بالتأكيد، نتائج المباريات ليست وحدها ما يجعل مونديال قطر 2022 الأكثر غرابةً في تاريخ كرة القدم؛ فالجدل السياسي والثقافي حول المونديال الذي يتم استضافته للمرة الأولى في دولةٍ عربية هو أكثر ما يجعله مثار جدلٍ واسع في الصحافة الغربية والعالمية، وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي.
المونديال الذي ما إن اقترب تاريخ افتتاح نسخة 2022 منه، حتى أصبح قضيةً سياسية وحقوقية وصلت لخلق أزمات علاقات سياسية دولية بين البلد المستضيف وبعض دول العالم الغربي؛ فمن جدل اعتبار منظومة حقوق الإنسان بنيةً لا تؤخذ منقوصةً، إلى قضيةٍ غير خاضعة للتفاوض والتأثير السياسي، ومعايير مزدوجةٍ أخرى تحولها ورقة لعبٍ ومساومةٍ سياسية فقط.
حملة ممنهجة
“سياسيوهم يضللونهم”، بهذه العبارة رد وزير الخارجية القطري في مقابلة مع مجلة “فرانكفورتر ألمانيا تسايتونغ” مطلع نوفمبر الحالي على تساؤلٍ عن الانتقادات الألمانية لوضع ملف حقوق الإنسان. وزيرة الداخلية الألمانية “نانسي فيزر” كانت قد شككت حول ضمان أمن الأقليات التي ستحضر للتشجيع في المونديال، لتتراجع عن ذلك بعد زيارةٍ لقطر وتحضر المونديال.
وزير الخارجية القطري استغرب الموقف الألماني ووصف التعاطي الإعلامي الغربي مع انطلاق فعاليات المونديال بأنها حملةٌ ممنهجة لتشويه قطر؛ حيث أشار إلى أنه لم يتعرض بلدٌ منذ إعلان فوزه باستضافة المونديال كما حدث مع قطر منذ العام 2010.
استغراب وزير الخارجية من الموقف الألماني، كان بسبب أنه لا توجد ملفات اقتصادية أو متعلقة بالطاقة تتقاطع فيها مصالح البلدين، معتبرًا إياه بالمضلل للشعب الألماني، حيث لا يوجد لديهم مشكل حين يتعلق الأمر بالاستثمار والشراكة في مجال الطاقة، في صورةٍ ضمنية تعني أيضًا اعتبار قطر للمعارضة الغربية ورقة مساومة سياسية اقتصادية من جهة، وأخرى عملية تضليل سياسية للرأي العام الغربي، وليس لعيون حقوق الإنسان.
مؤامرات تشويه الدول المستضيفة للفعاليات الرياضية.. ما أهدافها؟
— قناة الجزيرة (@AJArabic) November 19, 2022
لمشاهدة الحلقة كاملة من #موازين: https://t.co/SKBUmtUnX7 pic.twitter.com/zwRupUgmYA
معايير إعلامية مزدوجة
شبكة البي بي سي البريطانية، توقفت عن نقل حفل افتتاح كأس العالم اعتراضًا على ملف انتهاكات حقوق الإنسان الخاص بالعمال الأجانب في قطر، هو موقفٌ قد يبدو معبرًا من حيث الثبات على سلوك الدفاع عن حقوق الإنسان يمكن أن يذكر بحقوق العمال الأجانب وظروف عملهم في قطر وبلدان آخرى، لكن على ما يبدو أيضًا بأنها تجاهلت هذه الحقوق على أرضها.
في العام الماضي، كانت الصين تستضيف الأولمبياد الشتوية بسجل حقوق إنسان سيء وأوضاع حرياتٍ أسوأ، لكن القناة لم تعترض برفض نقل حفل الافتتاح في الصين كطريقة للاعتراض على أوضاع حقوق الإنسان في الصين، ازدواجية معايير في الاعتراض.
الإعلام الغربي ومواقف منتخباته أيضًا لم تقف عند سجل حقوق الإنسان للمستضيف الروسي للمونديال في نسخة عام 2018، على الرغم من التصفيات التي تخوضها آلة الحرب الروسية على الأراضي السورية بالتزامن مع المونديال وطوال سنين سبقته. في حقيقة الأمر، لم تكن حقوق الإنسان السوري تستحق الاعتراض بقدر أن يدافع إعلاميو البي بي سي عن استضافة روسيا للمونديال.
معلومات مضللة
على وسائل التواصل الاجتماعي، من إسبانيا لبريطانيا، وأخيرًا لتحط رحالها في العالم العربي، مقاطع فيديو تصور مشجعاتٍ يخلعن ملابسهن، كاندفاعٍ حماسي أو ربما اعتراضٍ على التحفظات التي وضعتها دولة قطر في المونديال على أراضيها.
لكن مربط الفرس حيث تقف مزاعم المعاقبة والترحيل المدعاة على وسائل التواصل الاجتماعي لمشجعةٍ دفعها حماسها لنزع حمالة صدرها، أو قررت الاعتراض والتعبير عن رأيها بهذه الطريقة. في الحقيقة، المقاطع كانت مضللة. مقاطع الفيديو وفق محققي معلومات ولحسابات سابقة قامت بنشرها أيضًا تعود لتواريخ قديمة تتجاوز سنين.
المعلومات المضللة لم تقف عند خلع حمالات الصدر، وإنما على الجانب المعاكس أيضًا، حيث حولت المونديال لساحة تبشيرٍ دينية يستدعى فيها دعاة دين إسلاميون للمونديال، ليتداول نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي استضافة قطر للداعية الإسلامي ذاكر نايك لإعطاء محاضراتٍ دينية في فترة المونديال.
مدير مكتب قناة الجزيرة في الأردن، حسن الشوبكي، أوضح في منشورٍ على حائطه في فيسبوك بأن الدوحة تستضيف الداعية ذاكر نايك لإعطاء محاضراتٍ دينية، في حين لم يصدر تصريحٌ رسمي من السلطات القطرية والهيئة المنظمة للمونديال حول استضافة الداعية الإسلامي. صحيفة “إنديا توداي” تتبعت مزاعم استضافة الداعية الديني الملاحق قضائيًا والمدان بتهم غسيل أموال والتحريض على الكراهية في الهند، وقالت بأن قطر واللجنة المنظمة للمونديال دحضت للسلطات الهندية مزاعم استضافة الداعية، وقالت إن حضوره لم يكن بدعوة رسمية.
للعمال حقوق ما دمنا لا ندفع من جيوبنا
يعتاد المشجعون شراء أزياء لاعبي منتخابتهم التي يشجعونها، وتعد رافدًا ماليًا كبيرًا للاتحادات الرياضية والمنتخبات، المنتخب الإنجليزي على سبيل المثال يبيع فنلاته الخاصة بزي المنتخب في مونديال قطر بمبلغ 115 جنيهٍ استرليني للفانلة الواحدة. في المحصلة، الأرباح ستكون خيالية، لكنها أموالٌ ملوثةٌ بعرق العمال ودمهم.
صيحفة “Miror” البريطانية في تغطيةٍ صحفيةٍ لها مع انطلاق مباريات كأس العالم، كشفت عن أن فانلات لاعبي المنتخب الإنجليزي التي تباع للمشجعين بـ 115 جنيهًا استرلينيًا، يصنعها عمال تايلنديون لا تتعدى أجورهم الجنيه الواحد في اليوم، صورةٌ آخرى قد لا تلقى اعتراضًا على سجل حقوق الإنسان في أرباح اتحاد الكرة الإنجليزي.
الفيفا والغرب
مطلع نوفمبر، قامت الفيفا بتوجيه رسالةٍ للمنتخبات المشاركة في مونديال قطر، داعيةً إياها للابتعاد عن الجدالات السياسية؛ حيث طلبت منهم وفق نص الرسالة التركيز على كرة القدم. وقال فيها رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم بأنه لا توجد موانع من حضور مختلف المشجعين: ” الجميع مرحب بهم بغض النظر عن الأصل أو الخلفية أو الدين أو الجنس أو التوجه الجنسي أو الجنسية”.
قطر كانت قد فرضت قيودًا تتعلق حول الاحتجاج وإبراز شعارات مجتمع الميم في المونديال، في حين أكّد المسؤولون القطريون أن المنع يقتصر فقط على إظهار الميول الجنسية في الفضاء العام، وأن الميول الجنسية لن تكون سببًا لمنع أحد من دخول قطر والمشاركة في المونديال.
رئيس الفيفا، جياني إنفاتينو، كان قد تلقى انتقاداتٍ حول موقفه وتصريحاته في مؤتمر صحفي قبيل انطلاق المونديال بأربعٍ وعشرين ساعة، وصف الحملة تجاه قطر بالعنصرية وأكّد دعمه لحقوق العمال ومجتمع الميم واحترام قيم البلد المستضيف الذي كان قد منع بيع المشروبات الكحولية في مدرجات الملاعب أثناء المباريات، فيما كان تعليق إنفاتينو على الأمر: “لن تموتوا إذا لم تشربوا الجعة لثلاث ساعات”.
أين تكمن المشكلة؟
الكاتب والناشط العماني، علوي مشهور، علق على جدل المونديال بين حقوق الإنسان والقيم التقليدية للشعوب بقوله: “الهروب للأمام ليس حلًا، ولا الرضوخ للضغوطات الغربية، وإنما على الحكومات أن تقترب من شعوبها وتُشركهم في تقرير مصيرهم، وتزيد من مساحة الحقوق والحريات بقناعة منها، وبعد حوار وطني مفتوح مع المواطنين، وحينها سنكون محصنين من الداخل، ولن يكون هنالك مجال للتدخلات والضغوط الخارجية”.
"نعم، الغرب لديه ازدواجية معايير، ويحاول فرض قيمه وتوجهاته على العالم، وقد يستغل حقوق الإنسان لابتزاز الدول الأخرى ونهب ثرواتها، ولكن كل هذا لا يلغي حقيقة أن دولنا تعاني من الاستبداد والفساد، وتراجع الحقوق والحريات. علينا الاعتراف بمشاكلنا ومواجهتها بجدية، بدلًا من لعب دور الضحية!".
علوي مشهور - كاتب عماني Tweet
وتبقى حقوق الإنسان قضية غير قابلة للمساومة السياسية، لكن التعامل الانتفاعي معها وفق مسافة هذه الحقوق من مصالح مدافعيها هو موقف لا يقل سوءً عن موقف منتهكها؛ فهي هنا تنزل من رتبتها كمبدأ إنساني أساسي إلى حالة رفاه يمكن غض الطرف عنها بمقابل يستحق.