نشرت هذه المادة بالاتفاق مع ”رصيف 22“
يندرج المقال في ملف “فصل الدين عن القبيلة” من إعداد وتحرير جمانة مصطفى
بات هذا الغياب المعرفي الجغرافي بين الأجيال الجديدة عامة عن منطقة الخليج بائناً ومتصلاً، سيما بعد الأسئلة التي تلقيتها من أصدقاء لي لمعرفة مدى هذا الاختلاف، وأحب أن أشير بدايةً إلى أن الخليج مصطلح جغرافي يعني بالبحر لا بالصحراء، فالبحر ثقافة تاريخية معروفة يمنح السهل والنهل، أما الخليج وجمعه خلجان فهو امتداد مائي يتوغل في اليابسة، وكأنه “النُهَّير الذي يقتطع من النهر الكبير إلى جهة ينتفع به” كما أتى في معجم المعاني، أي كأنه حبلٌ مائي يمتد من المحيط إلى داخل البر.
بكلمات قليلة على البدوي كي يتحول إلى علماني أن يتخلص من بعض العادات لا أن يتبنى عادات جديدة، وهذه (البعض) ليست قليلة إذ هي حمولة مئات السنين من تدوين تاريخه الثقافي من منظور فقهي، وحصره تقريباً في صيغة المضاف إليه “العربي المسلم” في كل مرة ذكرته الكتب، لتكون الكلمة الفصل لدينه لا لهويته السابقة.
هذا الحبل المائي المتصل نسميه الخليج، وبالتالي كل من يسكن حول هذا الحبل المائي هو خليجي نسبة إلى ماء الخليج، والمدن التي تنمو على سواحله هي مدن خليجية، والجزر في مياه الخليج بطبيعة الحال جزر خليجية، وهذا كله مختلف عن مصطلح الصحراء الممتدة برمالها وثقافتها.
بين البداوة والإسلام علاقة عضوية قد تكون عصية على الفصل، فتذويب الهوية الثقافية داخل الهوية الدينية لأكثر من 14 قرناً كان كفيلاً بأن تفقد الأولى معظم نكهتها، لا سيما بعد تجيير جزء كبير من العادات البدوية/العربية على أنها إسلامية، والادعاء بأنها بدأت مع ظهور الرسالة المحمدية.
صيد اللؤلؤ وغناء البحارة
المتتبع لسيرة الخليج وأهله يجد أن لهم أعمالاً تخصهم دون غيرهم، أشهرها الغوص لصيد اللآلئ عبر نزولهم في أعماق خليجهم حتى قبل الإسلام، ومنذ أكثر من أربعة آلاف سنة.
بقيت الوظائف التي تشكلت عن هذا الغوص من اختصاص أهل الخلجان وحدهم، مثل عمل “الطواش” وهي مهنة المتاجرة باللؤلؤ، وعمل الغواص” أو “الغِيصْ” الذي يغوص في البحر لجمع المحار، وأيضاً “السيب” الذي يقوم بسحب الغواص من قاع البحر، و”الجلاس” أو “اليَلاّس” وهو الذي يقوم بفتح المحار، و”النهام” الذي يغني لطاقم السفينة، ووظيفة السكوني نسبة إلى “سِكّان” السفينة، ولا تعني الكلمة هنا الإسْكان والسُكان بل ما تسكن به السفينة ويمنعها من الاضطراب، ووظيفة “السكوني” هي أن يمسك بدفة السفينة “الآلة” حسب أوامر القبطان الذي يسمى في الخليج “النوخذة” أو “الربان” وهو نائب القبطان.
هنالك ايضاً “القلاف” وهو من يقوم بصيانة السفينة، بالإضافة إلى المقدمي “المجدمي” أي مراقب السفينة… وغيرها الكثير من الأعمال التي لا علاقة لها بوظائف أهل الصحراء، أو بثقافتهم.
فثقافة أهل الخلجان ثقافة بحرية حضرية لا بدوية، أي ثقافة تجارية تقع في نطاق الموانئ والبضائع والتجارة البحرية منذ آلاف السنين، بوصف الخليج كان معبراً مائياً للسومريين والأكديين إلى الهند والصين، مروراً بموانىء الخليج ومدنها بين الضفتين.
تساؤلات الأصدقاء تجعلني أستفيض أكثر في مفهوم الخليج، لكن هذه المرة أدباً، منذ أن خرج الخليج متمرداً عن المحيط وشَكّلَ لنفسه وجوداً جديداً في معناه الآتي من الخُلج والخلجات، أوالخلجة وما يتخالج في الصدر، فنقول مثلاً: “أخفى عنها خلجات نفسه، حتى خرج النّهَام”.
والنهام هو راهب البحر الذي ينهم بصوتٍ عالٍ بكل قوته أثناء الإبحار ومن أعماق صدره يغني الآهات وعذابات الانتظار في تلك الرحلات الطويلة والممتدة. يغني النهام بصوت يشبه “السبرانو” مع تصفيقات البحارة المتناغمة حتى يختلج النهام أثناء أدائه الـ”يا مال” عمّا به من منجيات.
ومع الترانيم والاستهلالات ينتزع ما في صدره من الخَلَجَات ليخلجها خَلجاً، ويزيح هموم الشوق عن كل من فوق محمل السفينة، فيصبح طريق البحر والصبر والرزق سهلاً وعذباً، وكل هذه التقاليد الفنية لا تدخل ضمن عادات وتقاليد وثقافة الصحراء.
قراءة النجوم في البحر والصحراء
من جهة أخرى، يتبع أهل الخليج القاطنون على سواحله طرقات بحرية عديدة عبر قياسهم للنجوم والكواكب الدائرة في المنازل والبيوت السماوية، فاقتحموا البحار الأخرى بعد بحرهم، ليخرج منهم ملاحون كبار وعلماء بحر ذكرتهم الكتب، منهم أحمد بن ماجد الذي عاش في القرن الخامس عشر، وهو من أهم جغرافي العالم من أبناء جلفار حيث ولد وتوفي فيها، وتُعرف جلفار اليوم برأس الخيمة المطلة على بحر الخليج العربي من جهة شمال شرقي الإمارات، ولديه من الاختراعات البحرية المميزة والمخطوطات عناوين هامة وكبرى، ومنها ما اعتمد عليه الأوروبيون ودرسوه وأكملوا عليه من خلال البحار فاسكودي جاما.
أما من جهة الصحراء فقد تتبع العرب أيضاً الفلك في دروبهم لكن من أجل قوافلهم العظيمة التي اتخذت من طرقات الصحراء الطويلة معابر نحو العالم، ولهم علومهم المختلفة.
أهل الخلجان أكثر انفتاحاً من البدو
من أكثر الصفات الواضحة لدى أهل الخليج منذ القدم بوصفهم شعباً بحرياً منفتحاً هي قبول الآخر وسهولة التعامل مع الغرباء، وذلك نتيجة اتصالهم بشعوب العالم أجمع، مختلطين بالأقوام الوافدة الآسيوية والأفريقية والأوروبية من خلال تجارتهم وبضائعهم وموانئهم، فهم أكثر قبولاً للغرباء مهما كانوا يجهلونهم أو ينتقدونهم، فهم يتقبلون وجودهم وثقافاتهم المختلفة بحكم العمل. فكان التعامل التاريخي بين أهل الخليج وتلك الشعوب تعاملاً تجارياً واقتصادياً طويلاً، هذا مع شيء من المصاهرة واكتساب اللغات الأخرى، وهجرة البعض وحب السفر والمغامرة حتى يومنا هذا.
وما زال بحر الخليج من السواحل النشطة، والموانئ العامرة، على الرغم من استباحة الاستعمار البرتغالي للخليج في القرن السادس عشر الميلادي، وتفكيكه الآصرة بين المجتمعات والحكام وتحكمهم في مدنهم وموانئهم، ليأتي بعدهم المستعمر الإنجليزي، ويتبع نفس الأسلوب للسيطرة على بحر الخليج.
بسبب مقاومة شعوب الخليج سفنهم الضخمة والبحارة المتمكنين الاستعمار بإغراقهم سفن الإنجليز في القرن التاسع عشر، تم إطلاق لقب القراصنة على المقاومين من أهل الخليج في بحرهم، والسفن الإنجليزية التي أغرقها أهل الخليج، مدونة بأسمائها وسنوات الغرق ومستوى الخسائر كله في مجلد “تاريخ الخليج” للمؤرخ العسكري الإنجليزي “جون لوريمر”، في الأرشيف البريطاني الورقي والإلكتروني، ويتضح اليوم من أسلوبه مدى تناقضاته.
إن أردنا أن نتوسع قليلاً في شرح الحضارات القديمة التي نشأت على سواحل الخليج تحديداً، فهناك حضارة عيلام الواقعة في شمال الساحل الخليجي وهي اليوم الأحواز، وهي حضارة بحرية، وحضارة سومر وأكد الواقعتين في جنوب العراق وغرب الساحل الخليجي، وجميعها تنتمي إلى الحضارات البحرية، فالأكديون سيطروا وحكموا جميع سواحل الخليج العربي وخرجوا من المضيق حتى سور عمان.
كذلك نشأت حضارة بحرية أخرى وهي دلمون الواقعة جنوب غربي الساحل الخليجي، وهي البحرين وما يجاورها اليوم، وحضارة جلفار الواقعة شرق ساحل الخليج، وحضارة أم النار، وحضارة مجان، وكل تلك الحضارات تختلف عن حضارات جزيرة العرب التي قامت في صحرائها وبواديها.
وعودة إلى مصطلح الخليج ومدن الخليج، ليست كل مدينة أو قرية في الجزيرة العربية هي مدينة خليجية، فقط المدن المطلة على مياه الخليج، وهذه حقيقة علمية تعني بالمصطلح الجغرافي.
فالمملكة العربية السعودية مثلاً تعتبر دولة خليجية فقط بسبب مدنها الواقعة على بحر الخليج مثل مدينة الخبر والدمام والقطيف والجبيل والخفجي، بينما لا تقع العاصمة الرياض على بحر الخليج، لذا هي ليست مدينة خليجية.
كذلك أهل منطقتي حائل والقصيم، فهم ليسوا بحارة عبر تاريخهم، بل نجديون اشتهروا بالثقافة البدوية الأصيلة وهذا مبحث آخر، بوصفهم أصحاب الممالك القديمة مثل كندة وبني أسد وبني تميم وطيء وحضارة الأنباط من إقليم نجد، ولهؤلاء ثقافة مختلفة عن الثقافة البحرية الخليجية.
وإن تحدثنا عن العاصمة العمانية مسقط، فإنها تقع على بحر عمان الممتد إلى المحيط الهندي، وأهلها من أشهر البحارة العرب تاريخياً، لكن مسقط ليست على بحر الخليج، وتعد سلطنة عمان خليجية بسبب محافظتها مسندم الشمالية فقط والمطلة على بحر الخليج العربي، مثل خصب وبخا والقرى والجزر التابعة لهما.
أما دولة الإمارات، فأغلب مدنها أو إماراتها الست واقعة على بحر الخليج، ما عدا إمارة الفجيرة، فإنها تقع على بحر عمان إضافة إلى بعض المدن مثل خورفكان وكلباء ودبا.
أهل الخليج يفضلون ثمار البحر، ويفضل البدوي اللحوم
إن ثقافة الصحراء والبداوة تختلف عن ثقافة أهل المدن المطلة على مياه الخليج، مثل قطر والبحرين والكويت والإمارات، مروراً بالأحواز العربية في جنوب إيران وجزيرة جسم أو قشم، لوقوعها على بحر الخليج.
فمنطقة الأحواز بقبائلها العربية من بني كعب هم من أهل الخلجان المنسيين، بعد أن ضمتها إيران في الربع الأول من القرن العشرين. إذن الأحواز خليجية بالمفهوم الجغرافي. كذلك مدينة الفاو بعد البصرة في جنوب العراق والمطلة على شط العرب، وحيثما يصب نهرا دجلة والفرات في الخليج العربي.
بالتالي يأخذ المسمى اسم المكان، فالمدن الواقعة على الخليج تزخر بالثقافة المشتركة في الإبحار والصيد وحضارة اللؤلؤ بمفاهيمها العميقة، بالإضافة إلى التشابه في الملبس وأنواعه الملونة والمطرزة والبراقع التي لا تشبه براقع البدويات، إنما هي أقرب لقناع تجميلي، أسفلها المادة النيلية الزرقاء لحماية بشرة الوجه من حرارة الشمس.
وحتى على مستوى المأكل، وإلى ثلاثة عقود ماضية، ظلّ الخليجي يفضل أكل الأسماك وثمار البحر، بينما كان البدوي حتى وقت قريب يتجنب أكل الأسماك، مفضلاً عليها اللحوم.
هذه الثقافة الجغرافية المتصلة بالثقافة الخليجية البحرية والثقافة البدوية الصحراوية، أخذت بالتراجع بعد دخول التقنيات ومكيفات الهواء على المنطقة، واختلاط أهل السهل وأهل البحر والبدو وأهل الجبال بعضهم ببعض، مما جعل التأمل في الطبيعة البحرية والطبيعة الصحراوية للمكان أقل اهتماماً عمّا كان عليه.