أثار سلمان رشدي بعد إصدار رواية «آيات شيطانية» جدلًا واسعًا في الأوساط الأدبية والسياسية والدينية في أواخر الثمانينيات، حدَّ أن أباح الخميني دمه في فتوى شهيرة، وتوارى عن الأنظار مثل شبح، منتحلًا اسمًا مستعارًا؛ هو «جوزف أنطون»، جمع فيه اسمي كاتبيه المفضلين: جوزف كونراد، وأنطون تشيخوف، كما كتب في سيرته الذاتية. وتحت هذا الاسم، يروي جوانب من حياته السريّة، والكوابيس التي لاحقته في عزلته القسرية بوصف «سلمان رشدي» رجلًا ميتًا. وبعد سنوات من صدور سيرة حياته المحاطة بالرعب، كادت تنال منه سكين متطرف في أغسطس 2022، أثناء إلقائه محاضرة في معهد تشوتاكوا غرب ولاية نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية.
عِداء الرمل للماء، أو الانتقام من الصحراء
في روايته المثيرة للجدل، يقدم سلمان رشدي شخصية «سلمان الفارسي»، بوصفه أحد كتبة الوحي الذين تسرب الشك إلى نفوسهم، حول المصدر الإلهي، لما كان يمليه «ماهوند» من آيات عليه، فيعمد سلمان إلى تغييرها، لتثبت أنه لا وجود لوحي. ويفر هاربًا قبل أن يفتضح سره.
عمد الروائي سلمان رشدي إلى دمج شخصيتين بارزتين في تاريخ الإسلام؛ هما « سلمان الفارسي» ، «وعبد الله بن سعد بن أبي سرح»، ليبنيَ الشخصية الروائية، ينحدر سلمان الفارسي من فارس، وكانت ثقافته عالية بحضارات الشرق القديمة وعقائده وأديانه، وتذهب بعض الروايات المتداولة إلى أنه شارك النبي في كتابة الوحي، أما عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فقد كان من كتبة الوحي؛ فبدأ يحور، ما يتلوه عليه الرسول، ففطن به وأفتى بقتله.
تظهر شخصية عبد الله ابن أبي سرح، أحد أبطال الرواية، وقد رسمها الكاتب كما جاءت عند المؤرخين والمفسرين الإسلاميين. ( عبد الله ابن أبي سرح هو كاتب الوحي الذي كان يغيّر في الكلم، وقد هرب من المدينة إلى مكة وأعلن عن عدم صحة نبوءة محمد، مما دفع محمدًا إلى الدعوة بقتله حتى لو كان متشبثًا بأستار الكعبة )، غير أن الكاتب سلمان رشدي نقل شخصية ابن أبي سرح إلى سلمان الفارسي.
لا أعتقد أن كاتبًا متبحرًا في التأريخ الإسلامي ومراجعه كرشدي يجهل هذا الأمر، ولكن تفسيري الشخصي، هو أن سلمان رشدي أراد أن يعطي للمعارضة صبغة قومية. هذا الأمر نراه بوضوح عند بعض علمانيي الشعوب الإسلامية (غير العربية) حيث إنَّ أغلبهم من القوميين الذين يحمّلون العرب مسؤولية أفول حضاراتهم ( خاصة الفرس ).
هل تقع فعلًا مسؤولية سقوط الحضارة الساسانية على الغزو العربي؟ يرجح المؤرخون إلى أن انهيار الإمبراطورية الساسانية كان بالدرجة الأساس لعوامل الصراع الداخلي، وغياب قيادة فعالة على رأس الدولة في الفترة التي بدأ بها التوسع الإسلامي؛ أي أن أسباب ديمومتها كانت ضعيفة، وأن إمبراطوريتهم كانت تقف على منحدر سفح السقوط، وسقوطها في الهاوية كان يحتاج إلى ركلة خفيفة، وإلا فأن الفارق العددي والتسليح كان يشير إلى تفوق الفرس. فهل يتحمل العرب مسؤولية أسلمة الشعوب غير العربية حتى يومنا الحاضر ؟
الخميني وأسلمة إيران: من يدفع الثمن اليوم؟
بعد صعود الثورة الإسلامية في العام 79م، استمرت ما يقارب ثلاث سنوات التظاهرات في الشوارع الإيرانية، كان المتظاهرون مبتهجين على الرغم من معارضتهم للنظام؛ ظنًّا منهم بأنهم يمارسون فعلًا ديمقراطيًا كانوا قد حُرموا منه في الماضي، أثناء الحكم الشاهنشاهي. وبلغ التفاؤل باليسار الإيراني أن تصور أن «الخميني» يخطط لإقامة نظام علماني؛ خاصة بعد أن أفتى بأن يكون رئيس الدولة غير معمم، وجيء آنذاك بأبى الحسن بن صدر. وحينما كان يشعر البعض بالشك كان الرد جاهزًا بضرور الحفاظ على النظام الجمهوري في مواجهة الإمبريالية (وهو أمر سيتكرر في صنعاء بعد انقلاب الحوثي، النموذج المستورد من إيران). وتدريجيًا تسلل حاملو العصي والسكاكين إلى المظاهرات لإرهاب المتظاهرين وقتل العناصر الفعالة خفية، ومن ثم ارتفعت وتيرة الاغتيالات بسرعة حتى انتهت إلى ظهور الرافعات في شوارع طهران، يتدلى بحبالها شباب بعمر الورد كما روت سيرة مرجان ساترابي.
لم تنحصر تبعات الثورة الإسلامية على إيران وحسب؛ بل امتدت كارثيته بشكل مباشر إلى المنطقة العربية، ومن المفارقات الساخرة أن بعض البلدان العربية في سبعينيات القرن الماضي كانت تسير باتجاه العلمانية (حتى لو كانت علمانية هشة)، والذي أعاد دفّة مسيرها ونكوصها حدثان نعاني من آثارهما الآن، وهما الغزو السوفياتي لأفغانستان، الذي أيقظ الردة عند الأفغان، ومجيء الخميني إلى إيران بمشروع تصدير الثورة.
مع ظهور الألفية الثالثة، كانت قد هيمنت الموجة الأصولية على الحياة الاجتماعية وانتشرت كالسرطان، وإبتداءً من العام ٢٠١١م، تصدرت إيران شرائط الأخبار العربية، وظهرت في معظم أشكال الفوضى، من تحريف مسار ثورات الربيع العربي، وإسقاط العواصم العربية، إلى تدعيم الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة، ليس بالمال والسلاح فقط؛ بل حتى بنماذج التصفيات والاعتقالات والاغتيالات للمعارضة. وقد دفعت بلدان الربيع العربي ثمنًا باهظًا منذ صعود الثورة الإسلامية في إيران إلى اليوم؛ حيث صار سقوط نظام حكم الملالي شرطًا لتحقيق الاستقرار في المنطقة العربية كما هو في إيران.
"مهسا أميني" واحتجاج الإيرانيات: الموت الثقافي للدكتاتور
أثار موت «مهسا أميني» على أيدي شرطة الأخلاق، احتجاجات واسعة للإيرانيات، انفجر فيها غضب النسّاء من تقييد حريتهن لما يزيد عن 40 عامًا؛ ترافقت بكشف خصلات الشعر وإسقاط عمائم رجال الدين، كاستعارة عن سقوط الإسلام السياسي؛ وبمزيج من الغضب والشّجاعة، خلعن حجابهن ولوّحن به وصرخن «الموت للديكتاتور» ، على الطريقة نفسها التي رسخ الخميني حكمه بالرمز، عارضته الثائرات الإيرانيات.
وبالرغم من القمع المتكرر، الذي نال من حياة مهسا أميني واستباح حياة سلمان رشدي؛ كونهما خطرًا ماثلًا على هوية إيران السياسية «الحجاب»، وبنية سلطة الملاوات وهيكلها «الدين»، اليوم، تعلن الإيرانيات موت “النظام الديكتاتوري” ثقافيًا ورمزيًا، كمؤشر لاحتضار «الثورة الإسلامية»؛ فالانهزامات السياسية تسبقها دومًا انهزامات ثقافية ورمزية. وسواء استمرّت الثورة الإيرانية الحالية أم تمكّنت آلة القمع المسلطة عليها من إجهاضها كما فعلت مع سابقاتها؛ فقد نجحت المرأة الإيرانية في هزيمة أدوات السلطة ورموزها، وتمكنت من تحويل رفضها للحجاب إلى رفض أوسع للاستبداد والظلم والاضطهاد والخضوع باسم الدين؛ حيث جعلت من الكشف عن خصلات شعرها رمزًا للحرية ومدخلًا للتحرر.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.