مع كل حالة عنف تحدث وينتشر خبرها عبر وسائل الإعلام، تكثر التساؤلات عن الأسباب التي تدفع النساء لتقبل العنف الممارس عليهن فترة طويلة؛ خصوصًا عندما يطال العنف شريحة من النساء تظهر مستقلة ماديًا، كأن تكون فنانة مشهورة مثلاًَ تستطيع أن تُحيط نفسها بأفضل المحامين والأطباء النفسيين وتوقف المعنِف بل وتُدفعه الثمن غاليًا.
لعل المطربة الشهيرة التي انتشرت حكايتها على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام في الأشهر الماضية، أعطتنا تعريفا جديدًا لمعنى الاستقلال، فالمستقلة ماديًا في مجتمع ذكوري قد لا تحتاج الرجل ليوفر لها احتياجاتها من مأكل وملبس، لكنها ستحتاجه لتعيش! ولمعرفة جذور هذا التعلق المرضي الذي تشعره المرأة تجاه الرجل الذي أعطاه المجتمع لقب” السند”، يجب أن نعود لبدايات التنشئة والتحضير وقصقصة الأجنحة التي تتعرض لها الفتاة وهي طفلة.
عجيب! كيف يصنع هذا المجتمع أزمة المرأة ثم يضع لها حلولاً ذكورية تنقذها من مشاكل صنعت لها عمدا؟ تماما كتعدد الزوجات، الذي أراده المجتمع الذكوري بشدة، فقام بتقليل خيارات المرأة بحرمانها من الزواج من غير دينها بحجة الشرع، ثم أجهز عليها بالقانون عندما حرمها في الكثير من الدول العربية من الزواج بغير جنسيتها، ليمنعها من تمرير جنسيتها لأبنائها وزوجها بحجج واهية حتى، يجعل خيار الزواج بأجنبي مغامرة سيئة العواقب، ولم يكتف عند هذا الحد؛ بل ومنعها من الزواج من غير قبيلتها بعرف القبائل، كل هذا والرجل حر يستطيع الزواج من كل بلاد العالم؛ فصنع لها أزمة أسماها “العنوسة” ثم قدم لها حلاً يجهز على كرامتها؛ وهو تعدد الزوجات.
هكذا يتعامل المجتمع الأبوي الذكوري مع المرأة؛ يُقلص أمامها الخيارات ويمنع الحلول المنطقية ويُضعفها بشتى الوسائل، حتى تصبح خاضعة، ثم يخرج ليقول "انظروا المرأة ضعيفة وتحتاج الرجل السند".
لا يرى المجتمع المرأة إنسانًا كاملاً؛ بل ويحاول بشتى الطرق ألا تصبح في يوم من الأيام، وحتى يصل إلى مراده، يبدأ بتجهيزها لتصبح ناقصة منذ الطفولة، تتساءل الطفلة لماذا يتحول لقب والدها إلى أبي فلان بينما هي الأكبر؟ تعترض في البداية على تجاوزها وكأنها غير موجودة، ثم تكبر لتعرف أن عمتها حرمت من الميراث، وخالتها كانت أكثر حظًا فحصلت على نصف ميراث أخيها، هي في أحسن الأحوال نصف إنسان، وكل شيء حولها يؤكد هذا .
في النظم الأبوية، الاستقلال يُدرس منذ الطفولة، يُربى عليه الرجل بينما، تُربى الأنثى على التبعية؛ فعندما يُطلب من الفتاة خدمة أخوتها الذكور وهم جميعًا في أعمار متقاربة؛ فهذا الطلب ليس بريئًا كما يبدو للبعض؛ بل هو متعمد لنزع جزء من ثقتها في نفسها وإعطائه لأخيها على طبق من ذهب. ثم يُفتح أمام الذكر بحر التجارب وتُحرم منه الأنثى؛ يخرج هو ويواجه الحياة ويتعلم، يخطئ بدلاً من المرة عشرات المرات وهو ضامن المسامحة، بينما تقبع هي في سجن الممنوع والمحرم، وتتشبع بفكرة الخطأ الواحد القاضي؛ فهي ممنوعة من ارتكاب الأخطاء؛ فالزجاج يُكسر ولا يعاد إصلاحه، وهي من زجاج كما علّمها المجتمع، تتخلى عن أحلامها شيئًا فشيئًا؛ بل يتم حشوها بأفكار عن جمالية الضعف والأنوثة المطلوبة لجذب الجنس الآخر، كل هذا مع عملية ممنهجة للترهيب إن هي خرجت عن طوع العائلة.
ينتج عن كل هذا شخصية ضعيفة تابعة تخاف المواجهة وتتلفت حولها خوفًا من أن يراها أحد ويسيء فهمها، سُمعتها أهم ما تملك، أهم من حياتها ومستقبلها وأحلامها، حتى أحلامها لا تملكها، تخلت عنها شيئًا فشيئًا ليصبح هدفها الوحيد أن تتماشى مع المجتمع وتحقق القائمة المطلوبة منها في كاتالوج الفتيات، وفي نفس الكاتالوج هناك تحذير من كلمات مخيفة كـ “عانس و”مطلقة “، ألقاب تخاف منها الفتاة المقبلة على الحياة، تخاف إلى درجة أن تقبل بأي زواج للهروب من اللقب الأول وتقبل البقاء في أي علاقة مَرضية للهروب من اللقب الثاني.
هذا العنف المبني على النوع الاجتماعي الذي يمارس على الفتاة منذ الصغر يأتي مصحوبًا بعنف اقتصادي، يؤسس لفتاة غير قادرة على إعالة نفسها في الغالب، على الرغم من أن الحاجة المادية قد تكون من أهم أسباب تحمل المرأة وتقبلها للعنف، إلا أن نقص الثقة بالنفس والتبعية التي تنشأ عليها الكثير من الفتيات والخوف من المجتمع، هي أيضًا مسببات لبقاء الكثير من المعنفات “المستقلات ماديًا” في علاقات مضطربة عنيفة.
المضحك المبكي، أن المجتمع نفسه الذي يقصقص أجنحة الفتاة منذ نعومة أظفارها يطالبها بالطيران عندما يهجرها زوجها أو تترمل أو تُطلق؛ فنجد الأرامل وقد وجدن أنفسهن مطالبات بالوقوف على أرجلهن والاعتماد على أنفسهن والسباحة في بحر الحياة المتلاطمة الأمواج بلا خبرة ولا مساعدة.
هناك فارق كبير بين التبعية وبين الحاجة لوجود سند ودعم، كلنا نحتاج دعمًا في الحياة، قد يأتي من أخت أو أخ أو أب أو أم أو صديقة، قد يكون سند الرجل امرأة قوية، وهذا لا يعني تبعية عمياء أو قبولاً بالذل؛ فالعلاقات الصحيحة تبنى على المحبة المتبادلة والشعور بالحاجة المتبادلة للسند أيضًا.
هذه العلاقة المشوهة هي من تدفع الفنانة الثرية للتعلق برجل يؤذيها، هي تشعر أنها فقدت السند من بعده، وهي لم تعتد على الوقوف وحدها بلا حائط، حتى لو كانت هي من تدعم كل “حوائطها ” السابقة والحالية ماديًا، وتتعرض لابتزاز واضح .
ما تعاني منه المرأة العربية اليوم ليس جديدًا على نساء الأرض، لقد مرت المرأة الأوروبية والأمريكية بكل ما نمر به، لكنها ناضلت وأخذت حقوقًا مساوية للرجل شيئا فشيئًا، يعود الفضل للحركات النسوية التي نشطت بعد الحرب العالمية الأولى، والموجات التي امتدت عبر قرن من الزمان وما زالت تعمل لنيل المزيد من الحقوق وصولاً إلى المساواة الكاملة، تبعا لمرجعية واحدة تحظى بإجماع دولي وهي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يرفض كل أشكال التمييز.
في اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، علينا أن نذكر النساء بأن الرجل العنيف عدو يهدم لا سند يحمي، وأن التحرر من التبعية يأتي بالقراءة والاطلاع وطلب المساعدة من المتخصصين وإحاطة النفس بشبكة من الأصدقاء الحقيقيين، ومساندة المرأة في كل مكان والوقوف معها لتغيير القوانين الأبوية الظالمة، بالإضافة للعمل الذي يحررها اقتصاديًا ويعطيها خيارات أوسع من خيارات المجتمع الضيقة.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.