بعد أن تم تكليفه بتصميم متحف الفن الإسلامي بالدوحة قام المعماري الصيني آي إم بي برحلة طويلة، جال فيها حول المعالم الرئيسية في العالم الإسلامي، زار المسجد الجامع بقرطبة في إسبانيا، والمسجد الأموي في دمشق، مرورًا بسوسة في تونس، فضلًا عن عاصمة المغول في الهند، خاب وفاضه ولم ير في تلك النماذج ما يشبع رغبته من استلهام نموذج معماري يعبر عما يجول في خاطره، من مفهوم فلسفة العمارة الإسلامية، لكن المفاجأة بالنسبة له كانت في زيارته مسجد أحمد بن طولون في القاهرة وتحديدًا في مدينة القطائع القديمة التي بناها والي مصر في القرن الثالث الهجري
دخل المسجد فجذبت انتباهه تلك الميضأة المملوكية في منتصف الفناء الداخلي الواسع للمسجد، صرح ساعتها السيد “بي” أن تقشف وبساطة تلك الميضأة هي التي استرعت انتباهه فور رؤيته لها؛ حيث قال إنها بناية تنبض بالحياة في الشمس، وربما كان السبب في ذلك فعلًا أن تلك الميضأة تشبه إلى حد كبير الحياة في قطر؛ حيث إنها تقع في منتصف ساحة واسعة بلون أصفر خالية من أي معالم معمارية أخرى سواها، لذا بدأ بالفعل في اقتباس تصميمه لمتحف الفن الإسلامي بالعاصمة الدوحة في قطر، لكنه لم يكن مقلدًا له؛ بل استلهم منه الفكرة والتكوين المعماري، وجاء بفكرة جديدة، وربما يصح هنا الاستلهام، لأن المتحف لا يعبر عن ثقافة قطر وحدها؛ بل يعبر عن مفهوم الفن الإسلامي إجمالًا؛ فالمتحف يضم عددًا كبيرًا من القطع الفنية المختلفة، في فترات زمنية متعددة، منها الفاطمي والفارسي والمملوكي وكذلك العثماني.
جرت العادة أن الحديث عن العمارة التقليدية في أي مكان في العالم، يبدأ من الأقدم إلى الأحدث، لكن هنا في قطر يختلف الوضع نسبيًا، سوف نبدأ بالحديث من متحف الفن الإسلامي القائم على الخليج العربي؛ إذ إنه هو الملهم الرئيسي والمحرك لقطر؛ حيث بدأت ترعى العمارة التقليدية وتعرف قيمة الفن والعمارة الإسلامية، يطل المتحف بواجهة جذابة على جزيرة صناعية في الخليج، لننطلق منه حول رحلة للعمارة التراثية في قطر.
هل امتلكت قطر تراثًا معماريًا؟
على قدر صغر مساحة قطر؛ إلا أنها امتلكت تراثًا معماريًا مميزًا، والأهم بطبيعة الحال أنه كان في معظم الأوقات معبرًا عن الطبيعة المناخية، وكذلك الثقافية في الإمارة، كان التنوع حاضرًا بالفعل؛ فقطر امتلكت عددًا مختلفًا من البنايات، كان أهمها بطبيعة الحال المساجد ثم القلاع والحصون الحربية، ولا يجب أن ننسى بالتأكيد المدن القديمة والقرى المندثرة.
يتصدر مسجد القبيب رأس القائمة؛ كونه أحد أقدم المباني الدينية في إمارة قطر وأكثرها شهرة وارتباطًا بالناس، أسس هذا المسجد الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني مؤسس دولة قطر، يطل المسجد بمشهد لطيف واستثنائي في العاصمة القطرية الدوحة، وقد أسس هذا المسجد على نفس نمط بناء مسجد قديم آخر في قطر لم يعد له أثر الآن، كان يطلق عليه مسجد قلعة مرير، وقد جرت العادة في الجزيرة العربية أن ضمت كل قلعة مسجدًا يصلي فيه حاكم المنطقة والحاشية حوله، ولقد اقتبس الشيخ جاسم نمط العمارة من هذا المسجد أثناء حصاره لها، ولقد نقل المعماري المحلي الهميلي عمارة المسجد إلى الدوحة، مستعملًا بذلك مواد البناء الخاصة التي تكيفت مع البيئة وانسجمت مع المكون الثقافي للمنطقة، يظهر هذا المسجد بقبابه الكثيفة التي وصل عددها إلى 44 قبة، شكلت سقف المسجد بأناقة، لكن أهم ما يبرز قيمة هذا المبنى فعلًا هو تلك المئذنة التي أقيمت في الناحية الشرقية له؛ حيث كان ارتفاعها ضعف ارتفاع المسجد تقريبًا، وشكلت على نمط دائري انتهت بقبة صغيرة مفصصة.
في الخور وبالقرب من الدوحة على الساحل، يقع مسجد آخر، يطلق عليه مسجد الذخيرة، وهو أحد المساجد التاريخية وأقدمها في إمارة قطر؛ حيث تم إنشاؤه سنة 1900 من الميلاد، والذخيرة إحدى بلديات قطر القائمة على الساحل، يتكون هذا المسجد التاريخي من عناصر نمطية في العمارة التقليدية بقطر، ويظهر بشكل مختلف نسبيًا عن مسجد القبيب بالدوحة، لكن أهم ما يبرز قيمة العناصر المعمارية في هذا المسجد الفريد، هو المنبر والمحراب؛ حيث ظهروا مدمجين في جدران القبلة ومتداخلين معه بشكل انسيابي يبرز فن العمارة في تلك الفترة؛ حيث تدخل إلى هذا المنبر من خلال باب مدمج في جدار القبلة، ولا يمكن استثناء عمارة المئذنة الأنيقة من عبقرية البناء في هذا المسجد التاريخي الهام، فقد قامت بعيدًا عن المسجد في ركن مختلف، دائرية فتحت فيها فتحات متعددة ومختلفة، لكنها احتفظت بالسمة الرئيسية في عمارة المآذن في قطر، وهي ارتفاعها النسبي عن عمارة المسجد.
حصون اللؤلؤ:
على جانب آخر امتلكت قطر مجموعة كبيرة جدًا من القلاع والتحصينات العسكرية، التي توزعت بشكل دائري وفقًا لحدود قطر البحرية، أقيمت تلك الحصون بغرضين رئيسيين؛ وهما تأمين صيادي اللؤلؤ في الساحل القطري؛ حيث قام الاقتصاد القطري إبان القرن التاسع عشر والقرن العشرين على صيد اللؤلؤ وتصديره بشكل رئيسي؛ حيث امتلكت قطر 80% من صادرات اللؤلؤ في دول الخليج، لذا كان من المهم إنشاء مثل تلك القلاع والحصون على الساحل لتأمين الصيادين الموجودين داخل الخليج العربي، والغرض الثاني هو كذلك التأمين الحربي لتلك السواحل من أي اعتداء خارجي، جاءت تلك الحصون معبرة بشكل عميق عن هوية قطر العمرانية والتراثية؛ حيث يتم بناؤها من مواد خام بيئية، حتى تكون قادرة على مقاومة البيئة والتقلبات المناخية، مثل الحجارة المرجانية والجيرية.
تقف قلعة الزبارة على قائمة تلك القلاع الأساسية في قطر، تلك القلعة العسكرية التي تقطن الشاطئ الشمالي الغربي للدولة، والتي كانت مقرًا رئيسيًا كذلك لقوات حرس الحدود إبان فترة القرن العشرين، أنشئت القلعة الحالية سنة 1938 على يد الشيخ عبد الله بن قاسم آل ثاني بدلًا من قلعة أخرى كانت مكانها، لتقوم على نمط عسكري معهود لدى التحصينات في الجزيرة العربية، وهي عبارة عن مربع ارتكز في جوانبه الأربعة على أربعة أبراج، ثلاثة منهم دائرية وآخر كان مستطيلًا ومتسعًا أكثر من الباقين، وهو ملازم للمدخل الرئيسي للقلعة، ولقد كان هو المقر الرئيسي للجنود في تلك القلعة الأنيقة، بالإضافة إلى الغرف الداخلية التي التفت حول الجوانب الأربعة من القلعة. تطل كذلك تلك القلعة بعين الحراسة على مدينة مندثرة تعود إلى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، كانت تنبض بحيوية صيادي اللؤلؤ وتجاره؛ حيث قامت حياتهم على اللؤلؤ وصيده من ساحل الدولة في هذا الاتجاه، ولتفرد تلك البلدة عمومًا وهذا الحصن خصيصًا، انضم هذا الموقع إلى قائمة التراث العالمي، ليصبح مزارًا معبرًا عن هوية قطر.
على الناحية الشرقية وبالقرب من العاصمة الدوحة يقع حصن آخر، ذو دلالة تاريخية أيضًا، أقيم لنفس الأغراض تقريبًا، مع كونه كان مقرًا سكنيًا للشيخ محمد بن جاسم وأخيه الشيخ عبد الله في فصل الشتاء، مع كونه يأخذ نمطًا حربيًا ببرجي حراسة وأسوار عالية؛ إلا أنه صبغ كذلك بصبغة مدنية لغرض السكنى كما تمت الإشارة، وبالقرب منها تقع أبراج برزان في نفس القرية، وهي أم صلال، وكانت مقرًا للشيوخ في الصيف، لكن تلك الأبراج أفخم في البناء، يبرز وجودهما في تلك القرية التي كانت محصنة بسور مرتفع، قيمتها التاريخية كمدينة قبالة الساحل الشرقي، في مواجهة السفن المارة وصيادي اللؤلؤ في الساحل.
أسواق ومنازل .. تاريخ مركب
في العاصمة وعلى الشاطئ، يقع أحد أهم الأسواق القديمة في قطر، وهو ما يطلق عليه سوق واقف، سمي بهذا الاسم اللطيف حيث إن الباعة كانوا يقفون على الطريق المؤدي إلى السوق الكبير في تلك المنطقة التاريخية، ويعود تاريخه إلى ما يقرب من قرن كامل من الزمن، لكن الأمر يختلف نسبيًا، فقد أعيد ترميمه بشكل استثنائي ومنمق، بطراز تقليدي يغلب عليه استعمال الأخشاب والحجارة القديمة، ويضم عددًا كبيرًا من المحلات التجارية التي تبيع المنتجات التراثية والتقليدية التي اشتهرت بها قطر على طول تاريخها، لكن تبرز قيمة هذا السوق أيضًا حيث يقع بجانبه قلعة الكوت، وهي إحدى القلاع التراثية التي أنشئت في قطر في بدايات القرن العشرين، لتكون مقرًا للشرطة في المدينة.
بالقرب من تلك القلعة تكمن قصص مثيرة، ففي قلب حي مشيرب التاريخي وتحديدًا في منزل بن جلمود التراثي، تسكن آلاف الحكايات عن الرقيق والعبيد؛ حيث كان المنزل الكائن في الدوحة مملوكًا لتاجر الرقيق بن جلمود، الذي كان يعتمد على تجارة الرقيق، وتسليعهم في عملية صيد اللؤلؤ؛ حيث كانت تلك التجارة تحتاج إلى يد عاملة من العبيد لغرض الغوص وصيد اللؤلؤ من الخليج العربي، فضلًا عن استعمالهم كعبيد في الأسر القطرية في تلك الأونة، وهي بدايات القرن العشرين.
يقف هذا البيت الآن في حي مشيرب ليحكي الكثير والكثير من القصص الحقيقية، والتي عانى فيها العبيد الذين جلبوا من أفريقيا عبر الخليج إلى هنا، وظف المنزل الآن بشكل حضاري ليحكي تلك القصص، ويعبر عن معاناة البشر في تلك الفترة الزمنية، بل ويبرز كذلك دورهم كفاعلين رئيسيين في الحضارة الإنسانية، ولا تتوقف قصة حي مشيرب عند هذا المنزل؛ بل كذلك في منازل أخرى تحكي قصصًا مختلفة، مثل بيت محمد بن جاسم ابن مؤسس دولة قطر وغيرهم. لكن يبرز نموذجًا هامًا آخر بالقرب من تلك المنازل؛ وهو مسجد مشيرب.
“يمزج مسجد مشيرب الأفكار الحداثية مع ترتيب مألوف تاريخيًا للأحجام والمساحات والعتبات الإسلامية، تستخدم الخطة الحجر المحلي والتقنيات الحرفية والتفاصيل التفسيرية، تطور مفهمونا من المسجد القطري التقليدي ويتبع مبادئ البساطة والوظيفة والروحانية، إلى جانب التفسير الحديث للأصول المادية والنظام، كان التحدي الرئيسي للتصميم هو التأكد من أن مداخل المسجد ومساحاته الداخلية كانت من الداخل في السابق، وتمكنت من الوصول إليها بشكل منفصل من قبل رجال ونساء وفقًا للعادات الإسلامية”، كان هذا البيان الذي عبرت عنه مؤسسة عبد اللطيف الفوزان عن مسجد مشيرب الذي فاز بالجائزة في مارس 2022؛ ليكون استكمالًا للعمارة في قطر، ويظهر مسجد مشيرب بالفعل بصورة رائعة معبرة عن هوية قطر التي عرفت بها على طول تاريخها.
خاتمة
لا تغرنك مساحة قطر الصغيرة؛ فبين الجدران تكمن حكايات آلاف الصيادين والأسر والعبيد، كذلك تحكي منشآت الدولة عن تاريخها السياسي والاجتماعي وكذلك الثقافي، بين مناطق مختلفة شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، صنعت قطر من كل تلك النماذج تاريخًا حقيقيًا معبرًا عن كل فرد في المجتمع.