الذين انتحروا ليسوا هنا ليخبرونا بما مروا به من تشتت وحروب نفسية عصية على أن تحكى، وقد استغرق الأمر منا الكثير لأجد شخصًا قادرًا أن يشارك قصته والدروب الوعرة التي خاضها في طريق النجاة الطويل المحفوف بالضياع والمتاهات التي لا تنتهي.
بالفعل التقيت بالسيدة (سين شين)، وبعد تردد كبير جدًا، وتحفظات كبيرة حول هويتها، اتفقنا أن يتم الإشارة لها عبر هذين الحرفين.
قدمت نفسها على أنها ناجية، وتتعامل مع نفسها على ذلك الأساس، وبعد مرور أكثر من خمس سنوات على تلك النجاة من علاقة مع شريك نرجسي سألتها: هل شفيت من هذه التجربة؟
سكتت كثيرًا، ويبدو أنها لم تجد إجابة جاهزة، قالت إنها لا تعرف، هل شفيت حقا؟ لكنها تعتبر نفسها نجت نجاة لا تختلف عن التي تحدث من الحروب ومن التفجيرات ومن محاولات القتل، وتضيف: “إن الناجين طبعًا هم معنا اليوم وعلى قيد الحياة، وقد يزاولون حياتهم بشكل طبيعي، لكن لا أحد يمكنه أن يتأكد؛ هل أثر الحوادث التي تعرضوا إليها قد شفيت من الداخل أم لا!
وتردف بالقول إنه أحيانا لا يهم أن نحمل معنا ندوبًا من الماضي، بل أحيانا تبدوا كأنها مسألة ضرورية أو حتمية في مسار حياة محفوف بالمخاطر، تخلل هذا الحديث الكثير من الانقطاعات من التنهد والسرحان والبكاء وعلامات وجع داخلي لا يمكن أن نصفها بكلمات.
كل الأشياء عرضة للهدم إثر التورط في علاقة مع شخص نرجسي
في بداية الانفصال أصيبت باضطراب ما بعد الصدمة، الأمر الذي تسبب لها بخمول شديد وعدم رغبة في الإقبال على الحياة، وهو بدوره أدى إلى تراجع مردوديتها في العمل، اضطر رئيسها إلى طردها، فأصبحت بلا عمل، وهو ما عمق المشكل أكثر فأكثر.
“تخيلي معي؛ أنت في المحطة تنتظرين قدوم الباص أو الحافلة، لتذهبي إلى وجهة معينة تبعد بعض الكيلومترات، ثم مرت عشر دقائق ولم يأت الباص، مرت عشرون دقيقة الآن، تراودك فكرة أنه لو اخترت المشي بدلاً من الانتظار لكنت وصلت، تعتزمين الذهاب سيرًا، فتراودك فكرة أخرى: ماذا لو ذهبت سيرًا على الأقدام ووصل الباص بعد دقيقتين من مغادرتي للمحطة، فتواصلين الانتظار أكثر فأكثر، وطبعًا لا يصل الباص، وكلما انتظرت أكثر يصبح قرار المشي سيرًا أكثر صعوبة”. بهذه القصة عبرت سين شين عن معاناة المغادرة والرحيل من علاقة مع النرجسي.
الأمل أحيانًا يكون في غير محله يفسد قراراتنا، وأحيانا يفسد حياتنا كلها، وتضيف: “يجب أن أخبرك بأمر محزن جدًا، وهو أن الباص لن يأتي أبدًا، وقد أحزنك أكثر حين أقول لك إنك لست في المحطة التي ستوصلك إلى وجهتك “.
المشي إلى وجهتنا، أمر متعب، وفي الطريق تعترضنا الرياح والأمطار والشمس الحارقة، وقد نتعرض إلى حادث سير، لكن هناك راحة بالوصول في نهاية المطاف، أما الانتظار فجحيم سرمدي لا يطاق.
ربما يدوم الانتظار سنة، سنتين أو أكثر، ننتظر من نفس المكان، إلى أن تتحول من فرط الأمل لتمثال مجمد في محطة الباص المزيفة تلك، لن نتقدم، لن تتطور وفي قوانين الطبيعة والحياة الأشياء التي لا تتطور تتراجع تلقائيا حتى تموت.
في العلاقة بالشخص النرجسي توجد قاعدتان لا ثالث لهما في الطب النفسي؛ وهما ما يجب البدء به للتعافي: you can't fix him and run away
القدرة على بناء الحياة المتهدمة من جديد
تستكمل السيدة سين شين قصَ حكايتها بالكثير من الدموع، وتؤكد: “الخطوة الأولى كانت من أصعب القرارات التي اتخذتها، والأصعب أن أقنع نفسي بأن لا ألتفت أبدًا، وأنا أغادر تلك المحطة –العلاقة السامة– دون محاولة الاستدارة إلى الخلف لأتأكد من وصول الباص. أصبحت على يقين أنه لن يأتي، لا وصول أو أمل في هذه العلاقة”.
البقاء مع علاقة مع شخصية نرجسية يبعد أكثر عن الوجهة، ويأخذنا إلى متاهات، سيكون من الصعب جدًا الخروج منها على قيد الحياة، هذا إن كان هناك إمكانية لاتخاذ مثل هذا القرار بالخروج من العلاقة مع النرجسي.
لا يمكن إصلاح الشريك النرجسي، لأن تركيبته النفسية مركبة على تلك الشاكلة، إنه أشبه بمحاولة تغيير تركيبة المعدن لكي يصبح سائلاً؛ فعلى الرغم من أنه يحتاج إلى طاقة هائلة لتذويب المعدن وتحويله إلى سائل، إلا إنه يعود إلى تركيبته المعدنية حالما يبرد. الأشخاص النرجسيون لا يتعافون بنسبة 95 بالمائة. حسب الطب النفسي
أمضت السيدة (س) حوالي سنة تحاول الخروج إلى الحياة دون جدوى، كان يسيطر عليها اليأس و الإحباط والخمول العام وتشتيت الانتباه، لا تستطيع قراءة مقال صغير باسترسال، لا تستطيع مشاهدة فليم كامل.
تتشتت انعزلت عن أصدقائها الذين حذروها من شريكها، وأصبحت تخشى النظر إلى أعينهم، بعد أن أفسد علاقتها بهم، سيطرت عليها مشاعر الوحدة، وأنها ليست كفؤًا، لن تجد شخصًا مناسبًا يمكن أن تحبه.
استمرت في مراقبة الإكس على مواقع التواصل الاجتماعي، ورؤيته وهو يواصل حياته بشكل عادي، ويتسكع رفقة أصدقائه ويمارس عمله ويسهر الليالي، في مقابل العزلة التي تعيش فيها، تعمقت مشاعر الإحباط داخلها، شعرت بالاستغلال الذي وقعت ضحية له، كان شعورًا يحتاج الكثير من الوقت لتجاوزه، حسبما تسرد (س).
أن ينقطع الإنسان عن العالم الخارجي لمدة طويلة، دون إمدادات نفسية وبدون أصدقاء، وبعدم القدرة على التحدث عن ما يمر به أمر في غاية الصعوبة، وتضيف سين شين: “الأمر متعلق بالعقل، يجب أن ندرب العقل على المشي مجددًا، على الرغم من أن الأمر صعب، لكنه غير مستحيل، البداية تأتي من الاعتراف المبدئي بوجود مشكل، ثم طلب المساعدة من مختص نفسي، ثم الالتزام بالواجبات وتمارين المعالج، ومباشرة الحياة شيئًا فشيئًا”.
ربع سكان العالم سيعانون من مرض نفسي واحد على الأقل طوال حياتهم؛ (ما يعني أن أكثر من مليار ونصف شخص يعانون مثلك)
حسب منظمة الصحة العالمية
ساعدها الطبيب النفسي بمجموعة من تمارين التحدث مع أشخاص عايشوا نفس مشكلتها، وخلال فترة تمارين التحدث تعرفت على أشخاص يحملون نفس ندوبها وبدرجات متفاوتة، وهنا خفف الشعور بالوحدة والضياع وشيئًا فشيئًا تخرج من قوقعتها للحياة.
تعمل اليوم السيدة سين شين مساعدة نفسية، وتساعد مئات الناس الناجين من اضطرابات ما بعد الصدمة، تشعر اليوم بالجدوى من الحياة أكثر من أي وقت مضى، تزاول عملاً تحبه بعد أن قررت تغيير وجهتها، ودرست علم النفس. أصبحت تشارك الناس آلامها دون خجل، وصنعت لنفسها أصدقاء جددًا أسوياء، تزوجت وأنجبت أطفالاً وتعيش حياة سعيدة.
يقول الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال: “إنني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة، أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر، ثمة آفاق كثيرة لابد أن تزار، ثمة ثمار يجب أن تقطف، كتب كثيرة تقرأ، وصفحات بيضاء في سجل العمر، سأكتب فيها جملاً واضحة بخط جريء”.
مواجهة المخاوف والمضي قدمًا تجعلنا نصنع من النهايات التعيسة بدايات جديدة لقصص تشبهنا أكثرً ويمكن أن نكون فيها فاعلين إيجابيين، إصلاح النرجسي، تجربة انتحارية شبه مستحيلة، لكن الخروج من النفق وتجاوز النرجسيين ممكن جدًا، ومتاح طالما امتلكنا إرادة المواجهة والصدق مع النفس.