بواقع إنفاقٍ يزيد عن المائتي مليار دولارٍ أميركي، وبما يقارب 6500 عاملٍ أجنبي توفّي في أعمال الإنشاء والاستعداد للاستضافة طوال الاثنتي عشرة سنة الماضية، وقوانين تبقي على صورة السلطة السياسية للدولة كرقيب على قيم المجتمع، تفتتح قطر الحدث الكروي الأكبر والأكثر جدلاً في العالم طوال شهري نوفمبر وديسمبر.
المشهد في الشارع منذ وقت مبكر يعج بمؤثرين ومشاهير على وسائل التواصل الاجتماعي يتوافدون إلى قطر، يتجولون في الأسواق، الحدائق، الأماكن العامة، ويزورون الجامعات، في مساعٍ لإظهار وجهٍ آخر للبلد المغلق والمحجوب عن أعين الإعلام والمنظمات الدولية وتصويره كأرض الأحلام، في ظرفٍ ستفتح فيه أبوابه على العالم، وبعبارةٍ فخورة كما يرددها أحد المروجين “إنها قطر”.
تشجيع مسبق الدفع
منذ أسابيع على انطلاق المونديال الكروي في دولة قطر الـ 20 من نوفمبر الحالي، تشهد العاصمة القطرية الدوحة احتفالات جماهيرية بكأس العالم من بلدان مختلفة حول العالم. مشجعون يرتدون زي المنتخب البرازيلي، الأرجنتيني، الإنجليزي وبقية أزياء منتخبات الدول المشاركة في المونديال، لتشكك وسائل إعلامٍ أوروبية حول طبيعة هؤلاء المشجعين.
في الثلاثين من أكتوبر الماضي، قامت صحيفة “NL Times” بنشر تحقيقٍ يوثق مزاعم لمشجعين هولنديين قامت جهات قطرية بالتعاقد معهم للحضور والتشجيع في المونديال ومشاركة آراء إيجابية عن استضافة قطر له. أما صحيفة دتش نيوز فقد عنونت تغطيتها للقصة باستئجار قطر لجواسيس هولنديين لكأس العالم على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ كما يفيد المشجعون في حديثهم للصحيفة، طلبت منهم الجهات القطرية كذلك الإبلاغ عن أي منشورات أو تغريدات تنتقد فعاليات المونديال أو قطر.
وزيرة الداخلية الألمانية ومسؤولون أوروبيون رفضوا حضور المونديال في قطر لسجلها الحقوقي السيء والقيود التي ستفرضها الدولة المستضيفة على المشجعين. فيما اعتبر وزير الخارجية القطري ذلك بالحملة الممنهجة التي تتعرض لها قطر كبلد عربي في استضافة المونديال، معرباً عن استياء بلده من مواقف بعض الدول واستغرابه أسباب هذه المواقف.
أما على الأرض، تشهد الشوارع القطرية كما تظهره وسائل التواصل الاجتماعي توافد مشجعين من دول مختلفة في مواكب تشجيع تجول الشوارع منذ أسابيع تسبق انطلاق فعاليات المونديال، لتسجل بذلك فضيحة كما زعمت وسائل إعلام عالمية. صحيفة الديلي ميل الإنجليزية اتهمت قطر باستئجار مشجعين في هذه المواكب التي تجوب شوارع قطر وتنشرها حسابات قطرية ترويجية على وسائل التواصل الاجتماعي، مشيرة لقيام الأخيرة بالدفع لمهاجرين أسيويين للتظاهر كمشجعين من بلدان أوروبية ولاتينية موثقةً بذلك صورهم المنتشرة على الحسابات القطرية.
أزمة مؤامرة أم عقدة الديكتاتور؟
وفي معرض رده على تصريحات وزيرة الداخلية الألمانية التي قالت بأنها لن تشارك في المونديال في غياب ضمانات حماية الأقليات في قطر، قال وزير الخارجية القطري، محمد آل ثاني، بأن قطر تتعرض لحملة ممنهجة منذ اختيارها لاستضافة كأس العالم العام 2010. فيما كان سبق وقد رفضت قطر رفع أعلام مجتمع الميم في المونديال وفرضت قيوداً على الأقليات الجنسية التي ستحضر للتشجيع في المونديال.
احتفالات وفق الضوابط الشرعية
على الرغم من التمنيات التي عبر عنها وزير الخارجية القطري بأن تصبح الاستضافة في قطر حفلةً عالمية مفتوحة، منعت السلطات القطرية بيع الجعة في ملاعب الكرة أثناء المباريات، بالإضافة لضوابط أخرى حول الكحول وشربها في الفضاءات العامة وتقنين القدرة على شرائها من قبل المشجعين.
أما خارج الملاعب، فقد حددت السلطات القطرية شرب الكحول ضمن مناطق خاصة للشرب “Fans zone” بأسعار لا تقل عن 12 جنيه استرليني لكأس الجعة، وبأوقات محددة ضمن ساعات معينة وكمية محددة من الشرب للفرد الواحد بأربعة كؤوس وفق الدايلي مايل البريطانية. رئيس الفيفا، جياني انفاتينو، وقبل ساعات من انطلاق الحفل الافتتاحي للمونديال علق في مؤتمر صحفي على شكاوى المشجعين حول منع بيع الجعة والكحول في المدرجات قائلاً: “لن تموتوا إذا توقفتم عن شرب الجعة لثلاث ساعات”. وعلى الرغم من تأكيده بأن القرارات الخاصة بالمونديال قد اتخذت بالشراكة بين السلطات القطرية والاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا”، كانت الفيفا قبل هذا التعليق قد باعت حقوق الراعي الرسمي لبيع المشروبات الكحولية في المونديال لشركة “كارل كونراد” الأميركية المصنعة للكحول مقابل 65 مليون دولارٍ أميركي.
قيود إعلامية وداخل لا يألف الكاميرات
القيود القطرية لم تقف عند سلوك المشجعين في المدرجات وأماكن إقاماتهم، بل تجاوزت أيضاً للقيود على وسائل الإعلام. مراسل التلفزيون الدنماركي “تي في 2” وفي حادثةٍ مصورةٍ نشرها على الانترنت، تم منعه من التصوير من قبل السلطات القطرية على الرغم من حمله تصريحاً بذلك، حيث خاطبه رجال الأمن بأن التصوير مقتصر في أماكن معينة فقط، مهددين إياه بتحطيم الكاميرا كما تحدث مراسل القناة. مراسل القناة الدنماركية توتنهالت خاطب رجال الأمن في المقطع الذي كان يبث مباشرةً: “لقد دعوتم العالم كله ليأتي إلى هنا، فلماذا لا نستطيع التصوير؟ إنه مكان عام. يمكنك تحطيم الكاميرا، تريد تحطيمها؟ أنت تهددنا بتحطيم الكاميرا؟”. فيما علق على صفحته في تويتر بقوله: “هذا ما حدث معنا عندما كنا نبث من الدوحة اليوم، لكن هل سيحدث لمختلف وسائل الإعلام كذلك؟”.
لاحقاً، قام منظمو المونديال ومكتب الإعلام في قطر بتوجيه اعتذارٍ رسمي لطاقم القناة الدنماركية، معللين إيقافه عن التصوير بأنه عن طريق الخطأ والشك في عدم حصوله على تصريح، وأنه بعد فحص التصريح تم السماح له بالتصوير. يذكر أن مراسل القناة الدنماركية كان قد أظهر تصريحه لرجال الأمن الذين رفضوا استمراره في التصوير.
سجل حقوقي سيء
على صعيد آخر لا تستثنى فيه قطر من الانتقادات حول أهليتها لاستضافة كأس العالم كبلد ديكتاتوري، وجهت الانتقادات للسجل الحقوقي السيء لقطر في تعاملها مع المعارضين القطريين والعمالة الوافدة. فمنذ انطلاق أعمال الإنشاءات الخاصة بكأس العالم، قضى 6500 عاملٍ مهاجر نحبهم خلال العمل في ظروف صعبة وقاسية وتحت درجات حرارة وصلت للخمسين درجة مئوية وبأجور هزيلة.
في أغسطس من العام الماضي، كانت قطر على موعد مع أول انتخابات برلمانية في تاريخها، لم تخل من تقسيمات للمكونات الشعبية في الداخل القطري وحرمان فئات من حق الانتخاب وأخرى من حق الترشح، فيما قامت باعتقال ناشطين قطريين اعترضوا على وسائل التواصل الاجتماعي على قانون الانتخاب وتقسيمهم لمواطنين لهم حق وآخرون ليس لهم حق انتخابي.
في مايو الماضي، وقبيل أشهر من استضافتها للمونديال، قامت السلطات القطرية بإصدار حكمٍ بالسجن المؤبد على ثلاثة أشخاص شاركوا في عمليات الاحتجاج والاعتراض على وسائل التواصل الاجتماعي على العملية الانتخابية في قطر.
وبمختلف التناقضات التي تحدث للمرة الأولى في تاريخ المونديال، انطلقت مباريات كأس العالم في قطر بين قيود ومخاوف وذباب الكتروني ومشجعين مسبوقي الدفع، وضحايا مهاجرين تنتظر أسرهم العدالة، ومعتقلون يأملون أن يزور العالم سجونهم في الدوحة.