يكتب مروان الغفوري مقالات يراجع فيها بالنقد والأدلة تاريخ آل البيت؛ مؤكدًا أن “التاريخ ليس جزءً من النظام العقائدي الفردي، وردًا على هذا الدور التنويري الذي يقوم به، قوبل بالتأييد من قبل البعض، وبالهجوم الشديد من قبل آخرين، بحجة أنه “يسب أصحاب النبي،” و”يهرف بما لا يعرف”، و”لا يحترم قواعد الكتابة العلمية” و”يتلاعب بالاقتباسات، ويحرف النصوص،” وهناك “فريق يكتب له”، و”يعتمد على الحكايات الضعيفة”، و”يضرب بالشروط العلمية عرض الحائط،” و”صاحب نوايا سيئة تجاه التاريخ والرسالة السماوية”، إضافة إلى تكفيره والتحريض على قتله.
الغفوري، استشاري قلب وأوعية دموية يمني مقيم في ألمانيا، حصل على التخصص في أمراض القلب من جامعة إيسن دويسبورغ في 2016، وهو قبل ذلك شاعر له مجموعتان شعريتان، وروائي له سبع روايات منشورة وأخرى قيد الطبع، كما يكتب في الشأن السياسي والديني ويكرس صفحته على الفيسبوك لمسائل التنوير الفكري والأدبي والصحي عبر منصتين هما: “قهوة عالمفرق”، التي تناقش أعمالًا سردية عربية وعالمية، ومؤسسة “ابن سيناء” التي تناقش كل ما يتعلق بالصحة والبحث العلمي، كما أطلق تطبيق “طبيبي” للاستشارات المجانية. التقت مواطن بالغفوري لتحاوره حول مشروعه الفكري ومقالاته، وما يثار حول آرائه في مسائل التنوير.
- قبل حوالي ثلاثين عامًا حاول نصر أبو زايد أن يجري استطلاعًا داخل الإسلام، فوقع فريسة لتناقضاته هو قبل تناقضات التاريخ.
- فعل مارتن لوثر في ثلاثة أسابيع ما عجز عنه المثقفون والمصلحون خلال 15 قرنًا: ترجم الإنجيل.
- أدّعي أني قرأت سيرة النبي بحياد؛ أعني بحسبانها موضوعًا في التاريخ، لم أجد إشارات حقيقة تؤكد سعيه إلى تأسيس ملك عائلي.
- لم أحاول النيل من علي، كل ما في الأمر أني تتبعت سيرته في المدينة خلال ربع قرن، منذ موت النبي حتى مقتل عثمان، ولم أجد له أثرًا.
الدين والفكر الديني
هناك من يفصل بين الدين والفكر الديني إلى درجة أن هذا الفصل أصبح حجة تُلقى في وجه كل من يتعرض للدين بالنقد. يتخذ هذا الفصل صيغة: “الخلل ليس في الدين؛ بل في فهمنا له.” والغريب أن هذا الفصل لا يأتي من السلفيين فحسب؛ وإنما دعا إليه مفكرون كبار. أنت أيضًا تؤكد في مقالاتك على أنك لا تنتقد الشيعة والتشيع ولا تمس العقائد؛ هل نقد العقائد خط أحمر ومنكر لا ينبغي اقترافه؟ ألا ترى أن هذا الفصل يصب في خانة الانتصار للنقل على حساب العقل؟ ألا يمكن أن نفصل بين حق الناس في التدين، وحق المفكر في نقد ما يرى أنه عائق حضاري ينبغي تحطيمه؟ متى سنصل إلى هذه المرحلة؟
هذا سؤال مركّب بعض الشيء، لنلق نظرة على البنية الداخلية للمنظومة المعقدة “الإسلام”. تتألف تلك المنظومة من: عقائد، عبادات، معاملات [فقه]، وأخلاق، يتحرك الفكر الإسلامي في منطقتي المعاملات [الفقه]، والأخلاق؛ إذ تبدو مسألتا العقائد والعبادات وكأنها قد حُسمتا، أو أدرجتا في حيز اللامفكر فيه، وغير القابل لإعادة التفكير فيه، إذا ما استعرنا من أركون. بالنسبة للواقف خارج المجال الحيوي للإسلام -أي غير المؤمن-؛ فإن سؤال العقيدة هو الأكثر حسمًا؛ أي ذلك المتعلق بفكرتي الخالق والمَعَاد.
قبل حوالي ثلاثين عامًا حاول نصر أبو زايد أن يجري استطلاعًا داخل الإسلام، فوقع فريسة لتناقضاته هو قبل تناقضات التاريخ.
رأى أن القرآن بنية فوقية تخلقت في الأسفل، أي أنتجتها خبرة الناس وتجاربهم، لا السماء. ذهب أبو زيد إلى اللامفكر فيه غير القابل للتفكير فيه، وقدم تقديرًا فلسفيًا جديرًا بالقراءة، لكنه بدا بعد ذلك مشغولًا بتأكيد “إسلامه”، ولم يكن بحاجة إلى ذلك؛ فالعقيدة الإسلامية ضيّقة، لا تتسع للقول بإن القرآن أنتجه البشر، وعلى الفيلسوف أن يتسّق مع استنتاجاته. في حالة أبي زيد كانت مساهمته ستكون ذات قيمة فيما لو مضى نيتشويًّا؛ يهدم ولا يأبه، أن يحتمل هو شخصيًا استنتاجه الثقيل.
ما فعلته أنا، ولا يزال مشروعًا قيد الصناعة، أن أضفت إلى أعمدة الإسلام الأربعة عمودًا خامسًا: التاريخ. يأخذ الإسلام شكله النهائي في تقديري على هذا النحو: العقائد، العبادات، الفقه، الأخلاق، والتاريخ. إعادة دمج التاريخ -أي الرواية داخل نظام الإسلام- ستساعدنا على توسيع مدى الرؤية، مشاهدة الإسلام أثناء حركته، وفهم كيف أخذت العقائد والأخلاق والمعاملات شكلها النهائي. ترك موت النبي فراغًا هائلًا، لا أعني في الحياة العامة، ولكن داخل ما يمكن تسميته (Weltanschauung) أو رؤية الإسلام للعالم. قتل الخلفاء وتقاتل أصحاب النبي، وتفككت الجزيرة العربية إلى دويلات، ثم أخضعت بقوة السلاح، ثم أخذ الإسلام طريقين: إمبراطورية ديكتاتورية، وإمامية كهنوتية، داخل هذين الحقلين استكمل بناء رؤيتين للإسلام. تتبعنا الدقيق للتاريخ سيجعلنا قادرين على فهم كيف وضع كل حجر داخل ذلك البناء، وملاحظة أثر السياسة والقبيلة والأخلاق في كل مراحل البناء.
لازال القرآن يشغل جهد المؤولين والمفسرين حتى اليوم، ولك أنت محاولات في تفسير بعض آيات القرآن تفسيرًا يصب في صالح علمنته. ألا ترى أن هذه الجهود تنطلق من فكرة أن القرآن نص معقد؟ وصعب الفهم على القراء العاديين، وبالتالي في صالح فكرة إعجازه؟
فعل مارتن لوثر في ثلاثة أسابيع ما عجز عنه المثقفون والمصلحون خلال 15 قرنًا: ترجم الإنجيل. كان الإنجيل مكتوبًا باللاتينية، باللغة التي لم تكن تعرفها سوى طبقة رفيعة من المتعلمين الأرستقراطيين. بالنسبة للقارئ العادي الآن في زماننا؛ فإن لغة القرآن تبدو له بالتعقيد نفسه الذي فرضته اللاتينية على القارئ الألماني، يحتاج القرآن، كنص إلى اشتغال متواصل يتجاوز حدود الكلمة ومعناها وأسباب النزول، على أن يسهم في الفعل المثقفون، اللسانيون، الشعراء، علماء الاجتماع، الروائيون، وسواهم. قبل أن يخوض المعتزلة في “علم” القرآن ذهبوا إلى البوادي ليتعلموا اللغة، ليعرفوا كيف تعمل، من المروّع أن يعلم القرآنَ أناس محدودو الخيال، لا يجيدون النحو، ولا يعرفون التاريخ.
دين عالمي أم عائلي؟
تنتقد بعض الروايات بطريقة تبدو معها أنك تُكذب الرواية لا مضمونها. مثل: حديث تقبيل النبي محمد لعضوي الحسن والحسين؛ ألا يمكن أن يكون النبي قد فعل هذا، وغيرها من الأشياء التي نعتبرها اليوم مسيئة له؟
الحقيقة أني لم أنكر القصة؛ بل ذهبت أبعد من ذلك محاولًا فهم كيف برزت إلى الفضاء العام. ربما أن النبي قبَّل عضوي الحسن والحسين كما تقول روايات كثيرة، وربما لم يفعل. ما يهمني في هذه المسألة هو الخيال السياسي الذي يلقي بظلاله خلف هذه القصص الصغيرة؛ إذ يبدو حماس آل البيت لمثل هذه النصوص [روايتها أو اختلاقها] محاولة لحسم معركة “السياسة” بالضربة القاضية؛ فلا يمكن لطفل أشهر عضوه في وجه النبي إلا أن يكون حاكمًا بعد احتلامه.
المسلمون ومنهم اليمنيون المتضررون من حكم بني هاشم، ينكرون أفعال هؤلاء، لكنهم لا ينكرون شرف نسبهم، وفي هذا تنزيه وتقديس للرسول وآله، مع أن القارئ الموضوعي لسيرته يجد شواهد كثيرة على أنه سعى لتأسيس دين عائلي أكثر مما هو دين عالمي. كيف ترى مثل هذه التناقضات؟
أدّعي أني قرأت سيرة النبي بحياد؛ أعني بحسبانها موضوعًا في التاريخ، لم أجد إشارات حقيقة تؤكد سعيه إلى تأسيس ملك عائلي؛ فالبخاري يروي كيف تهامس علي والعبّاس أثناء مرضه، اقترح الأخير على الأول أن يذهبا إلى النبي ويسألاه أن يسمي رجلًا من بني هاشم حاكمًا بعد موته، غير أن عليّا تردد، قال إنه لا يضمن إجابة النبي، ولا يستبعد أن تأتي على غير ما يريداه.
رواية البخاري؛ وهي أعلى قيمة علمية من سواها، تخبرنا أن السيدين الهاشميين، العباس وعلي، لم يلحظا في قول النبي وفعله أثناء حياته ما يشير إلى أنه يفضل أسرته على سائر الناس.
هناك شواهد عديدة تثبت أن النبي كان عقيمًا، أي أنه لم ينجب لا بنات ولا بنين. هل يُعقل أنه لم ينجب من كل النساء اللواتي تزوجهن وأنجب من خديجة فقط؟ ألا ترى أن كثرة زيجاته كانت محاولة لإنجاب ولد يرثه؟ هل يمكن إثبات عقم النبي؟ ويكون هذا هو الحل الأمثل لبتر كل صلة بمن يدعون أنهم ورثته وخلفاء الله على الأرض؟
تقول كتب التاريخ أن النبي لم يتزوّج على خديجة، وأنها ماتت قبل الهجرة بثلاثة أعوام، أي حين كان النبي قد بلغ الخمسين من عمره. في الأعوام الــ 13 التي بقيت له تزوّج عددًا من النساء، ولم يحصل سوى على مولود واحد؛ هو إبراهيم، توفي حين بلغ العامين من العمر. ولد إبراهيم حين تجاوز النبي الستين من عمره، ومات قبل موته بعام واحد. السلالة الهاشمية مترامية الأطراف، وفي بعض البلاد العربية يتفوقون عدديًا على سائر المواطنين. ما تحمله تلك السلالة من خيال حول نقائها العرقي وحقها السياسي يجعلها ثقبًا أسود داخل الإسلام، تبتلع كل ما اخترعه الإسلام من نظريات حول الحرية والمساواة والعدل. لذا فمن الجيد أن تواجه تلك السلالة من داخل الإسلام ومن خارجه. من الجيد محاولة إثبات هاشميتها، ليبدو الإسلام أكثر إنسانية واحترافًا حين يُقال عنه إنه دين تجاهل آل بيت النبي ولم يمنحهم امتيازًا من أي نوع.
القول بأن النبي لم يمنحهم امتيازا من أي نوع يحول المواجهة إلى حرب استشاهدات، ولديهم من هذه الناحية مؤونة معتمدة من السنة قبل الشيعة. وثمة خطاب قرآني يميز الآل عن بقية المسلمين، لكن ألا يلزم ذلك البحث عن سلاح يقطع صلتهم الجينية تماما بمحمد، كيف ترى الأمر من وجهة نظرك؟
في الأيام الماضية التقيت باحثًا يمنيًا في برلين يعمل على فحص الحمض النووي لسلالات يمنية مختلفة، من سقطرى حتى صنعاء. يملك الآن بركة من المعلومات الجينية، وقد استطاع تأكيد أن سلالات بعينها [السقاف، الجفري] لا علاقة لها بالهاشمية. مثل هذه المادة العلمية قد تساعدنا على حسم جانب من الجدل، ولكن بعيدًا عن فحص الحمض النووي، لنقف على هذا النص الذي ذكره ابن ماجة في سننه: “كان عليّ يعمل أجيرًا لدى يهودي، كان يسقي النخيل، وبمقابل كل دلو من الماء يأتي به من بعيد يحصل من اليهودي على تمرة”. هذه الواقعة جرت في يثرب، عندما كان ابن عمّه “محمد” نبيًا وحاكمًا؛ أي الرجل الأول. إن كان قد عاش في مكة لا طالبًا ولا مطلوبًا، بتعبير الجاحظ، فقد رأيناه في المدينة متبطّلًا يسقي نخيل اليهود من أجل بضع تمرات، وابن عمّه يحكم البلاد كلها. لا يوجد في كل التاريخ المكتوب ما يدل على أن النبي محمد قد أوكل إلى “علي” أو أيّ من بني هاشم مهمّة سياسية أو عسكرية ذات معنى. مشايعو آل البيت، ومؤرخوهم، يهربون من هذه الحقيقة إلى الاستنجاد بالوهم، قائمة لانهائية من الصفات المجانية التي لا علاقة لها بالأفعال.
أنجز العاملي عملاً ضخمًا [53 مجلدًا] في سيرة علي، نقل كل ما يحلو له وترك سؤالنا مفتوحًا: لماذا لم يضعه النبي في مقدمة جيوشه [للنبي زهاء 100 غزوة وسرية]؟ ولمَ لم يمنحه ولاية قطر من أقطار دولته آنذاك؟ كان من الجيّد أن يدربه على السياسة والقيادة في حياته وتحت نظره، إن كان قد عزم على أن ينقل له “ذلك الأمر” من بعده. في رسالة معاوية لمحمد بن أبي بكر، والي علي على مصر، يقول الأول للأخير إنه يستخف بعلي اقتداء باستخفاف أبي بكر وعمر به. يقول معاوية لو أن الخليفتين رأيا له عقلًا أو فضلًا لكانا عهدا إليه بأمر؛ أي أمر. إن أمر علي، أو سيرة السلالة، مسألة متعلقة بالتاريخ، وبمقدور أي شخص أن يذرع كتب التاريخ جيئة وذهابًا، لن يجد شيئًا غير المدائح المجانية التي لا يبررها سوى شيء واحد: كونه ابن العم. في تقديري إن الذهاب إلى التاريخ حاسم كما هو فحص الحمض النووي.
مفاجآت البحث في التاريخ!
البحث في التاريخ هو رحلة اكتشاف في الوقت نفسه؛ هل تتفاجأ كباحث مثلما نتفاجأ كقراء عندما تجد ما لم يكن معلومًا إلا في بطون الكتب؟ تفاجأ قراء مقالاتك الأخيرة أن عليًا هو من “اخترع هدم منازل خصومه وإحراق الأسرى،”- وهذا فعل يتفنن فيه الحوثيون اليوم- وبأنه لم يشارك في ما يسمى بـ “الفتوحات”، فما الذي فاجأكَ وأنت تعيد قراءة تاريخ آل البيت؟
ثمة أمر لا ينبغي تجاهله: المؤرخون بكل توجهاتهم، متشيّعون لآل البيت بلا استثناء، وإذا أردت أن تتبع السيرة البديلة لعلي فعليك أن تتحلى بقدر عال من اليقظة والإصرار، سيخبرك التاريخ أن عليًّا ألقى خصومه في النيران، غير أن هذا الخبر المروع لن يبلغ حجمه سوى كلمات قليلة داخل طوفان من الحديث عن أخلاق الرجل في الحرب، وإحالات لا تتوقف إلى قائمة مناقبه وكراماته، تفاجأت في أوقات كثيرة، وأكثر ما فاجأني هو وقوفي على تاريخه العسكري: تقاعد عن الحروب عند سن الـــ 33، ثم عاد إليها وقد تجاوز الستين من العمر. سبب تقاعده المبكّر كما نفهم من التاريخ، عدم اعترافه بمشروعية السلطات القائمة. يتناول المؤرخون الشيعة هذه المسألة بوضوح كريستالي، ويتلكأ المؤرخون السنة.
وأنا أقرأ مقالتك “الظل والظلام: يوميات أبي الحسن في المدينة”، خطر في بالي أن عليًا قتل زوجته فاطمة؛ “حتى ينطلق في عالم النساء”؟ هل هناك تفسير آخر لموتها في سن مبكر (29 عامًا)؟
هذه مسألة خطرة، ثمة من يحاول أن يعثر على رابط بين موت فاطمة المفاجئ، ومبايعة علي لأبي بكر؛ حدثان متلاحقان؛ شابة تموت فجأة بلا سابق مرض، وهي في التاسعة والعشرين من العمر. يحدث أن تدفن في ليلة مظلمة، لا يشترك في دفنها أحد من خارج دائرة العائلة، ثم تخفى ملامح قبرها كما يعترف الحسين فيما بعد. تأتي نساء المدينة لزيارتها في اليوم التالي فيقال لهن إنها ماتت البارحة ودفنت، فيثرن في وجه زوجها ويتلاسنّ معه. علينا أن نتذكّر جيدًا تلك اللحظة: حين ماتت فاطمة كانت جيوش الخليفة أبي بكر تحارب في كل الجزيرة العربية من جنوب العراق إلى عمان.
يقول المؤرخون إنه لم يتبق في المدينة آنذاك سوى كبار السن والنساء والعبيد، والخليفة وبعض مستشاريه، وبالطبع: كان بنو هاشم قد قاطعوا النظام الجديد. غطت أخبار المعارك على خبر موت فاطمة، ومن معركة اليمامة جاء خبر عن مقتل زهاء 360 من كبار الصحابة، جلّهم ممن شهدوا بدرًا والرضوان. كيف ماتت؟ حدث ذلك بعد وفاة والدها بنصف عام. هل اصطدمت بزوجها المولّع بالنساء فضربها، وهو ربما لا يريد قتلها فقضى عليها؟ هذه مسألة خطرة يغفلها المؤرخون. يمكن لدارس محترف للتاريخ أن يعيد بناء القصة من خلال تتبع شظاياها في كتب التاريخ. الحقيقة أن موتها لم يحدث الضجيج المتوقع بسبب الحدث السياسي/ العسكري الطاغي؛ حروب الاسترداد، المعروفة باسم حروب الردة.
صيانة مستمرة للدين
هناك ردود فعل إيجابية على كتاباتك الأخيرة حول آل البيت؛ هل تعتقد أنها ردة فعل مؤقتة ستنتهي بزوال تأثير حكم الحوثيين؟ أم أن كتاباتك أحدثت أثرًا إيجابيًا سيستمر لوقت طويل وسيؤتي مزيدًا من الثمار مستقبلًا؟
كانت البداية شاقة، ثم صارت أيسر مع الأيام. ردود الأفعال لا تزال تصلني، أظن أن القطار غادر المحطة، على الأقل قطار هذا الجيل. شخصية آل البيت عميقة في الخيال الإسلامي، ومهما تعرضت لجروح بسبب “الحقيقة”؛ فإنه يعاد بناؤها من جديد داخل ذلك الخيال المستريح والمتسامح، يعرف المسلم العاقل أن الشخصية النورانية المتفوقة لعلي لها نصيب من الخرافة، إن لم تكن خرافة كاملة، ولكنه يتسامح معها باعتبارها تخيلًا حميدًا للتاريخ. مؤخرًا اكتشف اليمنيون وعرب آخرون، أن تلك الدالة غير محايدة، وأنه ما من حدود لخطرها على السياسة والثقافة والسلم الأهلي.
يتهمك البعض بأنك تحط من قدر “علي” وترفع من قدر آخرين، مثل عمر أو عائشة، وبذلك فأنت لا تختلف كثيرًا عمن تنتقدهم. ماذا تقول لهؤلاء؟
قلت سابقًا إني بصدد تقديم رأي حول حقبة من التاريخ؛ تحديدًا القرن الأول من عمر الدولة العربية التي سرعان ما أخذت شكل الإمبراطورية. يفسح التاريخ مكانًا واسعًا لفلسفة عمر في الحكم: على صعيد الجيش، الإدارة، القانون، والأمن. كما تفرّغت عائشة لتقديم مساهمات عميقة في قضايا العقيدة، الفقه، والسياسة.
لم أحاول النيل من علي، كل ما في الأمر أني تتبعت سيرته في المدينة خلال ربع قرن، منذ موت النبي حتى مقتل عثمان، ولم أجد له أثرًا.
فإذا كان الجاحظ يصف حياة “علي” في مكة بأنه عاش لا طالبًا ولا مطلوبًا؛ فإن حياة الرجل في المدينة لم تكن بأفضل من سابقتها. هذه مسألة تاريخية لا علاقة لها بالحط من قدر شخص أو رفع آخر.
هل ترى أن التصريح بالموقف الشخصي من الدين يخدم التنوير؟ أم أن نقد الدين يخدمه أفضل الانطلاق من منصة دينية تنويرية؟
الموقف من الدين أمام جماعة بشرية يمثل لها الدين كل شيء ليس بالأمر الهين. يحتاج الدين -كما التدين-، إلى صيانة مستمرة. أفرّق دائمًا بين القرآن والإسلام، ولا أراهما متطابقين. كما أن التدين ليس هو الدين. جاءت أهم مساهمة إصلاحية في القرن السابع من نيوتن؛ حين استدار إلى شعبه المسيحي وأخبرهم أن الله خلق للكون قوانين فيزيائية، وأن تلك القوانين أزلية ولا يمكن العبث بها.
على بساطة ذلك الخطاب إلا أنه ضرب الخرافة في مركزها. كان الجرح النرجسي الأول للمؤمنين قد حدث على يد كوبنرنكوس؛ عندما قيل للمؤمنين إن الأرض ليست مركز الكون، وإنه ما من شيء يدور حولها سوى قمر صغير. التنوير مسألة تراكمية ممتدة، ساقية يصب فيها الإبداع والفيزياء وعلم الأنساب، إلخ. قامت كومونة باريس، النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بمصادمة الكنيسة بصورة انتحارية. خسرت الكومونة تلك المواجهة وعادت الكنيسة لتبني قلاعها الضخمة في المواقع التي خسرتها كومونة باريس. على التنوير أن يقنع الماضي بأن يغادر طواعية، ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا من خلال عملية تفاوضية مستدامة تكون الرياضيات في مركزها.
الدين والسرد التخييلي
الدين، بشكله السلالي، حاضر في كتابتك السردية. في رواية "جدائل صعدة" تقول: "لا يمكن العثور على منتصر مطلق سوى الماضي، على مر التاريخ كانت صعدة تأتي من الماضي، وكانت تنتصر. ليس لقوة الحقائق التي تجرها خلفها؛ بل لأمر آخر. الماضي ليس لديه ما يخسره، لذلك ينتصر على الدوام، أو يختفي فجأة".
هل يمكن لهذا الماضي أن يختفي فجأة؟ أم أنه يحتاج إلى تفكيك، كما تفعل في نقدك للتاريخ الديني وفي أعمالك السردية؟ وهل استحضارك للدين في أعمالك السردية واعٍ؟ أم هو عنصر عفوي يفرضه الفن السردي؟
الماضي لا يذهب أبدًا، يجد له مكانًا على الدوام. نحن نعيد إنتاجه في الفن، الموضة، الخيال، السياسة، وحتى اللغة. غير أنه ليس شيئًا واحدًا. ثمة ماضٍ جدير بأن يصطحبنا إلى الغد، وماضٍ جدير بأن ندحره. رواية جدائل صعدة تمضي على حافة الماضي الخطر؛ الماضي الذي لا يعيش إلا على فناء المستقبل. سيحضر ذلك الشكل من الماضي في أعمال أخرى مثل الخزرجي، تغريبة منصور الأعرج، وطريق الحوت. أكتب الرواية عن مجتمع عربي يمثل الدين كل شيء لديه، يتحكم حتى في أحلامه، ولا يمكنك أن تهندس مجتمعًا كهذا روائيًا دون أن تفسح مكانًا للدين في الحياة التي تخلقها.
يبدو أنك تقترح بديلًا باستحضارك التصوف أو الروحانية، كما في رواية “تغريبة منصور الأعرج”، بشخصية الولي الذي يعمل رسول غرام للنساء ومستودع أسرار الرجال، وفي رواية “الخزرجي” تحضر شخصية المجذوب عبد السلام.
أدّعي أن الحياة الراهنة لا يمكن احتمالها دون سند روحاني، وهذا ليس ادعاء يخصني وحدي؛ فيمثل التصوّف حلًا في تقديري. في عملي الروائي الأخير -لم ينشر بعد-، تأخذ التجربة الصوفية أكثر من نصف الرواية، وهناك نموذج ما موسّع للعارف المعاصر. في “عدو المسيح” يذهب نيتشه إلى القول بإن البوذية بما أنها ترى الإنسان متألمًا وتحاول إنقاذه من ألمه؛ فهي خير مئة مرّة من المسيحية التي تراه مذنبًا. البوذية هي في النهاية شكل ما من أشكال الرياضة الروحية -أي التصوف-، مهمتها تجهيز مناعة الفرد من الداخل حتى يغدو بمستطاعه مواجهة العالم وامتصاص صدماته، نحوًا من ذلك يفعل التصوّف.
كتابتك الغزيرة في مجالات متعددة، عملك كطبيب قلب، وإدارتك لأنشطة ثقافية وعلمية؛ جعل البعض يظن أن فريقًا يكتب لك. كيف تنظم وقتك؟ وهل تكتب من الذاكرة؟ أم أنك تعود دائمًا إلى مراجع في كل ما تستشهد به من أقوال ومعلومات؟
أنا على اتصال مستمر بالقراءة؛ وبالتاريخ تحديدًا. حين أكتب أعتمد على ذاكرتي إلى حد كبير، وللتوثيق أعود إلى المراجع وأحيل إليها. الذين قالوا إن فريقًا يكتب لي كانوا قد وصفوا ما كتبته بالهراء، ولا أدري لماذا سيتطلب الهراء وجود فريق محترف. الوقت هو التحدي الأكثر صعوبة في حياتي. كان الروائي الأميركي ثورنتن وايلدر: روائيًا، شاعرًا، كاتب مقالات، كاتب سينما، صحفيًا، باحثًا، مترجمًا، بروفيسورًا في الجامعة، ضابطًا في الجيش، مؤرخًا، ومثليًّا. هذه ليست سيرة تخص وايلدر نفسه؛ بل كثيرين غيره. الشغف، والشغف وحده، هو ما يجعل الوقت يتّسع لكل ذلك.
🧠قال تعالى على لسان هدهد سليمان :(أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين}(النمل:22) وهنا نفهم بأنه ليس بدعا أن يخالف الصغير الكبير، في مسائل العلم والتعلم ليتعود الطلاب على التمتع بروح الحرية ،فالطلاب قد يعترضون على الاستاذ في مسألة ماء ،والبعض قد يعترض على شيخه ،وذلك بهدف تنمية ملكة التعلم الحر والتدريب
على البحث العلمي والحوار والنقاش ففي العلم ليس هناك كبير، لأنه وفوق كل ذي علم عليم….منقول
👈ج م
من الملحوظ للمراقب أن جيلا جديدا قد تخلق في سنوات الأزمة يحمل صحوة فكرية ونزعة حضارية قوية، لكتابات الغفوري وفلسفته المتفانية في التبسيط دور كبير في تشكيل وعي هذا الجيل.
وبالرغم أن أفكاره قوبلت بالرفض والتخوين والتشنيع من “حراس التراث”، إلا أنها وجدت طريقها إلى عقول الشريحة الأهم، شريحة الشباب المتعطش للإجابات، الباحث عن تفسير شاملي لصيرورة الأحداث…