البشرية تقوم على عدة عوامل؛ مادية ومعنوية، إلا أن المعرفة بمفهومها الواسع والعلوم بوجه الخصوص، تُشكل أحد الدعائم التي لا يمكن للحضارة أن تقوم من دونها. إلا أن إعلاء العلم والمعرفة كان شيء صَعب المنال للإنسان؛ وبخاصة في ظِل سيادة السحر في البدء، والدين لاحقًا. تِلكم القوى التي تَرفضُ التشكيك والتساؤل، وبالتالي العلم بالضرورة. ودون إنكار عظيم ما قدمته الحضارات القديمة؛ المصرية واليونانية على سبيل المثال لا الحصر، ومرورًا بالفلسفات الأولى “سقراط، أفلاطون وأرسطو”؛ فإن الإرهاصات الأولى لإعمال العقل بوصفه الأداة الوحيدة لكسب المعرفة يعود إلى عصر النهضة الذي كان البيئة الخصبة التي ستنبني عَليها حضارة العقل.
الإنسان كائن عاقل/ مفكر-؛ هذا هو البيان الذي تأسست عليه الحداثة، الإعلان الذي رَفعه فلاسفة التنوير من أمثال ديكارت، كانط، روسو، سبينوزا، راسل وبيكون، ليتشكل على إثر هذا البيان أعظم فَلسفة عرفها الإنسان “فكر الأنوار”. هذا البيان الذي تَم طرحه مقابل عالم يَحكمه رَجُل الدين والإقطاعي والملك والعسكري مُنذ أن أصبح الإنسان مُزارعًا، إلى القرن السابع عشر، وتجاوزا لفلسفة الأرغنوم الأرسطي. ومن رحم فكر الأنوار قامت الحداثة على أرغنوم جديد لفرانسيس بيكون، والتي تجلت في قيام ثورتي العلم والصناعة اللتين شكلتا أساسًا لما يعرف بمدرسة الحداثة المُشكلة والحاكمة للعصر الحديث.
الحداثة مَوقع الاتهام
ليس من المجهول تزامن انتشار فكر الأنوار وتنامي الحركة الاستعمارية التقليدية؛ فالعديد من المُفكرين من يَربط بين أفكار فلسفة الحداثة والاستعمار؛ حَيثُ أشار عالم المُستقبليات “ألفين توفلر” في كتابه “حضارة الموجة الثالثة” إلى ذلك مُعللاً قوله بأن الآلة الصناعية الهائلة في أوروبا في ذاك الوَقت، كانت في أمس الحاجة إلى الموارد الطبيعة واليد العاملة الرَخيصة، وبذلك فإن الاستعمار كان بالنسبة لهذه الدولة ضرورة اقتصادية أكثر من كونه أيديولوجيا أو ثيوقراطيا. ولَعل الحداثة ليست مُتهمة فقط بتنامي الحركة الاستعمارية، فإضافة إلى ذلك فهي مُتهمة بالتسبب في الحربين العالميتين، فإذا وَضعنا جانبًا الخلافات السياسية؛ فإن تصادم الأفكار كان العامل الجوهري الأول؛ الشمولية والاشتراكية مقابل الديموقراطية الليبرالية.
هذا الافتراض الجاد والخطير، تَتَحمل وِزره مَدرسة ما بعد الحداثة، التي بدأت أولى جُذورها عند "هيجل" لتبرز جَلية عند "فريدريك نيتشه" في كتابه "هكذا تكلم زَرادشت". لم يُعلن فقط عن مَوت الإله الذي وَجده ميتا في الغابة، بل حاول جاهدًا الإعلان عن موت الحداثة؛ إذ مَعروف عنه أنه بمطرقته التي تشبه مطرقة الإله الإغريقي "ثور"، هاجم بشراسة قيم الحداثة، واعتقد هو وتلامذته أنه حطم كل قيم وأفكار الحداثة.
دعا “نيتشه“ إلى تجاوز الإنسان الحداثي، وَنعته بأقبح الألفاظ، ولم يفرق بينه وبين الإنسان الأول. حاول بفلسفته التي لا تعدو كونها بُشرات دينية إلى بناء الجسر الذي يَقود إلى الإنسان الأعلى، وَيَستطرد في ذلك في كتابه “إنسان مُغالٍ في إنسانيته”؛ حيث حاول رَسم مَعالم إنسانه الأعلى المتنصل بقيم الحداثة والتحرر من السرديات الكبرى. ومن هنا تأتي فلسفة الأنسنة التي تدعو إلى تجاوز الحداثة التي تنصاغ إلى العقل، الذي غالبًا ما يكون جامدًا وحياديًا وماديًا، إلى فكر يَعمل في الأساس في إطار الحدود الإنسانية، حَيث يتم اعتبار الإنسان الغاية الأعلى بدل العقل.
تتسم فلسفة نيتشه بالتشاؤم والغضب، وهذا ليس غريبًا إن علمنا بأنه يعتبر “آرثر شوبنهاور” مُعلمًا له؛ ففي فكر هذا الإنسان استوطنت البذور الأولى لهذا الفكر التشاؤمي العدمي، تم تأصيل هذه الأفكار العدمية والسوداوية في مدرسة فلسفية جديدة في فرانكفورت الألمانية، وتستمر هذه الفلسفة باعتبارها التيار الأساسي للتفكير بعد 1953، هذه الفلسفة التي تقوم أساسًا على اتهام الحداثة بالتسبب في الحروب، حَيثُ إن عديد روادها من أمثال “رولان بارت، وميشيل فوكو، وهايدجر” عاشوا وسط أهوال الحروب وتبعاتها، وشَهدوا الدمار الكبير الذي لحق بأوروبا، وهذا ما نتَج عنه رواج لمشاعر الحُزن والإحباط، هذه المشاعر السلبية وجدت موطنًا لها في أفكار فلسفة ما بعد الحداثة ومثيلاتها كالوجودية والعبثية والعدمية.
وبالعودة إلى العلة التي دَفعت هذه المدرسة الفكرية الجديدة؛ الاعتقاد أو الربط ما بين الحداثة والحروب، هو في حقيقة الأمر راجع إلى طبيعة السرديات التي كانت تسود الفكر البشري في مرحلة الحداثة؛ إذ إن الإنسان وبعد باع طويل من خرافية التفكير، وقف لأول مرة أمام حقائق العقل، التي تقوم أساسًا على أرغونوم جديد يَعتبر العقل وأدواته وبالأخص المنهج التجريبي أساسًا له، وكوسيلة وَحيدة لبلوغ المعرفة مُستبعدًا الحدس والمقدمات المنطقية. هذا الأنموذج من التفكير سَهل تشكل السرديات الكبرى، وجعل من منتجات العقل مستعصية على النقد، وغير قابلة لأي طرح خارج عن سياقها. حاولت مدرسة ما بعد الحداثة تفكيك هذه السرديات الكبرى من خلال عدة مقاربات، منطلقين في ذلك بربط بروز وتنامي الحركات الشمولية كالفاشية والنازية ولاحقًا الشيوعية؛ بسرديات الفكر الحداثي التي يقوم على وحدة الحقيقة، وثبات المعايير الأخلاقية، فضلاً عن ازدراء التعدد وتمجيد الدولة الوطنية.
إلا أن أفكار هذه المدرسة وعلى الرغم من رواجها إلا أنها غير متماسكة؛ إذ إن منهجها العام يقوم على التفكيك؛ الذي وبحسب روادها يفرض ضرورة التموقع داخل فكر الحداثة نفسه. إلا أن هذا المنهج التفكيكي -وإن كان في سياقات مُعينة يفي الغرض منه- إلا أنه وفي حالة ما بعد الحداثة جعل من هذه المدرسة أسيرة للحداثة، إذ وبموجب تموقعها داخل الحداثة لم تستطع تطوير أدواتها الخاصة، وبذلك فهي باتت تستخدم أدوات الحداثة لتفكيك الحداثة، وهذا ما يُعتبر غير منطقي؛ بل محاولة خرقاء من الأساس، كما أن ما بعد الحداثة لم تستطع كذلك خلق سرديات بَديلة أو على الأقل مازالت غير فاعلة في الواقع.
نهاية التاريخ أم نهاية العالم؟
في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” يَفترض “فرانسيس فوكوياما” أن الديموقراطية الليبرالية هي قمة التطور الفكري لدى الإنسان؛ وبالأخص فيما يتعلق بنظام الحكم؛ إذ يقول “يبدو أنه قد ظهر توافق مُدهش في السنوات الأخيرة يتعلق بالديموقراطية الليبرالية كنظام حكم، لأنها انتصرت على الأيديولوجيات المنافسة، كالنظام الملكي الوراثي والفاشية، وأخيرًا الشيوعية. لقد أشرت فضلاً عن ذلك إلى أن الديموقراطية الليبرالية بإمكانها أن تُشكل فعلاً مُنتهى التطور الأيديولوجي للإنسانية، والشكل النهائي لأي حكم إنساني؛ أي أنها من هذه الزاوية “نهاية التاريخ””. ينطلق “فوكوياما” من معطيات التاريخ أكثر من التأصيل الفكري؛ فَمن نُقطة انهيار الاتحاد السوفياتي، يُعلن في مشروعه الفكري الأيديولوجي؛ انتصار الديمقراطية الليبرالية وَسيادتها على جَميع الأنساق الفكرية الأخرى، ويبشر بمزيد من الديموقراطية والحرية والمساواة وحقوق الإنسان، باعتبار أن النصر كان حليفًا للديموقراطية الليبرالية. وإن كان فوكوياما دافع عن طَرحه في هذا الكتاب أنه لا يقصد بنهاية التاريخ نهاية حدوث أي أحداث أو اضطرابات مُهمة، بقدر ما يقصد به اكتمال المشروع الديموقراطي الليبرالي.
وإن كانت جميع المؤشرات في العقود القليلة الماضية تأشر بدون شك على ما ذهب إليه، إلا أن هذا الطرح كان وإلى حد بعيد قاصرًا على تصور الواقع على ما هو عليه، حتى وإن استثنينَا عامل الفاعل في التاريخي؛ فإنه ومن جهة أخرى ليس من الممكن بمكان الجزم أن هناك نهاية تاريخية لتطور الفكر البشري، وقُدرته على إبداع أنماط ونماذج حكم جديدة، وما حضارة الموجة الثالثة ومؤشراتها الكبرى سوى أكبر دليل على هذا، كما أنه لا يمكننا كذلك الجزم بانهزام أنظمة الحكم الرجعية التي تشتمل كلها في طبيعتها الشمولية.
فـضـلاً على الطرح السابق؛ نلاحظ أيضًا وبما ليس فيه مجال للشك تَشابُهًا كبيرًا، وربما استنساخ فكرة الإنسان الأعلى«Super Man» لدى “نيتشه”، بفكرة الإنسان الأخير عند “فوكوياما”. حيث إن الإنسان الأعلى هو من يجتاز جسر الحداثة ويصل إلى بلوغ الإنسان الحرُ المُفكر والإنساني المكتفي ماديًا، ما هو إلا نُسخة أولية من الإنسان الأخير، الأكثر حُرية ومساواة. واللذان بدورهما يشكلان نقيضًا للإنسان البدائي عند هوبز، لوك، روسو وهيجل. وهذا الإنسان بحسب هذا التصور يتجسد عند كارل ماركس في الإنسان الشيوعي، وعند فوكوياما في الإنسان الديموقراطي الليبرالي العلماني.
ردًا على هذا الطرح، يرى “صامويل هنتنجتون” في كتابه “صدام الحضارات” إن الديموقراطية الليبرالية لم تنتصر على الشيوعية، ولا على النازية والفاشية؛ وإنما خَمدت هذه النَزعات بفعل القوة الليبرالية، وإن أي ضُعف في هذه الأخيرة سيؤدي بالضرورة إلى تنامي هذه النَزعات من جديد. وفي المقابل يطرح اشكالية صراع الحضارات “القيم” كصيرورة تاريخية ومُحرك للتاريخ. توجه “هانتنغتون” إلى الأيديولوجية الشيوعية التي حملت روسيا الاتحادية رايتها، وإلى الإسلام السياسي وخاصة بعد أحداث الحادي والعشر من سبتمبر، التي تتبناها الدول الإسلامية باعتبارها الخصم الجديد للديمقراطية الليبرالية. وهنا يغفل هانتنغتون كما غفل الغرب كُله ومَعهم العالم عن تنامي التنين الصيني الذي أصبح كما يبدو ليس مُهتمًا بأن يصبح مُجرد مصنع للعالم وحسب؛ بقدر ما يصبوا أن يَحكم العالم بشمولية حزبه، وبطش نظامه وبرودة إلهه المُلحد.
أمام هذا التناقض في الطرحين الفاعلين في الواقع، لابد علينا أن نعود بالضرورة إلى "هيجل" وجدلية الأفكار المتناقضة، أظن وفي هذا السياق أن بلوغ نهاية التاريخ والإنسان الأخير أو الأعلى شيء لم يتحقق ولا يمكن بلوغه -على الأقل في الوقت الراهن-؛ فالعالم الآن مُنقسم إلى نَقيضين اثنين: الشمولية مقابل الديموقراطية. وحَسب الطرح الهيجلي فإن الأمر يَفضي بالضرورة إلى ملاد فكر جديد يتجاوز الطرحين السابقين؛ فما طبيعة هذا المولود؟ وهل حقا سيكون له وجود؟
وهنا من المشروع جدًا أن نقلق حِيال عالم تنتفي فيه الديموقراطية الليبرالية، وبذلك؛ فبدلاً من السؤال عن نهاية التاريخ يُصبح من المُلح أكثر السؤال عن نهاية العالم.
آرمجيدون: الحرب الروسية الأوكرانية
لقد تأخرنا كثيرًا لكي نَصل إلى هذه النقطة، لأنه ولكي نَفهم وجهة النظر هَذه يستوجب علينا أولاً أن نتطرق إلى كُل مَا سبق. استطاعت رُوسيا أن تفاجئ الجميع وفي رأي أن تفاجأ نفسها كذلك بغزو أوكرانيا بهدف إسقاط الحكومة، وضم كل أوكرانيا إلى جمهوريتها. ولا يمكن بالتأكيد قراءة هذا الوضع الدولي المأزوم على أنه حالة نزاع مؤقت أو هامشي؛ بل الأمر أعقد من ذلك بكثير، فالاتحاد الروسي ومع جميع الشموليات في العالم التي يقف في الحياد السلبي، لا يهدد أوكرانيا فحسب؛ بل يُهدد النظام الدولي القائم مُنذ الحرب العالمية الثانية الذي تحكمه الديمقراطية الليبرالية، ونجاح هذا الغزو يعني انهيار النظام الدولي ومؤسساته.
إن تراجع التقدم الروسي في أرض المعركة، بسبب الدعم الغربي الكبير لأوكرانيا النابع أساسًا من رَغبتهم في الحفاظ على النظام الدولي جَعل من الرئيس “فلاديمير بُوتين” يُهدد بالسلاح النووي التكتيكي الذي يمكن أن يتجاوز بمراحل القنبلتين الأمريكيتين المستخدمتين في اليابان. لكن الرد في المقابل من الرئيس الأمريكي هو التحذير بإمكانية نشوب الحرب الكبرى، فيستخدم حرفيًا مصطلح آرمجيدون، لأن الغرب وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية لن تقبل بعالم لا تسوده الديموقراطية الليبرالية. والحرب الأخيرة “أرمجيدون” إن وقعت ستكون الحرب الكبرى بين الشمولية والديمقراطية، بين الخير والشر، ونتائج حَرب كهذه لن يخرج حتمًا عن احتمالين اثنين: الأول بلوغ نهاية التاريخ والإنسان الأعلى، وفوز الديمقراطية الليبرالية مرة أخيرة وإلى الأبد، أما الثاني فيعني نهاية العالم؛ إما بتدمير العالم كليًا بالسلاح النووي، أو سيادة الشمولية بقيادة الصين الذي يشكل وجهًا آخر من وجوه نهاية العالم والجنس البشري “الإنساني”.